مضى أكثر من عام على تولّي محمد شياع السوداني رئاسة وزراء العراق. وعوده بالقضاء على الفساد الذي ينخر المؤسسات العراقية، ويحول دون تطور البلاد، لا أثر لها على أرض الواقع حتى اللحظة؛ فالملف شائك أكثر مما تصوّر السوداني يوم أطلق وعوده.
وعد السوداني، في برنامجه الحكومي، بالقضاء على الفساد في البلاد، ولكن علامات هذا الوعد لا تزال في كهف مظلم بعيداً عن الضوء، فأبعاد القضية لم تتناولها بعد الدولة، وآفة الفساد أو "جائحته" كما يُحب السوداني أن يسمّيها، مرتبطة بأحزاب تحكم الدولة بحسب مصالحها، وهو ما يُعكر صفو أي محاولة لإنهاء هذه الظاهرة، ويُدخل مبادراتها في حلقة مفرغة من المحاولات لتبقى بلا نتائج.
أين مكافحة الفساد المالي؟
الاقتصاد الوطني في مقدمة ضحايا الفساد. جاء السوداني بوعود لمعالجة الأزمة، ونص البند السابع من برنامجه الحكومي على دعم اللجان والهيئات الرقابية وتفعيلها، ومراجعة العقود المالية الكبرى، واستعادة الأموال المهرّبة.
باشرت الحكومة في تدعيم هذا البرنامج، واعتمدت على القانون رقم 7 لعام 2019، الخاص باسترداد أموال الدولة، والتعاون مع الحكومات والشرطة الدولية من أجل ذلك، وأكدت استعادة بعض أموالها، دون تحديد مجموع ما استردّته.
فحتى اليوم، وبرغم مرور أكثر من عام على تطبيق هذه الأساليب، لم يُعلَن عن أي إحصائية تحدد قيمة المبالغ المُستردّة، وهو ما يدفع الباحث في شؤون الفساد، سعد مخيلف الجابري، إلى وضع جميع التصريحات المتعلقة بهذا الخصوص في خانة التصريحات الإعلامية المجوّفة، إذ يؤكد أن الحكومة لم تسترجع سوى 2% أو أقل، من مجمل المبالغ المسروقة، منذ عام 2003، وأن تعاون الحكومة مع الشرطة الدولية وغيرها، لم يسفر عن أي نتائج ملموسة، خاصةً أن الحكومة تتعمد تقديم تفاصيل ناقصة بخصوص المتهمين أو المطلوبين، لعرقلة اعتقالهم دولياً.
ويضيف الجابري لرصيف22، أن السوداني طالب باسترجاع أموال النظام السابق المحجوزة في الخارج، وطبّق وعوده على صغار السارقين، بينما تغاضى عن مطالبة شركائه السياسيين بإعادة ما سرقوه خلال تولّيهم بعض المناصب، ومنها رئاسة الوزراء.
آفة الفساد أو "جائحته" كما يُحب السوداني أن يسمّيها، مرتبطة بأحزاب تحكم الدولة بحسب مصالحها، وهو ما يُعكر صفو أي محاولة لإنهاء هذه الظاهرة، ويُدخل مبادراتها في حلقة مفرغة من المحاولات لتبقى بلا نتائج
وتُقدَّر قيمة المبالغ المستردّة بأقل من 300 مليار دولار، منها 182 ملياراً أعادها نور زهير وآخرون من قضية "سرقة القرن" (سرقة الأمانات الضريبية).
هذا التغاضي ساعد في وضع العراق في المرتبة السابعة عربياً، و157 عالمياً، على قائمة الدول الأكثر فساداً في مؤشر مدركات الفساد، برغم كونه عضواً في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.
من جانب آخر، تجاهلت الحكومة أبسط حقوق المواطنين، ورغبتهم في الخدمات المستحقة، ولم يشهد أي من القطاعات الخدمية تحسّناً فعلياً، ولا تزال الكثير من المناطق غير مخدومة بالكامل.
الفارق الوحيد أن السوداني رفع من نسبة المستحقين لرواتب الرعاية الاجتماعية المخصصة للعاطلين عن العمل ولبعض العاملين، وتوزيع قطع أراضٍ كثيرة، بشكل غير مدروس، ما فاقم الأزمة المالية وأتاح استغلال هذين الأمرَين في فساد جديد، واستلام الرشاوى لتسهيل الحصول على هاتين الميزتين.
القضاء... فاسد أم عادل؟
يلعب القضاء العراقي، دوراً بارزاً في استفحال الفساد، ويتهمه كثيرون بتسهيل سرقة المال العام، وهو يدرك تماماً التهم الموجهة إليه، ويلجأ إلى تبيان منجزاته ضمن أسلوبه في تبريرها.
