"وثقوا جرائم الاحتلال، بس أعطوني شوية احترام، ما تحملوا الكاميرا بوجهي وأنا بلقط آخر نفس. وقتها حكون حاقد عليكم ليوم الدين، ومش حسامح".
هكذا كتب أحد سكان غزة على موقع "إكس"، فهل يجوز القول إن الذي كتب هو من الضحايا المحتملين، أو المستقبليين؟
"بعيد الشر"، قد نقول. لكن إن لم يكن هو فسيكون غيره، فبين وقت كتابة منشوره وكتابة هذه الكلمات سقط المزيد من الضحايا، وهذه المرة، في هذا العدوان، في زمن الموبايل و"التيك توك" والبث المباشر للإبادة الشاملة، لم تعد مثل هذه الأسئلة أو الرجاءات في حكم دروس الماضي أو التعلم من أجل المستقبل، فكلنا، عبر الشاشات، صرنا نعيش اللحظة الآنية، محبوسين، بالدم والأعصاب، في السجن الصغير الدموي المسمى "غزة".
أسئلة ولا وقت للأجوبة
لا وقت للجدل والنقاش ومراجعة قوانين المهنية والصوابية، أصابعنا على زناد النشر، نشارك صور المجازر وأخبارها، حالاً وسريعاً قبل أن يلحق بموقع "إكس" ما لحق بموقع فيسبوك من تضييق ومنع.
هل يجوز نشر صور الضحايا؟ لحظاتهم الأخيرة؟ أشلائهم؟ وجوه من نجا منهم، أو من مات؟
ملامحهم الجميلة في صور أعياد الميلاد وحفلات التخرج أم رؤوسهم المنفجرة وأجسادهم الممزقة؟
صورهم العائلية التي تبتسم للكاميرا أم الأجساد نصف المدفونة تحت الرماد والأنقاض؟
صورة يوسف وهو "أبيضاني وحلو وشعره كيرلي"؟ أم صورته ملفوفاً بالكفن بين يدي أبيه؟
لقطات "روح الروح" وهي تعبث بلحية جدها "وهو مستسلم" كما تقول قصيدة أمل دنقل، أم وهي جسد هامد كالنائمة بين ذراعيه وهو يقبّلها؟
أم كل ذلك معاً لنستفيد من قوة الـ"قبل" والـ"بعد" التي كان ينبغي ألا تخصص إلا من أجل الدعايات وبرامج خسارة الوزن؟
هل ننشر ملامح الضحايا الجميلة في صور أعياد الميلاد وحفلات التخرج أم أجسادهم الممزقة؟ صورهم العائلية التي تبتسم للكاميرا أم الأجساد نصف المدفونة تحت الأنقاض؟ صورة يوسف وهو "أبيضاني وحلو وشعره كيرلي"؟ أم صورته ملفوفاً بالكفن بين يدي أبيه؟
هل نستجيب لمن يقول لا تصورونا ونحن نموت؟ أم لمن يقولون لا تتوقفوا عن النشر وافضحوا فظائع جرائم الاحتلال؟ أم نمتنع عن ذلك كله ونكتفي بنشر الأرقام والأسماء والصور العلوية للمدن التي صارت ركاماً؟
وحتى لو تحققت فائدة النشر
يسهل القول إن ثمة "فائدة" غير مشكوك فيها في نشر صور الضحايا كلما كانت "أبشع"، المثال الأبرز الصورة الشهيرة للطفلة الفيتنامية العارية التي أحرقت جسدها قنابل النابلم الأمريكية، وصورة طفل مجاعة السودان الذي يربض بالقرب منه نسر في انتظار موته، وصولاً إلى الأمريكي من أصل أفريقي جورج فلويد الذي أطلق موته أو بالأحرى صورة قتله بالخنق حملة "حياة السود مهمة".
