في موسم الحج، 2017، جرؤ رجل مصري ـ تجارته دعوة المسلمين إلى الإسلام ـ على استدبار الكعبة، لا لضرورة إلا التجارة الإلكترونية، ولا أظنها تجارة مع الله، تعالى سبحانه عن امتلاك حساب في مواقع التواصل الاجتماعي. ذلك "الحاج"، بملابس الإحرام، اسمه عمرو خالد، وأحياناً الدكتور عمرو خالد، البديل العصري الشيك للشيخ عبد الحميد كشك. تطور طبيعي لصوت ذكوري إلى صوت يخلو من الذكورية. أعطى ظهره للكعبة، والتقطت الكاميرا له خائنة عين، وهو يتأكد من ضبط الإطار؛ ليشمله والكعبة وراءه. وبدأ أداء التباكي وافتعال الخشوع، واختص بالدعاء متابعيه من "الشباب والبنات، الرجال والنساء اللي موجودين على صفحتي... اكتبهم من أهل الجنة".
لحسابات المؤثّرين عائد اقتصادي من حصيلة الإعلانات. هوسٌ مزدوج، نفسي ومادي، يُخضع المؤثّرين لشروط السوق، فتستعبدهم شهوتا الشهرة والمال، فيتسوّلون المتابعات والإعجابات والمشاركات. ماذا لو استجاب الله دعاءهم، وهدى الناس جميعاً؟ لن تسرّهم الهداية، ستكون شؤماً يقطع أرزاقاً مصدرها المعاصي، ووسيلتها التنطع الديني. وإذا كان لهم أن يشكروا أحداً، على رواج بضاعتهم، فليشكروا الشيطان وحده لا شريك له.
اسمه عمرو خالد، وأحياناً الدكتور عمرو خالد، البديل العصري الشيك للشيخ عبد الحميد كشك. تطور طبيعي لصوت ذكوري إلى صوت يخلو من الذكورية. أعطى ظهره للكعبة، والتقطت الكاميرا له خائنة عين، وهو يتأكد من ضبط الإطار؛ ليشمله والكعبة وراءه
ومن فوائض نعمة ثورة يناير/كانون الثاني 2011 تراجع الاستجابة لهؤلاء المتنطعين. شرارة الثورة زادت منسوب الوعي العمومي، لدى جيل يستنكر تأييد تجار الدين للاستبداد. لا يُسأل أبناء هذا الجيل عن انتكاسة الثورة؛ كانوا صغاراً وراقبوا اكتئاب الآباء المشاركين في الحلم، الشاهدين على انطفائه.
الزمن طوى صفحة الشيخ كشك، حتى قبل اختفاء أشرطة الكاسيت. كما يتكفل حالياً بطيّ مرحلة عمرو خالد ومقلّديه. وفي هذا الفراغ ظهر محترفون للإعلانات، هواة للتنطع الأخلاقي، لا يدّعون علماً في دين ولا دنيا. لا يجيدون الكلام فيتجنبوه؛ تفادياً لفضح الضحالة والتفاهة. يتجهون مباشرة إلى منطقة رخوة في نفوس الجماهير وهي الأخلاق. يفتح أحدهم حساباً ويوالي نشر صور للممثلات، المصريات تحديداً، من حفل خاص أو في جلسة استرخاء أو على الشاطئ، مع وصف موجز يسبق اسم الفنانة: "الأم الفاضلة، الحاجّة المحترمة، الأخت الخجولة، خضرة الشريفة"، وفي السطر التالي تذكير للمعلقين الجدد بمتابعة الصفحة وإبداء الإعجاب، فيبدأ قصف صاحبة الصورة وقذفها.
تشتعل حروب التعليقات. يتنافس الوعاظ في الإفتاء، والساخرون في التهكم، والشاتمون في السباب. تصير صاحبة الصورة هدفاً ترشقها كلماتهم السامة، ويحملونها مسؤولية خروج العرب من الأندلس، واحتلال الصهاينة لفلسطين، وهوان المسلمين في الصين وميانمار والهند وكشمير. كما يتهمونها بأنها السبب في ابتلاء الله المصريين بالغلاء، وضيق الأرزاق. ويتأملون الصورة مرة بعد مرة، ثم يجوّد البعض في التعليق بحجم الحرمان والاشتهاء، فيضمن لصاحبة الصورة مكاناً في الجحيم، ويشمل بهذا المصير أباها أو زوجها. ولأن الفراغ محرّض، فهو يبحث لزوجها عن صفة فيقول إنه ديوث، ويتحرى حديثاً نبوياً عن مصير الديوث. ومن التعميم إلى التخصيص يصدر الحكم المنتظر في الآخرة. قُضي الأمر.
للكثيرين حالياً مهنتان، الوظيفة الأصلية ومهنة التلصص على المشاهير في مواقع التواصل. العمل الجديد، الإضافي المجاني الذي يظنون أنهم يؤجرون عليه، يستهلك من الوقت والطاقة أكثر من الأصلي. والمقهور في عمله، الضائعة حقوقه، يعوض النقص بالاستعلاء الوهمي، واتخاذ موقع الناصح، الداعية، القابض على معايير الأخلاق، فيخرج من يشاء من الجنة، ويدخل من يشاء النار.