ومثالاً على ذلك، أكد الممثل عن مجلس القضاء الأعلى، القاضي إياد محسن ضمد، خلال احتفال أقامته بعثة الاتحاد الأوروبي بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الفساد، أن "المجلس حرص على تعزيز كافة الجهود المبذولة في مكافحة الفساد المالي والإداري، عبر تشكيل المحاكم المختصة، مثل محكمة جنايات مكافحة الفساد المركزية، أو من خلال الكشف عن المتورطين في سرقة المال العام". وأدت جهوده إلى إصدار دليل عن التعاون الدولي في مجال استرداد أموال الفساد، وآخر لإدارة الأموال المصادرة، بالإضافة إلى دليل التحقيق في الجرائم المالية، لمساعدة العمل القضائي في هذا الشأن.
ولا تختلف هيئة النزاهة عن القضاء في هذا الشأن، وتحاول دوماً تبرير تقصيرها عبر تبيان منجزات معيّنة من دون إثبات صحتها، وتضمّن منجزها لعام 2022، استلامها 30 ألف إخبارية عن الفساد، وضبط 1،692 حالةً، بالإضافة إلى رفع 23 ألف قضية إلى المحاكم العراقية، واستقدام 8 آلاف متهم بقضايا فساد مختلفة، والقبض على 3،015 متهماً منهم، ولم يُدَن من هذه الأعداد كلها سوى 898 شخصاً فقط.
أُدرجت جميع هذه التصريحات في خانة المبالغات الإعلامية، فالطرفان كما هو معلوم شعبياً، معروفان بمبالغتهما من أجل إثارة تعاطف الرأي العام، أو العكس: تحريضه وتعبئته سياسياً.
وبحسب مصدر قضائي رفض الإفصاح عن اسمه، فإن بيانات مجلس القضاء لا تخرج إلى العلن إلا بعد تدقيقها من قبل الأحزاب الحاكمة، نظراً إلى خضوع القضاء والنزاهة لمبدأ المحاصصة الحزبية، وقدرة الأحزاب المنخرطة في هيكلته على التدخل في قراراته كافة. ولكن يتعذر فتحها أو دراستها منذ سنوات طويلة بسبب التدخل الحاصل.
وتالياً، يؤكد المصدر القضائي في حديثه إلى رصيف22، أن جميع العمليات المعلن عنها في كشف الفساد، لا تمس سوى صغار السارقين، دون كبارهم ورؤوس عملياتهم، ولا يتم الكشف عن ملفات فساد الشخصيات الكبرى، إلا لإخضاعها سياسياً أو لانتفاء الحاجة إليها، وهذه من البديهيات التي تحكم عمل الدولة بأسرها.
يلعب القضاء العراقي، دوراً بارزاً في استفحال الفساد، ويتهمه كثيرون بتسهيل سرقة المال العام، وهو يدرك تماماً التهم الموجهة إليه، ويلجأ إلى تبيان منجزاته ضمن أسلوبه في تبريرها
ويُقدَّر عدد هذه الملفات بأكثر من 500 ملف فساد، بحسب المصدر، وتشمل قضايا هدر مالي وسرقات كبرى، تُقدَّر بمليارات الدولارات، مثل ملفات سرقة أملاك المسيحيين في بغداد ونينوى، وملفات سرقة الأموال من خزينة الدولة، والبنك المركزي، واختلاس الأموال في داخل الوزارات، كما تضمّ مجموعةً من ملفات الخيانة العظمى، مثل ملف انسحاب الجيش من محافظة الموصل والمناطق الغربية، وسقوطها بيد تنظيم الدولة الإرهابي، بأمر من القائد العام للقوات المسلحة وقتها، نوري المالكي.
أما اعتماد القضاء في حماية الحريات، فيشوبه الكثير من الشكوك. مثالاً على ذلك، رفع السوداني دعوى قضائيةً في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ضد المحلل السياسي محمد نعناع، اتهمه فيها بالقذف والتشهير، بعد نعته السوداني بالفاشل، خلال أحد لقاءاته التلفزيونية، وقضت المحكمة فوراً بحبس نعناع مع وقف التنفيذ وإلزامه بدفع غرامة مالية، ولكنه يتجاهل تصريحات بعض المحللين المقربين من الدولة، وإعلانهم شنّ هجمات مسلحة أو تهديد بعض المعارضين علناً.
الأجهزة الأمنية
يُعدّ الفساد الأمني والعسكري من أهم ما يعكّر صفو الواقع اليوم، فالقوات الأمنية عاجزة عن التصرف أمام نفوذ الأحزاب والجماعات المسلحة المرتبطة بها.
شنّ السوداني حملة تغييرات كبيرةً داخل مفاصل هاتين المؤسستين، خلال السنة الماضية، طالت قادةً بارزين، مثل إنهاء تكليف وكيل رئيس جهاز المخابرات لشؤون العمليات، ماجد علي حسين، وتكليف وقّاص محمد الحديثي بدلاً منه، واستبعاد الوكيل الأمني لجهاز الأمن الوطني، رشيد فليح الشطري، ووضع أحمد سلمان داود بدلاً منه في منصبه، بالإضافة إلى تكليف عبد الكريم عبد فاضل "أبو علي البصري"، برئاسة جهاز الأمن الوطني.
شملت التغييرات نقل أكثر من 700 ضابط، و30 ألف جندي من مواقعهم في وزارات الداخلية والدفاع والأمن الوطني والاستخبارات إلى مواقع خارجية، بالإضافة إلى طرد وإقالة نحو 900 شخصية من مناصب مدنية أخرى. استبشر كثرٌ خيراً بهذا التصرف، إلا أن السوداني سرعان ما استبدلهم بآخرين من الإطار التنسيقي والجماعات المرتبطة به.
المحلل الأمني علي عبد الإله، يؤكد أن السوداني خالف عبر هذه التبديلات وعوده بالقضاء على المظاهر المسلحة وحصر السلاح في يد الدولة، ويستدرك أن السوداني ربما توقّع أن تبديلاته ستحدّ من نفوذ بعض الجماعات ووضعها تحت يده كونه القائد العام للقوات المسلحة، ولكنها حققت نتائج عكسيةً، فهي لا تزال ترفض تنفيذ أي أوامر حكومية، وقد منحتها المناصب الحالية منفذاً لاستمرار عملها تحت مظلة الزيّ العسكري.
ويؤكد عبد الإله في تصريحه لرصيف22، أن هذه الجماعات أصبحت تعيق أي محاولة قادمة للقضاء على الفساد، فهي قادرة على تحريك نفوذها المسلح، بأفراد وعناصر تابعين للحكومة، ضد الحكومة نفسها في حال إبداء أي حركة ضدها أو الكشف عن فسادها.
وبذلك انتقلت الجماعات المسلحة من الدولة العميقة وإدارة الدولة من خلف الكواليس، الى الدولة العلنية، وأصبحت تسيطر على المفاصل الأمنية المهمة والثانوية كافة.
لم ينقطع حبل وعود السوداني بالقضاء على الفساد، منذ تسلّمه منصبه. وفي الحقيقة فإن السوداني ليس الوحيد في ذلك، ولا يُعدّ ظاهرةً جديدةً، إذ سبقه إلى هذه الوعود رؤساء الحكومات السابقين كلهم
حكومة الظل
لم ينقطع حبل وعود السوداني بالقضاء على الفساد، منذ تسلّمه منصبه. وفي الحقيقة فإن السوداني ليس الوحيد في ذلك، ولا يُعدّ ظاهرةً جديدةً، إذ سبقه إلى هذه الوعود رؤساء الحكومات السابقين كلهم.
ولكن السوداني يختلف عنهم، في كونه مكبّلاً بضرورة التوافق الحزبي داخل الإطار التنسيقي، نظراً إلى تسلّمه المنصب على إثر انسداد سياسي لأكثر من عام كامل، وقد مهّد الإطار التنسيقي لصعوده برغم المعارضة الكبيرة له، وهو بذلك في حاجة إلى غطائه البرلماني والسياسي.
قد تُبدي بعض تحركات السوداني، رغبته في القضاء على الفساد، ولكنه يُدرك العقبة الموضوعة أمامه، وحتمية مواجهة حلفائه السياسيين، أو دخوله في مواجهة مباشرة معهم، لذلك تبدو تحركاته الفعلية في هذا الصدد خجولةً جداً.
وكما يحتاج السوداني إلى أحزاب الإطار التنسيقي، فالأخيرة بحاجة إليه، ولذلك تسايره في بعض طموحاته مثل المساس بفاسدين صغار مقربين منهم، للحفاظ على ماء وجههم كتحالف سياسي حاكم، بالإضافة إلى أنها تسعى إلى تضخيم حجم الأموال المستعادة وعمليات ضبط الفساد، لكسب الرأي العام، خوفاً من مواجهة ارتدادات قد تهدد وجودها على غرار انتفاضة تشرين في عام 2019، التي اجتاحت معظم المدن العراقية، ضد الفساد والهيمنة الحزبية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.