"تحركت ضدي ثلاث شكايات بشكل سريع جداً، بسبب مقال صحافي سرد وقائع معززةً بأدلة بشأن شبهات فساد تعلقت ببعثة الإرشاد في موسم الحج العام الماضي، وصدر بتاريخ 8 تموز/ يوليو 2022، وعدد من التدوينات التي نشرتها على صفحتي الرسمية التي أستغلّها بصفتي الصحافية، وكانت تنتقد السلوك الوظيفي للوزير وسياسات الوزارة التي يقودها، كما أفعل مع كل المسؤولين والفاعلين في الشأن السياسي وفي الشأن العام، منذ ما قبل الثورة".
هكذا تحدثت الصحافية التونسية في جريدة الصباح منية العرفاوي، عن الضغط الذي يمارسه وزير الشؤون الدينية التونسي ضدها، بسبب عملها الصحافي الذي كشف تجاوزات داخل وزارته، وانتقاد أدائه في تدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي.
استندت الوزارة في ذلك إلى المرسوم عدد 54، الذي أثار منذ صدوره في الـ13 من أيلول/ سبتمبر 2022، مخاوف الصحافيين في تونس الذين رأوا فيه وسيلةً للسلطة للتضييق عليهم والحد من حريتهم.
والمرسوم عدد 54 لسنة 2022، يتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، وقد تضمن 38 فصلاً موزعةً على خمسة أبواب، تنص على تسليط عقوبات سجنية مشددة على مرتكبي ممارسات مصنفة حسب المرسوم على أنها جرائم، مثل إنتاج وترويج الشائعات والأخبار الزائفة، ونشر وثائق مفبركة أو مزورة، وعرض بيانات ذات محتوى إباحي تستهدف الأطفال.
نص الفصل الأول منه على أنه "يهدف إلى ضبط الأحكام الرامية إلى التوقّي من الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال وزجرها، وتلك المتعلقة بجمع الأدلة الإلكترونية الخاصة بها، ودعم المجهود الدولي في المجال، في إطار الاتفاقيات الدولية والإقليمية والثنائية المصادق عليها من قبل الجمهورية التونسية".
قضت محكمة الاستئناف في تونس العاصمة، الثلاثاء 16 أيار/ مايو الماضي، بتشديد الحكم الصادر بحق الصحافي التونسي خليفة القاسمي، من السجن سنة واحدة إلى السجن 5 سنوات
ونص المرسوم على جملة من العقوبات التي يتم فرضها، وتشمل غرامات ماليةً وعقوبات سجنيةً تتراوح من شهر إلى 6 أعوام. إذ نص المرسوم في فصله الـ24، على أن "يعاقب بالسجن مدة خمسة أعوام وبخطية (غرامة) قدرها خمسون ألف دينار كل من يتعمّد استعمال شبكات وأنظمة معلومات واتصال لإنتاج، أو ترويج، أو نشر، أو إرسال، أو إعداد أخبار أو بيانات أو شائعات كاذبة أو وثائق مصطنعة أو مزورة أو منسوبة كذباً إلى الغير، بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني أو بث الرعب بين السكان".
ورحلة الصحافية منية العرفاوي، مع شكوى وزير الشؤون الدينية، لم تتوقف، فهي اليوم في حالة سراح لكنها ما تزال تنتظر إحالة هذه الشكايات الثلاث على المحكمة، وما ستؤول إليه الأمور، سواء حُفظت الدعوة أو حُدّد موعد جلسة البت في أصل الشكاية. ولم ينتهِ الأمر عند هذا الحد فقبل أن تتمكن العرفاوي من معرفة مآل هذه الشكايات، فوجئت بالشخص ذاته يرفع ضدها شكايةً رابعةً لا تعرف بعد سببها، لا سيما أن موعد التحقيق معها لم يحدَّد بعد.
يبدو وفق رواية الصحافية، أن الوزير التونسي مصرّ على استعمال سلطته للضغط عليها وعقابها على عملها الصحافي الذي كشف النقاب عن جملة من المخالفات داخل وزارته، لم تكترث لها أي سلطة إشراف أو جهة رقابة ولم يُفتح أي تحقيق يُذكر بخصوصها برغم أهميتها وخطورتها.
مضايقة رسمية
تصف منية العرفاوي، ما يحدث معها بأنه "نوع من الهرسلة (المضايقة) الرسمية التي تمارسها ضدي السلطة القائمة كصحافية من خلال وزير الشؤون الدينية بهدف ترهيبي وإجباري على الصمت وإخراسي بطريقة مقنّعة ومنعي من ممارسة مهنتي بشكل طبيعي بما يكفله المرسوم 115 المنظم لمهنة الصحافة والنشر. فمثولي للمرة الثالثة على التوالي، وفي ظرف ثلاثة أسابيع متتالية، ومن أجل مبررات واهية وتلفيق اتهامات لشخصي من قبيل التمعّش (الاسترزاق)، من منظمة أممية ونشر أفكار غريبة ومتطرفة بين الأئمة، وتكوين وفاق مع زميل قام بدوره في كشف ملف تلاعب تورطت فيه الوزارة، أثر بشكل مباشر على حياتي المهنية والاجتماعية، ووضعني تحت ضغط نفسي كبير أثّر على أدائي المهني وبت أشعر طوال الوقت بأني مهددة بالتوقيف".
العرفاوي لسيت الصحافية الوحيدة التي تعيش اليوم على وقع المتابعات القضائية على خلفية عملها الصحافي، فتونس تشهد منذ أشهر محاكمات عشوائيةً ضد الصحافيين بسبب آرائهم وإنتاجاتهم المهنية، وقد طالت حتى الآن أكثر من 17 صحافياً. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، قضت محكمة الاستئناف في تونس العاصمة، الثلاثاء 16 أيار/ مايو الماضي، بتشديد الحكم الصادر بحق الصحافي التونسي خليفة القاسمي، من السجن سنة واحدة إلى السجن 5 سنوات، "لنشره معلومات أمنيةً"، وهي أشد عقوبة في تاريخ الصحافة التونسية، إذ كانت أقصى عقوبة سجنية ضد الصحافي الفاهم بوكدوس، في كانون الأول/ ديسمبر 2008، لدى تغطيته انتفاضة الحوض المنجمي، وتم تخفيفها إلى أربع سنوات في 2010.
تراجعات كبيرة
وكانت محكمة ابتدائية قد حكمت العام الماضي على الصحافي في إذاعة "موزاييك إف إم" الخاصة بالسجن عاماً، على خلفية نشره خبراً استقاه من مصدر أمني رسمي عن تفكيك خلية إرهابية في محافظة القيروان، وقد رفض الصحافي الكشف عن مصادره لقوات الأمن، وهو ما عدّته السلطات القضائية جريمة تعمد إفشاء معلومات، وفقاً لقانون مكافحة الإرهاب. علماً أن المرسوم عدد 115 لسنة 2011، المؤرخ في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، والمتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر في فصله 11 ينص على أن تكون مصادر الصحافي عند قيامه بمهامه، ومصادر كل الأشخاص الذين يساهمون في إعداد المادة الإعلامية، محميةً، ولا يمكن الاعتداء على سرية هذه المصادر سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة، إلا إذا كان ذلك مبرَّراً بدافع ملح من دوافع أمن الدولة أو الدفاع الوطني وخاضعاً لرقابة القضاء. ولكن السلطة ترفض العودة إلى هذا القانون المنظم لعمل الصحافيين، وتعتمد فصولاً وقوانين أخرى حتى تجد مداخل وتعلّات لإدانة الصحافيين.
كما تم استدعاء الصحافي محمد بوغلاب، من قبل شرطة العدلية في القرجاني في الـ12 من نيسان/ أبريل الماضي، للتحقيق بسبب شكاية تقدّم بها وزير الشؤون الدينية أيضاً على خلفية تصريحات إعلامية تحدث فيها عن استغلال مصالح وزارة الشؤون الدينية لسيارة كانت محجوزةً لدى الجمارك التونسية وما زالت محل نزاع قانوني. وكانت هذه الشكاية بناءً على الفصل 24 من المرسوم عدد 54، بحيث تم اتهام بوغلاب بنشر أخبار مزيفة، زيادةً على اتهامه بالتعرض لممارسة الشعائر الدينية وتعريض حياة وزير الشؤون الدينية للخطر، وبنسبة أمور غير قانونية إلى موظف عمومي، إلى جانب اتهامه بتكوين وفاق إجرامي مع الصحافية منية العرفاوي والتنسيق من أجل التشهير بوزير الشؤون الدينية مع الإبقاء عليهما في حالة سراح، في انتظار التحقيق معه في قضية أخرى لا يعلم تفاصيلها بعد.
وتلقّى الصحافي في "راديو ماد" أمين الضبايبي، استدعاءً للتحقيق معه في شكوى تقدّم بها ضدّه أيضاً وزير الشؤون الدينية.
تعتمد السلطة اليوم على ترسانة قوانين "متخلفة جداً"، يتم بمقتضاها تنفيذ القمع وتكريس الانغلاق والمحاكمات، على غرار المرسوم 54
وتم التحقيق مع الصحافيَين في إذاعة "موزاييك الخاصة"، إلياس الغربي وهيثم المكي، في قضية رفعتها ضدهما نقابة أمنية على خلفية محتوى صحافي تناول طريقة الانتداب غير الموفقة في بعض الأحيان في السلك الأمني، ما يتسبب في بعض الأحيان في تسرب عناصر ينقصها التكوين وغير مؤهلة لحمل السلاح.
وتعليقاً على هذا الوضع، قال نقيب الصحافيين التونسيين محمد ياسين الجلاصي، إن "ماكينة القمع انطلقت وشملت الجميع". هناك عدد كبير من الصحافيين والمدوّنين والناشطين المدنيين والسياسيين اليوم تحت الرقابة اللّصيقة التي تمارسها السلطة عليهم، وكثيرون أصبحوا يخشون التعبير عن مواقفهم لأن أعين الرقابة ترافقهم حتى في منازلهم".
وأضاف أن "17 صحافياً يحاكَمون اليوم في تونس، بسبب أدائهم عملهم والتعبير عن آرائهم، كما أن الصحافيين يتعرضون لمحاكمات سياسية، بتعليمات مباشرة وواضحة من السلطة ممثلةً في وزيرة العدل، وهو ما ينقل صورةً سيئةً جداً عن المشهد الإعلامي في تونس بعد 2011، إذ أصبحت المحاكمات والمنع من العمل والتعتيم ومنع النفاذ إلى المعلومة، الخبز اليومي للصحافيين".
كما أشار إلى أن السلطة تعتمد اليوم على ترسانة قوانين "متخلفة جداً"، يتم بمقتضاها تنفيذ القمع وتكريس الانغلاق والمحاكمات، على غرار المرسوم 54 الذي جاء للتضييق على الحريات ومحاكمة الآراء، إذ لم تتم محاكمة أي شخص بمقتضى هذا المرسوم سوى أناس عبّروا عن آرائهم من صحافيين ومدنيين ومحامين، والمرسوم عدد 19 الذي يمنع النفاذ إلى المعلومة.
ولا تتوقف الانتهاكات ضد الصحافيين التونسيين عند المحاكمات العشوائية، بل تشمل الاعتداءات الصادرة في مجملها من جهات رسمية حسب تقرير وحدة رصد الانتهاكات في نقابة الصحافيين التونسيين.
تضييق على العمل الصحفي
وتروي الصحافية سوار عمايدية، قصة الاعتداء العنيف الذي تعرضت له لدى تغطيتها نشاط قافلة صحية قائلةً: "لأن القافلة تقدمّ العديد من الاختصاصات، وكان هناك ازدحام كبير من المواطنين، وهذا طبيعي لعدم توفرها في المستشفى، حاولت المرور والتوجه إلى حيث يتواجد الأطباء. في الأثناء كان يتواجد ابني المتطوع في الهلال الأحمر. رأيت رجالاً ونساءً يتم دفعهم/ ن خلال الازدحام. حاولت أن أخفف من عملية دفعهم بلطف لأفاجأ بسيدة تدفع الناس بقوة. التفتّ إليها وطلبت منها أن تتوقف عن الدفع والانتباه إلى وجود كبار في السن أمامها لا يحتملون ذلك. لم أكد أنهي كلماتي حتى قامت السيدة بدفعي وضربي على مستوى كتفي قائلةً: نعم أدفعك. حين التفتّ إليها انتبهت إلى أنها أمنية (بوليس)، فبادرتها قائلةً: كان يجدر بك أن تقومي بتنظيم الحاضرين لا أن تأتي بهذا التصرف. حينها دفعتني بقوة وضربتني قائلةً: امضي أمامي. أخبرتها بأنني صحافية بصدد القيام بمهامي لكنها لم تبالِ وهددتني بأخذي إلى مركز الشرطة وتوقيفي. حينها تدخل ابني، وطلب أن تتركني فاستنجدت بأحد الأمنيين الذي بادر مباشرةً إلى أمري بإغلاق فمي وشاركها في تعنيفي وابني أيضاً".
وأدى العنف الذي سلّطه الأمنيان على الصحافية سوار عمايدية، إلى نقلها إلى قسم الطوارئ في المستشفى لتلقي العلاج بعد تعرضها لوعكة صحية.
تراجعت تونس 21 مرتبةً في التصنيف العالمي لحرية الصحافة لسنة 2022، إذ تقهقرت من المرتبة 73 إلى الـ94 عالمياً من أصل 180 دولةً
وحسب منسقة وحدة رصد الانتهاكات في نقابة الصحافيين التونسيين خولة شبح، فقد بلغ عدد حالات الاعتداءات على الصحافيين 257 اعتداءً، منها 162 اعتداءً على علاقة بالحق في الحصول على المعلومة، مقسمة على 49 حالة حجب معلومة، و3 حالات احتجاز تعسفي، و68 منعاً من العمل، و42 مضايقةً، و90 في المئة من هذه الحالات تقع المسؤولية فيها على أطراف رسمية.
وكشف التقرير السنوي الذي نشرته منظمة "مراسلون بلا حدود" في الثالث من أيار/ مايو الماضي، تزامناً مع الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة، عن تراجع تونس 21 مرتبةً في التصنيف العالمي لحرية الصحافة لسنة 2022، إذ تقهقرت من المرتبة 73 إلى الـ94 عالمياً من أصل 180 دولةً.
يُذكر أن تونس كانت تحتل المرتبة 72، خلال الـ2019 والـ2020، في التصنيف العالمي لحرية الصحافة، والمرتبة 96 سنة 2016، والمرتبة 126 سنة 2015، و133 سنة 2014، و138 سنة 2013.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...