في مطلع عهد الوحدة السورية (أواخر خمسينيات القرن الماضي)، أعلن عبد الحميد السراج، مدير المكتب الثاني قبل تعيينه وزيراً للداخلية، عن مساعٍ سعودية لاغتيال الرئيس المصري جمال عبد الناصر في دمشق. قال السراج إن السعودية تواصلت معه لهذه المهمة، وإنه تظاهر بالتعاون لكشفها، وقدّم لعبد الناصر شيكات بمبالغ رُصدت لهذه المهمة، صادرة عن البنك العربي تم نشرها في الصحف السورية.
أمين عام الرئاسة السورية في ذلك الحين، عبد الله الخاني، الذي توفي نهاية العام 2020، أكد للمؤلف أن المؤامرة كانت "من نسج خيال السراج ولا صحة لها بالمطلق"، ولكنها استُخدمت كذريعة من المصريين للنيل من سمعة الملك سعود بن عبد العزيز، ولضرب البنك العربي في سوريا، الذي طاله قرار التأميم الصادر عن دولة الوحدة سنة 1961.
لم يشفع للبنك تاريخه الطويل في تمويل الحركات الوطنية في سوريا والعالم العربي، ولا موقفه الصارم من الصهيونية، الذي يظهر بوضوح في كتاب "العصامي" لمؤسس البنك عبد الحميد شومان، وفي كتابي "عبد الناصر والتأميم" الصادر في بيروت سنة 2019.
دخل البنك العربي إلى سوريا عام 1943، وكان مؤسسه من بلدة بيت حنينا القريبة من القدس، هاجر إلى الولايات المتحدة مع من هاجر من الشباب العربي في عام 1911، ثم عاد إلى فلسطين بعد قرابة عشرين سنةً
دخل البنك العربي إلى سوريا عام 1943، وكان مؤسسه من بلدة بيت حنينا القريبة من القدس، هاجر إلى الولايات المتحدة مع من هاجر من الشباب العربي في عام 1911، ثم عاد إلى فلسطين بعد قرابة عشرين سنةً، بتشجيع من الزعيم السوري عبد الرحمن الشهبندر، الذي التقى به خلال إحدى زياراته لمدينة نيويورك، وأقنعه بالعودة إلى الوطن.
أسس شومان أول فرع للبنك العربي في القدس، في تموز/يوليو 1930، وتوسع إلى يافا وحيفا ونابلس ورام الله، قبل الانتقال إلى بيروت ثم دمشق. تعاون في المراحل الأولى مع السياسي الدمشقي حسن الحكيم، الذي أصبح رئيساً للوزراء في سوريا عام 1941، وعيّنه مديراً لفرع البنك العربي في القدس.
افتُتح أول فرع للبنك العربي في ساحة الحريقة في دمشق، وعُيّن الوجيه الشاب ملك العظمة، مديراً له. كان العظمة لم يتجاوز الرابعة والثلاثين من العمر وقتها، وعمل في بنك مصر ووصل إلى منصب معاون مدير، قبل الانتقال إلى البنك العربي، ليصبح بعدها رئيس مجلس إدارة مصرف سوريا ولبنان.
بعد دمشق، توجه شومان إلى حلب وبدأ العمل على افتتاح فرعٍ جديدٍ لمصرفه في عاصمة الشمال السوري. أشرف على الاكتتاب بنفسه، وجال على قلعة حلب، ثم دخل إلى الأسواق القديمة لمقابلة المودعين. في أحد الأزقة المجاورة للمصرف، رأى تاجراً حلبياً بطربوشه الأحمر وقنبازه المقصّب يغلق خزنته الحديدية داخل متجره، فتقدّم منه وعرّف بنفسه قائلاً: "صباح الخير، أنا عبد الحميد شومان".
-أهلاً وسهلاً.
-هل سمعت عنّي؟
-أنت صاحب البنك العربي؟
-لا، أنا رئيس مجلس إدارته، البنك العربي شركة مساهمة محدودة، وليس لدينا أكثر من أربعمئة سهم. هل سمعت عن افتتاح البنك العربي في حلب؟
-نعم.
-وهل فتحت حساباً فيه؟
أجاب التاجر بحذر: "نحن لا نتعامل مع البنوك!".
-أنت تتعامل مع هذه الخزنة الحديدية فحسب؟
أجابه التاجر: "نعم". فردّ شومان مبتسماً: "هذا منتهى التخلّف. البنوك تقدّم لك كل الخدمات، فهي تحفظ لك مالك من الضياع، وتعطيك عليه ربحاً، وتستثمر هذا المال في الأغراض الاقتصادية، وعندما تحتاج إلى مال لتوسيع تجارتك تستطيع أن تأخذ ذلك من البنوك".
-"أنا أعرف ماذا تقدّم البنوك وأُفضّل أن أُبقي مالي تحت تصرفي".
-في البنك العربي يكون مالك تحت تصرفك. نحن المؤسسة الوحيدة التي دفعت للمودعين جميع ودائعهم عند الطلب خلال الأزمة أول الحرب. نحن مؤسسة عربية وطنية هدفها خدمة الاقتصاد العربي، ومالك الذي في هذا الصندوق الحديدي لا يخدم الاقتصاد العربي. هو مال مجمّد.
ثم أكمل شومان مداخلته، وقال: "والله العظيم، هذه الخزنة عدوّ لك ولأبنائك. ماذا لو جاء لص وحملها؟".
-"وكيف يكون ذلك؟".
-ألم يحضرها إلى هنا حمّال واحد؟ إذاً، باستطاعة لص واحد أن يحملها إلى مكان آمن ويفتحها ويأخذ ما فيها. عندها، هل ستكون مسروراً؟
- "ولكن هذا البلد فيه أمان".
-أنت مثل التجار أيام تركيا، تخبّئ الأموال تحت الفراش وفي الكنبة وبين أكياس الرز. يا عمي، الدنيا تطوّرت. لقد وُجدت البنوك حتى يتيسر للناس أن يتوسعوا ويتطوروا. في هذه الخزنة مئة ألف، وعندما يصبح عندك عشرة أضعافها، أين ستخبّئ المال؟ افتح هذه الخزنة، افتح.
افتُتح أول فرع للبنك العربي في ساحة الحريقة في دمشق، وعُيّن الوجيه الشاب ملك العظمة، مديراً له.
كان شومان يتكلم بثقة بالغة وإيمان مطلق بمشروعه، وكانت عيناه تلمعان من شدة الحماسة. تقدّم من الخزنة وألحّ على صاحبها أن يفتحها، ففعل. أطلّ شومان برأسه إلى داخل الخزنة وصاح بصوت مرتفع فيه دعابة: "يا لطيف! لو دخل فأر إلى هذه الخزنة، لأكل لك كل هذه الأوراق المالية".
هنا طلب كيساً من الورق، فقدَّمه التاجر على مضض، وصار شومان يعبّئ رزَم الأوراق ويمازح التاجر قائلاً: "ما شاء الله، ما شاء الله!". ثم أخرج صرّةً من القماش، فسقطت من يده على الأرض وخرجت منها الجنيهات الذهبية وتبعثرت في كل مكان. "وتكنز الذهب أيضاً؟ لا حول ولا قوة إلا بالله. يا عمي، هذا مكانه البنك العربي!".
بعد لملمة النقود، نظر إلى التاجر وخاطبه بمزيج من الأوامر والرجاء: "أغلق الخزنة واتبعني!". فتبعه التاجر، وهو يرجو من جيرانه أن يبقوا أعينهم على باب المحل. وصل الرجلان، ومعهما نجل شومان وسائقه إلى المصرف الجديد، وسلّموا النقود والسندات لأمين الصندوق. أشرف شومان على فتح الحساب بنفسه وتأمينه بدفتر الشيكات، وتوصية مدير المصرف الذي خرج لاستقباله: "دير بالك على أحسن عميل للبنك العربي في حلب!".
عبد الحميد شومان والمساهمون اليهود
أشرف شومان بنفسه على اكتتاب الأسهم في حلب، التي لاقت رواجاً حسناً بين الناس، ووصلت ودائع الفرع الجديد إلى مليونَي ليرة سورية عند التأسيس. عند مراجعة أسماء المساهمين، لاحظ شومان أن عدداً كبيراً منهم كانوا من يهود حلب، فرفض التعامل معهم، وأمر أن تعاد أموالهم إليهم على الفور. جاءه رئيس غرفة تجارة حلب محمد سعيد الزعيم، مستغرباً هذا التصرف، ومستوضحاً: "لقد سمعت أنك أعدت نقود بعض المكتتبين؟".
- ممن سمعت؟
- من موظف في بنك حمصي.
- هل قال لك إنهم من اليهود؟
- ذكر لي ذلك، ولكن...
- نعم أعدت إليهم أموالهم. أنا أريده بنكاً عربياً، ولا أريد أن يساهموا فيه.
- اليهود ذوو أهمية في هذا البلد، وهم أصحاب رؤوس أموال طائلة، ولهم خبرات كثيرة في مجال الأعمال.
رفع شومان يده معلناً علامة الرفض، وأصرّ قائلاً: "ولو. لا أريدهم أن يساهموا في البنك العربي".
-ولكنهم مساهمون في كل شركة في حلب تقريباً.
-ليكن في حلب شركة واحدة لم يساهموا فيها.
في اليوم التالي جاء وفد من تجار حلب للتوسط لدى شومان، مشيرين إلى أن المستثمرين اليهود هم عرب يتكلمون اللغة العربية ويعيشون بين العرب، وأنهم "كلهم وطنيون قاوموا الاستعمار مع الحركة الوطنية".
-وقضية فلسطين، ما دورهم فيها؟
فوجئ الجميع بهذا السؤال، وكان جواب أحد الحاضرين: "معظم يهود حلب لا يتدخلون في السياسة".
-أريد أن أفهم، هل هم وطنيون قاوموا الاستعمار ودعموا الحركة الوطنية، واشتغلوا في السياسة، أم أنهم لا يتدخلون في السياسة؟ أرجوكم اتفقوا على رأي واحد".
ثم نظر إلى الجميع بغضب، وأضاف: "يا إخوان، هل تعرفون عن فلسطين وما تنوي الصهيونية العالمية أن تصنعه بها؟".
- أوَتظننا نجهل ذلك؟
-إن الموضوع الذي أتيتم من أجله دليل واضح على أنكم تجهلون بالفعل مطامع الصهيونية في فلسطين. بالله عليكم، كفّوا عن هذا الكلام، لا يمكن أن أوافق، ولو دفعوا ثمن السهم مئة ألف جنيه.
قال مؤسس البنك العربي لرئيس غرفة تجارة حلب: "في البنك العربي يكون مالك تحت تصرفك. نحن المؤسسة الوحيدة التي دفعت للمودعين جميع ودائعهم عند الطلب خلال الأزمة أول الحرب. نحن مؤسسة عربية وطنية هدفها خدمة الاقتصاد العربي"
لم يرفض عبد الحميد شومان أموالاً يهوديةً من أوروبا وأمريكا فحسب، بل أيضاً من داخل سوريا نفسها، خوفاً من أن يكون لها أي ارتباط بالحركة الصهيونية، ولم يكن هذا التصرف تماشياً مع أي قانون أو عرف.
جواز سفر سوري
دخل شومان في اكتئاب شديد إثر احتلال فلسطين وقيام دولة إسرائيل عام 1948. يومها أُلغيت جوازات سفر الفلسطينيين العرب وتوزعوا على دول الجوار، وهم ينتظرون العودة إلى ديارهم، التي كان من المفترض أن تكون على الأبواب، بحسب ما أعلنته معظم الإذاعات العربية. التقى شومان برئيس الجمهورية شكري القوتلي، في مقر جامعة الدول العربية في القاهرة، ودار حديث حول اللاجئين الفلسطينيين وسوء أوضاعهم النفسية والمعيشية في مخيمات اللجوء. عند سؤاله عن وضعه الشخصي، أجاب شومان: "لعلّي آخذ وثيقة السفر المصرية الخاصة بالفلسطينيين".
طوّقه الرئيس القوتلي بعطف وعلّق بالقول: "ولماذا؟ أقترحُ عليك أن تقبل جوازَ سفر سورياً". تأثر شومان بهذه اللفتة الكريمة من الرئيس السوري، وردّ قائلاً: "كنتُ في أمريكا أول الأمر عثمانياً، ثم بعد الحرب العالمية الأولى عرفنا هويتنا الحقيقية، فكنت أقول عن نفسي إنني سوري. لعن الله سايكس بيكو؛ قسموا العرب قسمين. يوم فُصل لبنان عن سوريا جُنّ جنوني، وكنتُ أتجنب لقاء أي عربي هناك خشية أن يقول لي: "أنا لبناني"، فأضربه! ثم صرنا نسمع هذا سوري وهذا لبناني وهذا أردني وهذا فلسطيني. لعنة الله عليهم. شكراً جزيلاً فخامة الرئيس، كنتُ سورياً وها أنا أعود سورياً".
عند تسلُّمه جواز السفر السوري، وصف نفسه بأنه كمن "قبض على درّة ثمينة"، وقال لزوجته وهو يتأمل الوثيقة: "كلها شكليات، فأنا منذ وُلدت عربي وسأبقى عربياً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين