عندما قرأت رواية "كل الطرق تؤدي إلى الجلجثة "لجيروم كلابكا جيروم، وجدت أن حال البطلة "جون" في الصغر، تماماً كحالي في نفس المرحلة العمرية، فكلانا لم نسمع عن الله إلا من رجال دين لم يبلغونا عنه سوى أنه سيعذبنا في الدنيا إن لم نطعه، وسيلقينا في نار جهنم في الآخرة، وأن كل ما نحبه في الحياة حرام، ولذا كانت لدى كلتانا في الصغر نظرة إلى الله على أنه شرير، ما خلق البشر إلا ليعذّبهم في الدنيا بإجبارهم على كل ما يكرهون، وفي الآخرة بحرقهم في النار، وعلى هذا النحو يُخرّب رجال الدين العلاقة بين العباد وربهم.
طوال حياتي وأنا أصرخ بجملة: "أنا أكره الشيوخ". قديماً كنت أسرّها لنفسي، الآن أقولها علانية في كل وقت وحين، وها هي أسبابي:
سنوات الدراسة
بدأت رحلة كراهيتى للشيوخ من المدرسة الإبتدائية، عندما كان أحدهم يعلّمنا، لا بل يصرّ على أن نحفظ: "أننا ما نؤدي الأعمال الصالحة إلا وصولاً للجنة في الآخرة"، ولمّا لم أكن مقتنعة، رغم أني حينها لم أكن أمتلك من الحصيلة اللغوية ما أعبّر به عن عدم اقتناعي، إلا جملة: "بس إحنا كده هنبقى منافقين"، وهي الجملة التي أجبت بها المعلّم الشيخ لما طرح عليّ السؤال، لينهال بعدها على يدي بـ "10 عصايات".
في المرحلة الإعدادية وبعدها الثانوية، تفاقم الوضع عندما درست مادة الفقه الإسلامي، وكان حينها يُدّرس بمسائل سادت حياة الناس منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام خلت، وبمعلمين لم يطبع على وجوههم إلا التجهّم. في الحقيقة، لم نكن نفهم حتى ربع الألفاظ التي ندرس بها تلك المسائل أصلاً، حتى جاء الوقت لدراسة فصل المواريث، وعندها كان، ولا يزال، يحبطني ويثير غيظي مسألة وراثة "البنت نص الولد".
سألت المعلمة وقتها، وكانت هي الأخرى شيخة ترتدي الخمار ولا تترك السبحة من يدها ولا النميمة على الآخرين، و لم تقلّ تشدّداً وتجهّماً عن معلم الابتدائية. سألتها عن الحكمة التي تجعل الله يقسم هذه القسمة "الضيزى، غير العادلة"، وكانت إجابتها، بعد الكثير من الاستغفار والتعوّذ بالله من قولي: "لأن الرجل هو من يتحمّل مسؤولية المرأة في شؤون الحياة المادية، حيث إنه من يجهّز البيت ويقوم بأمور الصرف، لذا فهو الأحق بالنصيب الأكبر".
كنت وأختي الكبرى، ضحية تحريض الشيوخ لأبي، ولكثير من الآباء، على بناتهن. يذهب الأب يوماً إلى الصلاة في أحد المساجد، ويجلس بعدها يستمع إلى الدرس الديني، يعود إلى البيت بقرار أن بناته سيرتدين الحجاب حتى دون موافقتهن، فهن هكذا عاصيات مذنبات
فلما واجهتها بأن كثيرات يقمن بهذا الدور وأكثر، يصرفن على الرجل والأولاد والوالدين إن وجدا، لم تردّ إلا بـ "احفظيها زي ما هي مكتوبة"، وفي آخر اليوم أرسلتني لمكتب المدير "شيخ المعهد"، وقد اجتمع لديه بقية الشيوخ، وجلسوا يستجوبونني: "مَن الذى قال لكِ هذه الأفكار؟ هل أبوك وأمك يصليان؟ هل تقرؤون القرآن في البيت؟". طوال نصف ساعة لم أكن أعرف ماذا فعلت ليجتمع مجلس التكفير هذا ليحاسبني. في النهاية أمروني بالاستغفار وعدم معادوة التفكير هكذا مرة أخرى، فأمور الدين مقدّسة، تطاع دون نقاش.
الهوس الديني
لفترة طويلة كنت وأختي الكبرى، ضحية تحريض الشيوخ لأبي، ولكثير من الآباء، على بناتهن. يذهب الأب يوماً إلى الصلاة في أحد المساجد، ويجلس بعدها يستمع إلى الدرس الديني، يعود إلى البيت بقرار أن بناته سيرتدين الحجاب حتى دون موافقتهن، فهن هكذا عاصيات مذنبات. وقد ذكر الشيخ الأحاديث الطوال في الدرس عن الرجل الديّوث الذي يترك بناته دون حجاب.
لم يكد الأب (المفترض أنه متعلم) يطوي صفحة "الشيخ قال، الشيخ حرّم"، حتى ظهر شيخ جديد، لكن هذه المرة يقول للأخ الكبير، والذى كان في فترة المراهقة: "كيف تسمحون لأخواتكم بارتداء البنطلون، أو يذهبن إلى الجامعات المختلطة"، ومرة أخرى الكثير من الأحاديث عن لعنة النساء اللاتي يتشبهن بالرجال والرجال اللاتي يتشبهن بالنساء، ولفترة طويلة تشاجرنا وتنازعنا على كل ما يحشو به الشيخ رأس الأخ الكبير من أفكار لا علاقة لها "إلا بالبنات"، وهو ما زرع الخلاف بيننا كأخوة لوقت طويل.
حتى الخال، الذى بتّ أكره زياراته بعدما كنت أنتظرها، لأني أعرف أنه بعدما يغادر سوف نتشاجر مع أمي وتصرخ في وجوهنا بأوامر غريبة. ذلك الخال الذى كان يترك شعره طويلاً، ويرتدي البنطلون الغريب، شديد الاتساع من سيقانه ومحبوك الوسط، والقميص الملون الضيق، وفجأة، بعدما تعرّف على أحد المشايخ، أطلق اللحية، ارتدى الجلباب الأبيض القصير وقصّ شعره، ولم يفوّت مرة زارنا فيها إلا وحرّض أمي، بتكشيرة غاضبة دوماً، لمنعنا من ارتداء الملابس التي تغضب الله، وحتى يحرّضها أكثر، أقنعها أن الله سيعاقبها هي وليس نحن، لأنها الراعي المسؤول عن رعيته. لكن الغريب أني لم أسمعه حتى مرة واحدة ينصحها أو ينصحنا بالصلاة مثلاً!
فترة بطلها "الشيخ قال حرام"
ومرّة ثالثة، وبينما لم يكد دور الأب والأخ ينتهي بفرض كل ما يأمر به الشيوخ "على البنات فقط"، حتى جاء دور الأم. لم يمض زمن طويل على تلك الصور التي كانت فيها أمي ترتدي الفساتين القصيرة وتخرج من دون حجاب، وفجأة، بعدما أشرق العصر الذهبي لما يسمّى "شيوخ الفضائيات"، وتوسّعت دائرة المشايخ ممن لم يكتفوا بدروس المساجد "رجالي وحريمي"، اقتحموا علينا البيوت، وصارت القنوات الفضائية الدينية، بما يُبَثّ فيها من غريب الأفكار، عرضاً مستمر للترهيب الديني.
"قناة الناس، قناة تأخذك إلى الجنة"... كم كرهت هذه القناة ومن فيها، خاصة في ثوبها القديم، قبل أن يحكم الأزهر إلى حد ما، ما يبثّ فيها. "قناة الناس" هذه كانت من أقوى تلك القنوات وأوسعها انتشاراً، القناة التي كانت تغيّر جلدها بحسب الهوي السياسي في الدولة، فلما انطلقت القناة في 2006، أواخر عهد مبارك، كانت تجامل الحاكم وشلّته، وتتغنى بنغمة "تحريم الخروج على الحاكم"، لكن بعدما انفرد الأخوان بالحكم، انفجرت حقيقتها المتطرّفة، لكنها لم تأت إلا على أدمغتنا نحن، أقصد البنات.
استطاع أولئك المتنطعون، القائمون عليها السيطرة على عقول الكثيرين، ومن ضمنهم أمي التي لم تكُفّ عن ترديد جملة: "الشيخ على قناة الناس قال حرام!".
بابتسامات سمجة، وأصوات تصدح منها "النحنحة" من متنطعين، كـ "محمد حسان، ومحمد حسين يعقوب (بتاع أختااااااه)، وأبو إسحاق الحوينى، وحازم صلاح أبوإسماعيل" استطاعوا بثّ أفكار التحريم لكل شيء و"حرّموا علينا العيشة".
"حرّموا الضحك بصوت عال، والهدوم دي اللى أنتوا لابسنها": تقول أمي. كانوا يحرّضون الأمهات في حلقات كثيرة. أغلب الحلقات مخصّصة لتحريم الملابس: "ازاي الأم تسمح لبنتها تخرج بالبنطلون المحزق، وأين غِيرة الأب والأخ، كل هذه النوائب التي تلُم بنا من ملابس النساء، لن ينصلح حال الأمة إلا إذا تحجبت النساء!".
استطاع أولئك المتنطعون، القائمون على "قناة الناس" السيطرة على عقول الكثيرين، ومن ضمنهم أمي التي لم تكُفّ عن ترديد جملة: "الشيخ على قناة الناس قال حرام!"
أذكر صوت هذا الرجل وهو يقول تلك الكلمات ويتصنّع البكاء، وبعدها ذكر، كما الضربات المزدوجة، الحديث الذى يفيد بأن النساء سيكنّ أغلب أهل النار، وأيضاً أذكر كيف أقنع الكثيرات، ومنهن أمي، أن معنى قوامة الرجال على النساء أن يُضربن ولا يعترضن، ألا يرفعن أصواتهن في وجود أزواجهن أو الأخوة الذكور وكأنهن في سجن، وظلت لوقت طويل تحاول إقناعي بتلك الأفكار، لأن "الشيخ قال كده". ولا تزال أمي تحرّم مشاهد "البوس" في الأفلام والمسلسلات، "لأن الشيخ قال كده"، ولا تزال تستغفر الله عندما تجد سيدة ترتدي فستاناً مكشوفاً، وتقول هذا حرام "لآن الشيخ قال كده".
أكرههم لتلوّنهم كالحرباء
تلوّن رجال الدين، بحسب الزمان والمكان، كالحرباء من أكثر الأسباب التي تدفعني لكرههم، فبعد ما عفي الزمن على شيوخ الفضائيات في أزيائهم وأشكالهم التقليدية، لحاهم الكثة، جلابيبهم القصيرة ولغة وعظ الجاهلية، وجدوا بأن المصلحة تقتضي اجتذاب أعمار أصغر، ربما لأنهم الشريحة المُستهلكة لكل ما يبيعونه من أفكار متطرفة، وعليه، كان الأمر يقتضي ظهور نسخة جديدة لـ "الشيخ، بائع الدين"، فبدأت تظهر أشكال جديدة: الشيخ العصري، بلحية قصيرة جداً وبنطلون جينز، يتكلم الإنجليزية ويعقد ندواته في الجامعة الأمريكية. وفي النهاية النتيجة واحدة: أحد أقربائك كان بالأمس يعزف الموسيقى، اليوم بات يُحرّمها، وصديقة لم يسبق أن قرأت جريدة يومية حتى، تقول: "إن النقاب فضيلة كما علّمني شيخي"، والأم التي كانت تفخر بأخلاق الناس زمان حتى مع الملابس القصيرة، وتتغنّى "بجمال الزمن القديم"، أضحت تقول: "لم نكن نعرف الدين، المشايخ فتّحوا عنينا ع الدين".
أفسدوا علينا الدين والدنيا
فترة حكم الإخوان المسلمين لمصر أكثر الفترات التي كرهت فيها الشيوخ، بالتأكيد كما الأغلبية حينها في مصر، فبعد فيضان الفتاوى الشاذة المتطرّفة، التي كانت تنهمر علينا كل يوم من "كل مين هب ودب"، والخوف الذى انتاب الجميع، خاصة الفتيات، من مجرّد السير في الشارع، وزيادة نسبة الإلحاد في تلك الفترة، بحسب تقارير رسمية من دار الافتاء المصرية. تحيّرت حينها، ربما عاتبت الله ولا زلت أعاتبه: إذا كان هؤلاء على خطأ وأنت لست شريراً كما يبلغون عنك، فلم أنت صامت هكذا؟ ولو كنت صامتاً لحكمة ما، فماذا ذنبنا نحن في هذا التيه، فنحن الآن لا نعرف من فينا على صواب ومن على خطأ؟ وإن كان أولئك هم ممثلو دينك، ونحن نبغضهم ونبغض ما جاءوا به، فهل كُتب علينا العذاب بهم في الدنيا لرفضنا ما جاؤوا به، والإلقاء في جهنم في الآخرة لأننا لم نجد من يهدينا إلى سبيلك الصحيح؟
في تلك الفترة كانت لدي قناعة أننا خسرنا الدنيا والآخرة!
رأيت الشيخ يحرّض الناس ليل نهار على الزهد واستبدال الدنيا بالآخرة: "ربنا أصابك بالفقر عشان شايلك في الجنة كتير"، وهو يتقاضى نظير "جلسة النصح" هذه آلاف الدولارات، ويعيش بقصر ويتنقل بسيارة أشبه بالطائرة
أذكر كيف صار الجميع دعاة إسلاميين في تلك الفترة، كمثل سائق التاكسي الذى ظل يعظني بسبب ملابسي والمكياج طوال الوقت التي استغرقته للوصول لوجهتي، ولمّا وجدني صامتة، "والله وحده يعلم ما كان يدور برأسي وأنا أسمع"، ظن أني اقتنعت وهنّأ نفسه بأنه سيدخل "فيا الجنة بعد ماهداني إلى الطريق المستقيم"، ولما أنهى "وصلة الرغي"، سألته عن مؤهله الدراسي الذى خوّله الحديث في هذا الموضوع العويص، قال إنه دبلوم تجارة، لكنه تعلّم من شيوخ هم أعظم من الأساتذة الجامعين، وعندما قلت له أن تعليمي ديني بالأساس، ولم أسمع في حياتي أياً من الأحاديث التي يقول إنها نبوية، قال إن هذا التعليم ومؤسسته الرسمية حتى، باطل، فلا حق إلا لدي شيوخه. لا أعرف إن كان هذا المقال يسمح بذكر سبابي له على ما قال حينها.
النفاق كأسلوب حياة
ربما من أكثر الأسباب التي جعلتني أكره كل من يطلق عليهم لقب "شيخ"، معاملتهم لنا على أننا بضائع يتاجرون بها، ووسيلتهم إلى ذلك "النفاق"، فعلى مدى السنين، رأيت الشيخ يحرّض الناس ليل نهار على الزهد واستبدال الدنيا بالآخرة: "ربنا أصابك بالفقر عشان شايلك في الجنة كتير"، وهو يتقاضى نظير "جلسة النصح" هذه آلاف الدولارات، ويعيش بقصر ويتنقل بسيارة أشبه بالطائرة.
ينصح الشباب غير القادر على الزواج بأن يعفّ نفسه بالصوم، "فإنه له وجاء، وربنا شايلك عنده الحور العين في الجنة. سبعين حورية لكل واحد، يعودون أبكاراً بعد كل معاشرة"، وهو متزوج من أربع نساء، وربما يكون لديه ملك يمين. يحرضون الأخوة والآباء على بناتهن بالحجاب وبتزويجهن مبكراً، وحرمانهن من التعليم والعمل منعاً للاختلاط الذى يؤدي إلى المهالك، وفي الوقت عينه لا يجرؤون على تحريض أو نصح "للي مشغلينهم" الأثرياء، الذين يقبلون أيادي زوجاتهم غير المحجبات ممن يرتدين الفساتين العارية.
كان النفاق هذا، سيّد الموقف، وربما سيستمرّ طويلاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...