شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
جهاد السباب... سيوف المتنطعين على من يقرأ التاريخ الإسلامي

جهاد السباب... سيوف المتنطعين على من يقرأ التاريخ الإسلامي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الخميس 23 نوفمبر 202311:06 ص

كشفت وسائل التواصل الاجتماعي الغطاء عن أمراض شعبوية مزمنة، هيجان متعدد الدوافع. لم يكن باحثو علوم الدين والنفس والاجتماع، قبل ربع قرن، ليروا أعصاباً عارية تلتهب؛ فتتكهرب خلايا المخ ويشتعل ويسيح، ومن فوائض الانصهار ينقذف جهاد السباب، كلما اقترب أحد من قراءة قضية احتكرها أسلاف أو كهنة، وصدقها أتباع لا يفكرون، ولا يحتملون زلزلة إدراكهم الموروث، فيسارعون إلى حماية أنفسهم بهجمات الشتائم، بوقاحة إذا لم يعجبهم عنوان مقال، مثل مقالي السابق "سيناريو آخر لواقعة السقيفة... هل جنت الفتوحات على الإسلام؟".

العقل السلفي مسكون بفضول غير إنساني، يدّعي امتلاك الحقيقة، ويحتكر المعايير القياسية للأخلاق، ويمنح النسبة المئوية للإيمان، ويُخرج من يشاء من الملّة؛ عقل نقليّ تستهويه مراقبة الآخرين. محتلٌ بأسلاف في مقدمتهم ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم الذي يحول دون إيمان الملايين من المسلمين بقضية المواطنة، فعن "أحكام أهل الذمة" يقول: "أن يرتكب المسلم جميع الكبائر مجتمعة أهون عند الله من أن يهنئ النصراني بعيده". لا تسأل من أين استمد هذه الثقة وهذا اليقين؛ فنطق باسم الله افتئاتاً. وكان العوام يسمعون هذا الكلام شفاهة، ولا يرون مسيحيين؛ فتطمئن قلوبهم. ثم تدفق من الهواتف مسيحيون ومسلمون يتعاملون مع مسيحيين؛ فانفجرت براكين الغضب المكتوم، عبرت القارات، واستنكرت قيام لاعب ليفربول المصري محمد صلاح بالاحتفال بأعياد الميلاد.

لم يكن باحثو علوم الدين والنفس والاجتماع، قبل ربع قرن، ليروا أعصاباً عارية تلتهب، فتتكهرب خلايا المخ ويشتعل ويسيح، ومن فوائض الانصهار ينقذف جهاد السباب، كلما اقترب أحد من قراءة قضية احتكرها أسلاف أو كهنة، وصدقها أتباع لا يفكرون

وضع صلاح في حسابه صورة لأسرته الصغيرة مع شجرة الكريسماس. لم يرسلها إلى أحد، ظل في بيته، تحت شجرة في حديقة بلا أسوار، لكنه في بيته، ولمن شاء أن يلوّح بالتحية، أو ينظر ولا يبالي، وإذا أغضبه المنظر فيمكنه أن يُعرض عنه ويمضى. لكنهم اقتحموا عليه حسابه، وأمطروه بالفتاوى، والبعض سلخه بلسان حادّ، ونصحه بتغيير اسم ابنته "من مكة إلى فاتيكان"، لأنه لم يعد "محمد صلاح، أنت مايكل ستيفن". وتمادى آخر: "أنت تافه وتابع لملة ليست بملتك ودين لم يكن دينك وتسعى وراء الجدل وإرضاء الغرب". وتساءل البعض لماذا لا يغطي شعر ابنته البالغة خمس سنوات؟

العقل النقليّ موصول بالقبور، عبر أنفاق تعشش فيها كائنات سامة لا ترى الشمس. عقل موبوء بليد يرفض ما يلخبط خريطة إدراكه، ولو من ذوي الاختصاص. ينشر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر تغريدة لتهنئة "الإخوة المسيحيين في الشرق والغرب بأعياد الميلاد"، فيتعقبه المطلعون على عقاب الله. يسارعون بمضاهاة كلام الشيخ بالمعيار القياسي لمعاملات غير المسلمين، ويسخرون منه، ويزايدون على علمه. يتطاولون عليه، ويتهمونه بالضلال، وبعضهم يصعد إلى السماء، ويرجع حاملا وثيقة تقول إن "الله ورسوله برئ" من تهنئة المسلمين لقوم حذر عمر بن الخطاب من الدخول عليهم "يوم عيدهم في كنائسهم؛ فإن السخطة تتنزل عليهم".

العقل السلفي مسكون بفضول غير إنساني، يدّعي امتلاك الحقيقة، ويحتكر المعايير القياسية للأخلاق، ويمنح النسبة المئوية للإيمان، ويُخرج من يشاء من الملّة؛ عقل نقليّ تستهويه مراقبة الآخرين. 

بقي شهر على أعياد الميلاد. لسنا الآن في مناسبة التهنئة ولا إثارة هذه القضية السنوية، وإنما أتخذها دليلاً على عقول مساكين عاطلين عن التفكير، ضحايا ثقافة شفاهية، معرفة من الشواشي، لا يصبرون على قراءة المتن، ويكتفون بالعنوان، لكي يواصلوا البحث عن عناوين مقالات وتدوينات أخرى، لإخضاعها لمحفوظاتهم المعيارية. وبعد التقييم يعطون أصحابها درجة صلاحية دينية، أو يشبعونه شتائم. وما أفظع سباب السلفيين، سفالات لو صادفها قارئ غير مسلم لكره دينا يزعم الحمقى، بهذا الانحطاط، أنهم يدافعون عنه.

كان عنوان مقالي "سيناريو آخر لواقعة السقيفة... هل جنت الفتوحات على الإسلام؟" يحتمل الرجحان. لم أتساءل: كيف جنت؟ وإنما: "هل جنت....". ولا تكتسب الأفكار الكبرى والاجتهادات الدينية والمذاهب والأيديولوجيات والثورات والقضايا قوتها إلا إذا صمدت للمراجعات المتوالية. ففي فترات النشوء والبناء لا تحتمل الصدمات؛ لأنها تكون هشة لم يكتمل نموها. وحين تستوي وتخوض صراعات تنضجها. وليس التاريخ الإسلامي استثناء في ما وقع فيه مسلمون من أخطاء وخطايا، في حق مسلمين وغير مسلمين. تلك من طبائع المرحلة، يتشابه فيها المسلمون مع القوى السابقة واللاحقة. وبحث هذه القضايا ليس قصاصا من أصحابها، بل للفهم والاعتبار. أمرٌ لا يوجب تسلّح التافهين بترسانة شتائم لا تسي إلا إليهم.

واقعة خالد بن الوليد مع مالك بن نويرة ليست استثناء. في الصراع السياسي يحضر الرأي والمصالح، وتتوارى الأخلاق. على سبيل المثال، سجل المؤرخون تواطؤ عمرو بن العاص ومعاوية في نزاعه مع الإمام علي. عمرو سأل معاوية عن مكسبه إذا شايعه حتى يتولى الحكم. وطلب أن يوليه حكم مصر "طُعمة ما دامت لك ولاية... تكون لي إذا كانت لك الدنيا"، كما وثّق أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري في "الأخبار الطوال". تلكأ معاوية، وانصرف عمرو، فقال عتبة لمعاوية: "أما ترضى أن تشتري عمراً بمصر؟"، فاقتنع معاوية بالصفقة.