والسادية الإلكترونية وسيلة تفريغ للكبت السياسي، وإشباع رغبة الشعور بالتفوق والامتياز. ولولا شاشة الهاتف ومفاتيح الكمبيوتر لظلوا يمارسون التحرش، اللفظي والجسدي، في الشارع، وقد أغنتهم الشاشات، فاستهدفوا بالأحقاد الطبقية والنفسية من يتمتعون بالثراء والشهرة. ويلٌ للناجحين من انتقام مقهورين يتطاوسون بشيء وحيد يظنون انفرادهم بامتلاكه: الأخلاق.
لو أن لمصر، ممثلة في القيادتين السياسية والدينية، عقلاً يفكر، لقاد ثورة قطيعة مع كل ما يحول بين الإنسان وربه. تنتهي وصاية المؤسستين السياسية والدينية، ويصير الدين لله، علاقة خاصة بين الله وعباده. ويحل القانون مكان الصراخ في ميكروفونات المساجد، وتكرار كلام لا ينصت إليه أحد، وإذا أنصت فلا يبالي. بثورة القطيعة ترجع المساجد إلى جوهر الإسلام، ويكف الوعاظ عن أكل عقول البشر. ماذا يضير مسلماً إذا رأى صورة لا تعجبه لهذا أو تلك؟ المؤمن، المؤمن لا المتديّن، يغض بصره، ويحمد الله الذي جنّبه ما يكره من سلوك الآخرين. والسويّ يدعو الله بهداية "العاصي"، ولا يحشر نفسه قاضياً باسم الله.
الزمن طوى صفحة الشيخ كشك، حتى قبل اختفاء أشرطة الكاسيت. كما يتكفل حالياً بطيّ مرحلة عمرو خالد ومقلّديه. وفي هذا الفراغ ظهر محترفون للإعلانات، هواة للتنطع الأخلاقي، لا يدّعون علماً في دين ولا دنيا
التقوى محّلها القلب، ويتناسب رفع صوت الناصح عكسياً مع أخلاقه. شيخ سلفي يشبه المصارعين، في درس بالمسجد، صيف 2012، تجاسر على قذف ممثلة، وسألها: "كم رجلا اعتلاك؟". بالتحليل النفسي، يسهل الاستدلال على عورة الاشتهاء المزمن، المكبوت، تحت ستار الاستنكار. في ذلك الصيف، ضُبط برلماني من أعضاء حزب النور السلفي بصحبة فتاة، في وضع لا يليق داخل سيارة على طريق زراعي. لذلك النائب فتاوى متشددة في ضوابط نقاب المرأة. وفي صيف 2016، أثيرت في المغرب علاقة امرأة ورجل من قيادات "حركة التوحيد والإصلاح". هذه المرأة "الداعية"، نجمة الإفتاء اليوتيوبي، ناشطة في تحذير النساء: "لا تقتربي فالضحكات الخليعات زنا، والكلمات المغريات زنا".
بثورة القطيعة مع تراث الوصاية الاجتماعية، والاستعلاء الأخلاقي، والتطاوس بالتقوي، يسترد الإسلام جوهره، ديناً خالصاً لله. لا شأن لأحد بغيره، إذا لم يتسبب هذا الغير في إيذاء أحد. يبدأ التعايش بحلول القانون الآدمي محل إرهاب السلطتين الدينية والسياسية، الإرهاب بمعنى التخويف والتلويح بالعقاب، فتتحقق الحكمة من الحديث النبوي "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". هل تضيرك معصية غيرك، أو ما تعتبره أنت معصية؟ ليس لله حساب فيسبوكي؛ لكي يدعوه البعض بالعفو عن السفهاء، ويرددوا "حسبنا الله ونعم الوكيل"، كلما رأوا صورة لممثلة. ارحم يا أخي نفسك، واقلب الصفحة، وأعرض عن اللغو، وقل في سرّك: "لنا أعمالنا ولكم أعمالكم".
وفي العالم المتحضر لا ينشغلون بتتبع الناس، وانتقاد السلوك الخاص. ولعلنا، في 2024، نتصالح مع أنفسنا، وندرك متانة الدين. وللخائف على الأخلاق: "أمسك عليك لسانك، ولْيسعْك بيتك"، لن تنال حسنة إذا رأيت صورة، لعلها مزيفة، فتكتب: "هيفاء وهبي في الناااار". اقلب الصفحة. أما التفاعلات السادية للكثيرين فتقول إنهم يعانون الفراغ والوحدة، ويتعزَّوْن بالسباب، فتتسع دائرة النفاق الاجتماعي، تلك هاوية بدأت بالنفاق الديني، والإنابة عن الله في رصد المصائر الأخروية. خيطٌ أمسكه تجار صغار لئام، يحترفون الألعاب الإلكترونية، ويجيدون العزف على وتر الأخلاق، ويثيرون قضايا وهمية؛ لحصد الأموال من المتابعات والمشاركات. لا تكن جزءاً من الصفقة، اخذل الثعالب آكلي لحوم العيش.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون