في الـسابع من تشرين الثاني/ ديسمبر رحلت شذى الكفارنة (23 عاماً)، التي تعيش في اسطنبول قبل أن تفتش عن حلمها في المدينة، سكت قلبها فجأةً عن مراوغة الخوف، والقهر على حال بلدها الصغيرة غزة التي تحولت في غمضة عين لكومة كبيرة من الركام، وتحولت شوارعها لمقابر جماعية، فلم تصمد أمام تواتر وتراكم أخبار الموت القريب من بيوتنا الآمنة، وعن محاولات الاتصال التي تتجاوز العشر مرات في الدقيقة دون جواب، وأمام رسائل كثيرة لم يستلمها أحد.
تقول شقيقتها ولاء لرصيف22: "شذى كانت قلقة للغاية ومتوترة وخائفة على عائلتنا طوال متابعتها الأحداث الجارية في غزة، كانت الصغيرة المدللة وكانت تربطها علاقة خاصة بوالدي واخوتي، لذلك كان اهتمامها وتفكيرها بأدق التفاصيل عن وجودهم في غزة".
لم تكن الشابة الصغيرة تتخيل أن أسرتها ستسكن في مدرسة إلى جانب آلاف النازحين، في ظروف إنسانية مزرية، بعد أن عاشت في منزل جميل حياة مستقرة وسعيدة. وكان قلبها ينفطر حزناً على تدهور الأوضاع المعيشية لأسرتها، خاصة في ظل استمرار حالة الحرب والقتل.
تعرضت شذى لسكتة قلبية مفاجئة، ولم يتمكن قلبها من تحمل الألم الشديد لأكثر من شهرين. فأمضت ما يقرب من أسبوعين في وحدة العناية المركزة في أحد مستشفيات إسطنبول، قبل وفاتها.
"يا ريتني معهم"
كل مغترب من قطاع غزة يدرك جيداً هول ما واجهته الشابتان قبل رحيلهما، بدايةً من الفقد وفكرة العيش دون عائلة وبين شعور الوحدة أمام عالم لا يلتفت نحو هالاتهما السوداء وإيماءاتهما الشاردة.
تكرار عتاب النفس بـ "يا ليت لو كنت معهم"، والخوف من وصمة "الخائن" للذات حينما تسير خطواتنا انصياعاً لعجلة العالم الموازي، ثم نأوي لوسائدنا نادمين خجلين آخر الليل، نبكي كل ما جمعناه من دموع على كل الذين فارقونا ولم نحظ بلحظة وداع واحدة، أو مساحة لممارسة رفاهية الحداد قبل الفقد التالي.
رحلت شذى الفتاة الغزّية التي تعيش في اسطنبول، لم تصمد أمام خوفها على أهلها في غزة، وتراكم أخبار الموت، وأمام محاولات الاتصال التي تتجاوز العشر مرات في الدقيقة دون جواب، وأمام رسائل كثيرة لم يستلمها أحد
سمر الشيخ (30 عاماً) لم تكن أفضل حظاً من شذى، فقد توفيت هي الأخرى في العاصمة المصرية القاهرة جراء توقف قلبها بشكل مفاجئ خلال متابعتها للأخبار الواردة من قطاع غزة، وخوفها الشديد على طفلها من زواجها الأول ومصير عائلتها.
تقول صديقة سمر لرصيف22: "لم تتمكن من الاطمئنان على صغيرها، مع انقطاع الأخبار، وهول ما يواجه الصغير من خطر وجوع بعيداً عنها، لم تحتمل قسوة بأن يتنقل صغيرها تحت الموت العشوائي بين مراكز الإيواء بحثاً عن فرصة للحياة ولقاء يجمعهما كما كان مخطط لهما قبل الحرب في الصيف القادم".
أرفض أي حديث لا يتعلق بغزّة
تقول نجلاء نجم المغتربة في مدينة قيصري بتركيا: "لا يمكن أبداً لأي غزاوي مغترب أن ينكر حقيقة انقلاب حياته رأساً على عقب منذ أن بدأت الحرب على قطاع غزة، كل شيء أصبح باهتاً بالمعنى الحرفي، فبعد أن كان يومي يبدأ بمكالمة طويلة مع أمي نتحدث فيها عن تفاصيلنا ونأخذ مشورة بعضنا، ثم أنتقل للاطمئنان على أخواتي ومشاركتهم آخر الأحداث، أصبحت كل هذه الأشياء الآن في زمن الماضي الجميل. منذ أن بدأت الحرب سمعت صوت أمي مرتين فقط".
وتضيف الفتاة العشرينية: "فقدتُّ أختي الحبيبة القريبة من روحي في بداية الحرب، في اللحظة التي وصلني بها هذا الخبر أدركتُ أن هذه الحرب لن تخرج منا وإن انتهت، فالمصاب جلل، والفقد أصبح قائمة طويلة من الأهل والأصدقاء".
وتردف: "انقطاع الاتصال عن غزة كان كفيلاً أن يوقد ناراً لا تنطفىء، أجلس لساعات طويلة أحاول الوصول لأي شخص يمكن أن أراه نشطًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أجرب الحظ بإجراء مكالمات دولية. والخوف يتملكني من اللحظة التي سيعود فيها الاتصال. من بقيَ ومن سبقنا إلى جنات النعيم؟".
نجلس هنا مجبرين أن نقوم بأعمالنا وإنجاز مهامنا ومعاملاتنا الحياتية، فالعالم يسير بشكلٍ عادي، وأي تقصير أو تأخير يمكن أن ندفع ثمنه غاليًا".
وتتابع: "اليوم كله الآن يتلخص بالحديث عن غزة، فهي البداية والنهاية، لا أنكر حقيقة أني أرفض أي حديث لا يرتبط بغزة مهما كان، فلقد أصبحتُ أؤمن أن غزة هي المحور في كل تحركات حياتي الآن، عندما قرأت خبر وفاة شذا ثم سمر حزنتُ جداً عليهما، وفكرت لحظتها بواقع الخبر على أهاليهم، فأمام الغزي المغترب حربان قاسيتان فما بين القتل والتشريد والفقد والوجع الذي يعيشه الأهل ونعيشه عليهم، نجلس هنا مجبرين أن نقوم بأعمالنا وإنجاز مهامنا ومعاملاتنا الحياتية، فالعالم هنا يسير بشكلٍ عادي، وأي تقصير أو تأخير يمكن أن ندفع ثمنه غاليًا، الأمر صدقًا مرهق جدًا وقاسي بطبيعته على المغترب الذي لم يستشعر حياته ولا طعامه ولا شرابه وأمنه في الوقت الذي يُحرم أهله من الطعام والشراب والأمان".
"في أول أيام الحرب عندما خرجتُ إلى الشارع استنكرتُ كل شيءٍ حولي، كيف للناس أن تسير بشكل عادي، كيف لهم أن يضحكوا ويأكلوا ويشربوا، وتحت نفس السماء هناك شعب بأكمله يُباد بأبشع المجازر؟ كل هذه التساؤلات والخواطر قاسية، أعرف ذلك جيدًا، فالمصاب جلل كما قلت، لكن "لا يملك الفلسطيني في الغربة إلا أن يكون قويًا مهما عصفت واشتدت به الأحداث"، تختم المغتربة نجلاء نجم حديثها.
فقدت 17 كيلوغرامًا منذ بداية الحرب
ثانية حروبنا الصغيرة في مواطن لجوئنا، فكيف تتحول رشفة القهوة، أو غفوة أمام شاشة الأخبار، أو يتحول الذهاب للعمل صباحاً، وقضمة طعام، أو بسمة عابرة، أو حتى أقل من ذلك في سبيل الأفعال الإنسانية، والرغبات الغريزية؛ كشرود الذهن مثلاً، لأن تصبح ضرباً من الخيانة، وإحساساً بالذنب تجاه أولئك الذين تأبى الحياة إلا وتمنعهم مثل هذه الفرص؟
في ألمانيا، تعيش الفلسطينية إيمان علي (31 عاماً)، منذ سنوات عديدة، تقول لرصيف22: "أتمنى لو كنت بينهم وعشت معهم هذه اللحظات، وكل الظروف وكل العطش وكل الجوع، وكل التفاصيل، أشعر أن النفس الذي استنشقه ثقيل جداً لا يصل، وشرب الماء علقم، ولقمة الطعام سم لا طعم له، هذا إن تمكنت من الأكل، فقدت من وزني 17 كيلوغرامًا، تحولت إلى هيكل عظمي، لا نوم، قلق، وأرق، وكابوس ملازم، المعاناة قاتلة قاتلة".
توفيت سمر الشيخ في القاهرة جراء توقف قلبها بشكل مفاجئ خلال متابعتها للأخبار الواردة من قطاع غزة، وخوفها الشديد على طفلها من زواجها الأول، ومصير عائلتها
تتابع: "لا يحتمل العقل ما نشاهده، وفاة شذى وسمر أمر غير مستبعد، أحسدهما لأنهما ارتاحتا صراحةً، فكل ساعة تمر في الغربة أمام كل ما نشاهده جحيم، طوال الفترة الماضية لازمتني نوبات هلع وضيق نفس وآلام شديدة في منطقة الصدر والكتف، أشعر بها بقرب الموت، فمعاناة المغتربين في ظل هذه الظروف صعبة ومخيفة".
وتضيف: "أضطر للعمل مع هذا العالم، لكي أعيش وأعيل نفسي، لكن في نفس الوقت كل كياني ومشاعري هناك ببلدي بين أهلي وفي طرقات نزوحهم هروباً من الموت".
إلى أين تأخذنا عقدة النجاة؟
أحد أكبر التداعيات الصامتة للحرب على غزة ارتفاع ظاهرة "عقدة النجاة" لدى المغتربين من القطاع بالخارج، ولدى المتضامنين معهم، وهي حالة نفسية ترتبط في الغالب بالأفراد الذين يواكبون أولاً خلال الحرب وينجون من آثارها، أو الذين في الغربة بعيدين عن دائرة الأحداث المؤلمة. كلا النوعين يمران بمشاعر الذنب، خاصة من فقد كل أفراد عائلته، وبقي وحيداً. تقول المختصة في علم النفس الإكلينيكي دعاء عبد الحميد.
وتضيف لرصيف22: "يُظهر ذنب الناجي أعراضاً مختلفة بناءً على سبب الصدمة، وفي حرب غزة أسباب الصدمة كثيرة نظراً لأن المشاهد تفوق قدرة العقل البشري على الاحتمال، فالأمر لا يقتصر على وفاة من قُتِل في الحرب فقط، إنما صور الموت الكثيرة التي تحمل في جعبتها تفجير البيوت وهدمها، والأشلاء المتناثرة، والأجساد محروقة، والحياة من غير مقومات أساسية؛ هذا كله يؤدي إلى مشاعر الحزن العميق وعدم التصديق، وأحياناً حتى الشعور بالمسؤولية لكون الشخص نجى دون عائلته، وكأنه يحمل ذنب أنه بقي حياً".
وتشير الباحثة في علمي النفس والاجتماع إلى أن مؤشرات وأعراض ذنب الناجين تختلف من شخص لآخر، بما في ذلك أنواع الأعراض وشدتها، ويمكن أيضاً أن يتأثروا بطبيعة الحدث الصادم، من هذه الأعراض الشعور بالذنب لكون الشخص على قيد الحياة بينما الآخرون لم يعودوا كذلك، "هي دورة لا تنتهي من إعادة التفكير في تصرفاتك أثناء الحدث أو فكرة الندم لأنك كنت بعيداً عنهم، التقلبات المزاجية والعاطفية، الشعور بالعجز، الانسحاب الاجتماعي أو صعوبات في أداء الوظيفي العام في المجالات الأكاديمية والمهنية والشخصية، أفكار انتحارية، مشاكل في النوم، أعراض الاكتئاب وانخفاض مستوى الدافعية والرغبة في الحياة، الأعراض الجسدية مثل الصداع وآلام المعدة وغيرها، ذكريات حية ومتكررة من الحدث الصادم الذي أدى إلى المعاناة من اضطراب ما بعد الصدمة".
في حين أن هذه المشاعر غير عقلانية، إلا أنها حقيقية ويمكن أن تكون ذات تأثير عميق، مما يجعل الحاجة إلى الدعم العلاجي للمتضررين ضرورة في كثير من الأحيان.
إيمان: " النفس الذي استنشقه ثقيل جداً، الماء علقم، ولقمة الطعام سم، هذا إن تمكنت من الأكل، فقدت من وزني 17 كيلوغرامًا، لا نوم، قلق، وأرق، وكابوس ملازم، المعاناة قاتلة".
وتنصح بتقديم التدخل السريع واللازم من خلال تعليم من يعانون من عقد النجاة قبول الصدمة ومواجهتها. ونظراً للارتباط بين متلازمة عقدة النجاة واضطراب ما بعد الصدمة. وقد تتطلب بعض الحالات استخدام مضادات الاكتئاب أو التدخلات الدوائية الأخرى، خاصة عند وجود القلق أو الاكتئاب. في حالات أخرى، قد يكون لدى الفرد تاريخ من التفكير أو المحاولات الانتحارية، مما يستلزم المزيد من الرعاية السريرية المتخصصة.
وتختم عبد الحميد بأن الاعتراف بوجود مشاعر ذنب وارتباطها بعقدة الناجي هو خطوة حيوية للفرد الذي يعاني منه مما يجعل من الضروري إيجاد آليات فعّالة للتكيف قبل ازدياد حدة الأعراض على الرغم من أنه يمكن أن تستغرق هذه العملية وقتاً أطول دون تدخل مبكر. "إن إتاحة الوقت للحزن قد يكون للذين فقدوا في هذا الحدث أمراً صعباً، لكنه جزء مهم من عملية التكيف، حتى لا ينعكس على صحتهم النفسية والجسدية، ويعرضهم لخطر حالات الوفاة أو الانتحار أو الإصابة بجلطات قلبية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 14 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 21 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com