وما أشهر مقولة "إن لله جنوداً من عسل"، وقد تندر بها معاوية وعمرو، فرحاً وشماتة بقتل الأشتر النخعي الذي ولاه الإمام علي حكم مصر، بعد محمد بن أبي بكر المقتول في جريمة حرب. في صفر سنة 28 هجرية، أرسل معاوية كلاً من عمرو بن العاص ومعاوية بن حُديْج؛ لقتال محمد بن أبي بكر فهزموه. جرّه الجنود على الأرض، وجاءوا به إلى ابن حديْج. قال له محمد: "احفظني لأبي بكر"، فقتله وأمر بأن يجرّوه، وأمر بإحراقه في جيفة حمار. وكانت أخته عائشة قد أرسلت أخاها عبد الرحمن إلى عمرو بن العاص، "فاعتذر بأن الأمر لمعاوية بن حديْج". مأساة القتل والحرق اقترنت بشماتة بني أمية بآل أبي بكر. وصل الخبر إلى المدينة، فأمرت أم حبيبة بنت أبي سفيان، زوجة النبي، بشواء كبش، وأرسلته إلى عائشة قائلة: "هكذا شُوي أخوك بمصر!»، فلم تأكل عائشة "الشّوِيّ حتى ماتت". ولما بلغ أسماء بنت عميس خبر قتل ابنها وإحراقه، "قامت إلى مسجدها وجلست فيه، وكظمت الغيظ حتى شخبت ثدياها دماً".

أتجاوز مأساة الطالبيين، وأصل إلى طرف من خبر ملوك الطوائف. أقرأ التاريخ استناداً إلى أن الحكام بشر، يؤمنون بأن المُلك عقيم، وفي سبيل الاحتفاظ به يضحون بأقرب الناس، ولو كانوا أبناءهم. ولا علاقة للأخلاق بالأداء السياسي. ولا تسيء تصرفات المسلمين إلى الإسلام. أقف أمام حاكم إشبيلية المعتضد بن عباد (1016 ـ 1069)، أقوى ملوك الطوائف، كما يرى محمد عبد الله عنان في الجزء الثالث من عمله الكبير "دولة الإسلام في الأندلس".

لا تكتسب الأفكار الكبرى والاجتهادات الدينية والمذاهب والأيديولوجيات والثورات والقضايا قوتها إلا إذا صمدت للمراجعات المتوالية. ففي فترات النشوء والبناء لا تحتمل الصدمات؛ لأنها تكون هشة لم يكتمل نموها

كان المعتضد قاسياً لا يتردد في قتل معارضيه، ومنهم ابنه إسماعيل ولي عهده، وقد فرّ مع الوزير محمد بن أحمد البزلياني وبعض أعوانه. واستطاع المعتضد أن يعيده. وقتل الوزير وبعض الأعوان، وتخلص من ولده، "قتله بنفسه، وأخفى جثته، فلم يقف أحد على أثره، وعذب شركاءه أشنع عذاب، وقطع أطرافهم، ثم أعدمهم، وأعدم كذلك نفراً من حرمه ونسائه... وكانت مأساة مروعة".

المعتضد "فتك بولده". لم يكن أول حاكم أندلسي يفعلها. قبل سبعين سنة قتل الحاجب المنصور بن أبي عامر ولده عبد الله. وقبله قتل الناصر لدين الله ولده عبد الله، "وكلاهما في مثل هذه الظروف، ولمثل هذه الأسباب، أعني لتطلعه إلى انتزاع السلطان من يد أبيه". الفرق بينهم في الدرجة لا النوع، فالمعتضد في سياساته وحروبه يلجأ إلى "أي الوسائل لتحقيق غاياته، مهما كانت مجافية لمبادئ الأخلاق والشهامة والفروسية". وقد أهدر حياته في محاربة أمراء الطوائف، جيرانه المسلمين، مبدياً "قسوته وغدره... استطاع المعتضد بهذه الوسائل المثيرة أن يحقق أطماعه". ويصل الدكتور عبد الله عنان إلى "قصة مروعة، هي قصة حديقة الرؤوس المحنطة، رؤوس أعدائه" المقتولين في الحرب أو غيلة. وكانت تُحمل إليه "في ليالي أنسه وسروره، يشاهدها وهو يترع كؤوس الراح، فترتاح نفسه لمعاينتها، والخلق يذعرون من الْتمحاها". كانت رؤوس ملوك وساسة مسلمين.

حكم المعتضد 28 سنة، ومات في فراشه. لم يعش ليشهد زوال ملك إشبيلية، ومأساة ابنه المعتمد بن عباد. وكم في تراجيديا التاريخ من العبر.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image