شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
منع أغنية روبي الجديدة... ليس أوّل إنجاز للرقابة في مصر

منع أغنية روبي الجديدة... ليس أوّل إنجاز للرقابة في مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحريات الشخصية

الخميس 18 يناير 202411:07 ص

 ما إن طرحت المغنية المصرية روبي أغنيتها الجديدة "3 ساعات متواصلة" على موقعها الرسمي، حتى صارت حديث البلد، وقد كان من المقرّر أن  تطرح هذه الأغنية بالأساس في العاشر من أكتوبر، لكنها تأجّلت بسبب الأحداث في غزة. حيث اتهمها الجمهور بـ "خدش الحياء العام!" وأن أغنيتها الجديدة تحتوي على إيحاءات جنسية: "أول ساعة هروقك، تاني ساعة هشوقك، ثالت ساعة هدوقك أزاى قلبى بيعشقك"، ولما كثرت الأقاويل عن هذه الأغنية، قرّر نقيب الموسيقيين عقد اجتماع لمناقشة الأمر!

لم تكن تلك المرة الأولى التي تصبح فيها روبي وأغنيتها حديث البلد، رغم أن الجميع، بمن فيهم المعترضون، يسمعون ويشاهدون ويعيدون مشاهدة أغانيها، خاصة المُعترض عليها! فعندما عُرضت أغنية "أنت عارف ليه"، اعترضت الجماهير حينها على سير روبي في الشارع وهي مرتدية بدلة رقص شرقي. مرّ على صدور هذه الأغنية 20 عاماً، ربما لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي بهذا الانتشار والانفجار، ورغم ذلك كان الجميع يشاهد الأغنية على الفضائيات، ويسمعها في السيارات والمواصلات والشوارع والأفراح، وحققت نسب مشاهدة واستماع شبيهه بما حققته أغنية "3 ساعات" الحالية، لكن بمقاييس عشرين سنة مضت.

بعدها أغنية "ليه بيداري" أو أغنية "العجلة"، ورغم ما أحدثته من ردّ فعل هجومي، إلا أن حسن أبو السعود، نقيب الموسيقين حينها، وافق على انضمام روبي لنقابة المهن الموسيقية، الأمر الذي اعترض عليه المحامي نبيه الوحش برفع دعوى ضد أبو السعود 2004، وفي 2007 رفع اسم روبي من النقابة كعضوة، وسُجّلت كمؤدية فقط.

اتهمها الجمهور بـ "خدش الحياء العام!" وأن أغنيتها الجديدة تحتوي على إيحاءات جنسية: "أول ساعة هروقك، تاني ساعة هشوقك، ثالت ساعة هدوقك أزاى قلبى بيعشقك"

المونولوج الذي خلق الرقابة

بما إن الإنتاج الفكري والفني يمثل سلطة موازية، ربما أقوى من السلطتين السياسية والدينية، كان لابد وأن يحاول القائمون على هاتين السلطتين إضعاف سلطة الفن، كان لابد، لكل درب من دروب الفن، غناء ومسرحاً وسينما، مرّة أولى يُمنع فيها بعض من إنتاجه، فكما كانت أول مسرحية ممنوعة هى مسرحية "الضرة" ليعقوب صنوع، وأول فيلم عربي ممنوع كان فيلم "لاشين"، كذلك كانت أولى الأغنيات الممنوعة، منولوج "الشيخ جونسون"، وهذا المونولوج هو الذى تسبّب في ميلاد الرقابة على الأغاني، بحسب ما جاء في مقال في مجلة الكواكب 1952.

وبدأت حكاية الرقابة مع هذه الأغنية، عندما غنى المونولوجست المصري سيد سليمان، مونولوجه "الشيخ جونسون" في إحدى المسرحيات، وكان يقصد به محاربة معاكسات الرجال للسيدات في الشارع، لكن أسيء فهم مقصد الرجل، بسبب كلمات المونولوج، وبسبب الزي الأزهري أيضاً، الجُبة التي كان يرتديها فوق القميص والبنطلون. 

بداية التصنيف الرقابي

بالتأكيد يجب سوق المبررات المختلفة لهذا المنع، لكن هذه المبرّرات أختلفت على مدى التاريخ باختلاف الأحوال العامة، وتغيّرت ما بين منع لأسباب سياسية، ومنع لأسباب دينية، وأخيراً منع لأسباب مجتمعية يفرضها الناس بعضهم على بعض، وفي المثال آنف الذكر "الشيخ جونسون"، لم يكن بداية ميلاد الرقابة على الأغاني فحسب بل كان بداية الرقابة "الدينية" التي فتحت باباً لم يغلق حتى الآن، خاصة مع تفشّي الفكر الوهابي والإخواني، ولنا في الشيخ كشك والمطربين المصريين، خاصة أم كلثوم، مثال.

وحدث ذلك بعدما سمع رجال من الأزهر، وبعدها حضروا العرض، ورأوا الزي الذى يرتديه سيد سليمان، لينطلقوا بعدها في الصحف بمقالات نارية تهاجم المونولوج وصاحبه لارتدائه زياً أزهرياً، وكانوا يظنون أنه يعاكس السيدة في المسرحية، أي "أزهري متحرّش!"، ولم يكفوا عن مهاجمته إلا بعدما استجابت لهم وزارة الداخلية ومنعت سيد سليمان من غناء المونولوج مرة أخرى.  

بالتأكيد هناك أغنيات ممنوعة لأسباب سياسية كأغنية "بياع كلام"، التي منعتها السلطة المصرية من الإذاعة ظنّاً أنها تشير إلى جمال عبد الناصر، وأيضاً أغنيتها "من سحر عيونك" التي كانت تتغزل بها صباح بعيون عبد الناصر، (لا اعرف ما سبب منع التغزّل هذا!) وكذلك أغنية "خلّي السلاح صاحي" لعبد الحليم، والتي، والعهدة على الملحن حلمي بكر، حرصت إسرائيل على منع إذاعتها لما بها من تحريض على استئناف الحرب.

لكن، ورغم أن كل الرقابة شر محض، إلا أن أكثر الرقابة شراً هو الرقابة المستشرية مؤخراً، مجتمعياً، من رقابة الناس على بعضهم البعض، ومحاولة فرض الجميع أخلاقهم وأفكارهم على الجميع، في محاولة لإثبات أن الرقيب أفضل أخلاقاً من المُراقَب. وكلما كانت الرقابة هجومية، وكلما زادت ضراوة الهجوم، يشعر المراقب أنه أكثر احتراماً. الجميع يمارس التسلط الأبوي على الجميع: "أنا أعدّل سلوكك لأني أفضل منك"... "لا تشاهد هذا الفيلم لاحتوائه على مشاهد إباحية"... "لا تسمع تلك الأغنيات الهابطة التي لا تتناسب مع الأخلاق الحميدة". 

المنع طريقة للانتشار

من غباء المراقبين ومحدودية تفكيرهم، الآن ونحن نعيش عصر الانفجار الإعلامي ووسائل الاتصال، أن يمنعوا إذاعة أي عمل في الوسائل الرسمية، كالتليفزيون مثلاً، في حين أنه بمنتهى البساطة هناك إمكانية لمشاهدة نفس العمل بضغطة زر. بل العكس يحدث، فهناك العديد من صناع الأعمال، سواء كانوا مطربين، ممثلين أو حتى كتاب يحاولون بطريقة ما استفزاز الرقيب ليُلمّح فقط لمنع العمل، ليحصل صانعه على أفضل طريقة للإعلان عن عمله وانتشاره.

فإن منعت كتاباً مثلاً سيسعى الجميع لقراءته، وحدث هذا مرات لا تحصى، مثلاً رواية "وليمة لأعشاب البحر". أذكر أن بعض الناس، ممن لم يقرأوا بحياتهم مجلة، بعد منع الرواية كانوا يبحثون عنها. وحتى في سياق الأغاني الممنوعة التي نتحدث فيه، فمن شهور قليلة فقط دارت أزمة "أغاني المهرجانات" والتي منعها الرقيب ومنع مغنيها من الانضمام للنقابة، إلا أن أغاني المهرجانات، في الواقع وليس في مكاتب المسؤولين عن الرقابة، تحيط بنا من كل جانب، حتى من لا يفهم الكلمات يسمع تلك الأغنيات الممنوعة، في كل مكان، الأفراح، المواصلات، كل المناسبات تقريباً، وقس على ذلك بقية الممنوعات.

إذا كانت كل تلك الأغنيات مُنعت أو استُهجنت فقط بالتأويل، التأويل الذي يستطيع به أي إنسان تحميل أي معنى لأي كلمات يسمعها، فما رد فعل الرقيب والجمهور "المحافظ" إذا سمع كلمات الأغنيات التراثية التي كانت ولا تزال تُغنى في الأفراح حتى اليوم؟

ما الذي تغيّر؟

إذا كانت كل تلك الأغنيات مُنعت أو استُهجنت فقط بالتأويل، التأويل الذي يستطيع به أي إنسان تحميل أي معنى لأي كلمات يسمعها، فما رد فعل الرقيب والجمهور "المحافظ" إذا سمع كلمات الأغنيات التراثية التي كانت ولا تزال تُغنى في الأفراح حتى اليوم؟ اعتقد أن هؤلاء سيخترعون حداً عقابياً خاصاً بهذه الأغنيات ومغنييها.

من المعروف أن لكل بلد شكلاً محلياً من الأغنيات المتجذرة في تراثها لا تُمحي، هذه الأغنيات تعبر عن ثقافة وحياة أهلها، تماما كما الأغاني التراثية المنتشرة مثلاً في صعيد مصر والمعروف بالتشدّد الأخلاقي إلى حد ما، ورغم ذلك هناك فصل كامل من تاريخ هذه المنطقة العريقة في مصر اسمه الغناء التراثي، الغناء الذي كان ولا يزال يُغني بقوة وبحضور كامل في الأفراح، خاصة تلك الأغنيات التي تغني في الجلسات النسائية المغلقة في "ليلة الحناء".

كل الأغاني في هذا النوع من الغناء التراثي تنضح بالإيحاءات بل بالألفاظ الصريحة الجنسية التي تتردّد وبلا خجل في مجتمع محافظ كما صعيد مصر، وكان ولا يزال الغرض منها تعليمياً، فالناس هناك أدرى بالصدمة التي يمكن أن تتعرّض لها الفتاة تحديداً إن دخلت إلى عالم الزواج دون تهيئة وتمهيد لما هى ذاهبة إليه، فتغنى لها هذه الأغنيات للتعليم، كما أغنية "من متى وأنت غايب... ده الرمان استوى"، وأغنية "عرباوي كان عيان وصفوله البرتكان"، في إشارة الى اكتئاب ومرض من تأخر زواجه، وأغنية "أدى السرير من تعبه بيدعى ع النجارين" وأغنية "معرفش ادق الكسبره إلا بقميص المسخرة"، وغيرها من الأغنيات التي ألفت من المخيلة الشعبية وضُفرت في السياق الاجتماعي والتاريخي، دون انفصام ودون أن يتهم أحد أحداً "بقلة الأدب" أو الإخلال بالاخلاق العامة، فما بين الأغنيات التي تُمنع بالتأويل وبين الأغنيات المنطلقة بالتصريح، فما الذي تغيّر؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image