هل نستجيب لمن يقول لا تصورونا ونحن نموت؟ أم لمن يقولون لا تتوقفوا عن النشر وافضحوا فظائع جرائم الاحتلال؟
إن تأثير الصورة هنا إذن غير مشكوك فيه لجهة إثارة الاهتمام بـ"القضية"، لكن أياً من هذه النماذج، طفلة فيتنام أو طفل السودان او فلويد، لم تتح له فرصة الاختيار في نشر الصورة، ولم يكن في موضع الغزّاوي الذي يراقب الموت كل يوم ولا يملك سوى أن يكتب تغريدته، فيحدد فيها رفض التقاط صورته كوصية أخيرة وهو "بيلقط آخر نفس". وربما لا يمانع نشر صورته قبل تلك اللحظة أو حتى بعدها، فهذه هي حدود "رفاهية الاختيار" المتاحة له.
هل ننشر صور الأطفال لنوثق الإبادة؟
لأن نصف سكان غزة من الأطفال، فإن الإبادة الجارية في القطاع تجمع بين فرعين مهمين في قضية مشروعية نشر الصور، هما صور الضحايا بصفة عامة، وصور الأطفال بصفة خاصة.
فالطفل، بالإضافة إلى أنه غير مؤهل بعدُ عقلياً لاتخاذ قرارات يفترض أن يتخذها عنه بالغون، كثير منهم فقدوا حياتهم في القصف الدموي، فإنه أيضاً -في عالم مثالي- تنتظره حياة طويلة يمكن أن تؤثر فيها القرارات التي يتخذها عنه مصورون في لحظات بعينها، فطفلة فيتنام "كيم فوك" على سبيل المثال لا تزال على قيد الحياة إلى اليوم وقد أتمت قبل أشهر عامها الستين. وفي "عالم مثالي" أيضاً، تتم تغطية صور وجوه الأطفال في أي سياق إخباري، ما لم يكن سياقاً سعيداً كالفوز في بطولة رياضية، أما في الجرائم والحوادث وغيرها، وسواء أكان الطفل من الناجين أو من الضحايا، فلا يمكن على الأكثر سوى نشر صورة عادية، لا صورة من مسرح الجريمة، وبشرط أن يكون الطفل قد غادر الحياة ولم يعد لديه مستقبل.
الأمثلة الأبرز لدور الصور، هي للطفلة الفيتنامية العارية التي أحرقت جسدها قنابل النابلم الأمريكية، وصورة طفل مجاعة السودان الذي يربض بالقرب منه نسر في انتظار موته، وصولاً إلى الأمريكي جورج فلويد الذي أطلق موته أو بالأحرى صورة قتله حملة "حياة السود مهمة"
لكن مثل هذه الإرشادات والقواعد المهنية، مثل كل نتاج اجتماعي آخر، لا تنشأ من الفراغ، إنها ابنة سياقها ومجتمعها أيضاً. قبل سنوات، وأمام محكمة أمريكية احتضنت أمّ قتيل قاتل ابنها وأخبرته أنها تغفر له، أشاد كثيرون بتسامح الأم، لكن آخرين قالوا إن التسامح ابن للعدالة، وأنه لولا ثقة الأم في النظام القضائي لما اتسع قلبها للغفران.
في غزة، المشكلة مع النظام العالمي، لا القضائي، فالمذبحة مستمرة بلا تدخل بل بتشجيع ودعم من القوى الكبرى فمن أين يأتي التسامح ومن أين يدخل الغفران؟ والإرشادات المهنية التي تمنع نيويورك تايمز وواشنطن بوست من نشر صور جثث ضحايا إطلاق النار في المدارس الأمريكية لم تمنع هذه الصحف من التضليل والتزوير إلى حد اختراع عبارات جديدة في اللغة للتغطية على الجرائم الإسرائيلية في غزة، لتثبت أن حتى صوابيتها المهنية – تماماً كبقية حمولتها الأخلاقية – ذات معايير مزدوجة لا ينبغي أن تؤخذ بلا مراجعات، وإلى أن تتوقف النار ويحين وقت المراجعات فليس في أيدينا أن نمتنع عن نشر ومشاركة الصور التي كنا نتردد في نشرها في الماضي، ذلك أننا لم نر يوماً ما نراه الآن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 22 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...