شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
الهدنة في غزة والحرب في البحر الأحمر؟

الهدنة في غزة والحرب في البحر الأحمر؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الجمعة 22 ديسمبر 202301:30 م

يتزامن تواتر العلامات والقرائن على انعقاد مشكلة إقليمية ودولية فرعية، مسرحها البحر الأحمر، ونواتها حركة النقل البحري بين باب المندب (وبحر عمان والمحيط الهندي من ورائه) وقناة السويس (والمتوسط وحوضه)، وادعاء "أنصار الله" الحوثيين وسلاحهم البحري والمسيَّر الحق في مراقبة الشريان التجاري هذا وتصنيف سفنه وفرزها مع بلوغ الحرب الإسرائيلية الحمساوية مرحلة اختبار عتبتين أساسيتين، هما عتبة الأنفاق والرهائن.

وللوهلة الأولى، تبدو الدعوة الأمريكية، على لسان وزير الدفاع لويد أوستن وليس وزير الخارجية، إلى إنشاء تحالف عسكري بحري يتولى الدفاع عن حرية الملاحة على طرق دولية حيوية، إجراءً عادياً وبديهياً. ولكن اقتصار التهديد الحوثي اليمني على عشر سفن تعرضت، على قول الوزير الأمريكي، إلى مئة "اعتداء"- وهذه الاعتداءات تترجّح بين إنذارات صوتية ومحاولات اقتراب مراكب خشبية، وبين عملية إنزال واحدة وقصف بالمسيرات الساقطة، وعلى تحويل أقل من ستين سفينة مسيرها من نحو 2300 سفينة أكملت طريقها، يعظم التهديد، ويفرط بعض الشيء في تصوير آثاره وخطورته.

البنية الإضافية

وينبّه إلى غرابة الأمر أو غموضه، أن ثمة تحالفاً بحرياً دولياً سابقاً وقائماً، نشأ في 2019، وتعهد بالسهر على أمن المياه الإقليمية، في أعقاب هجمات إيرانية على ناقلات نفط وسفن تجارية، في الخليج وبحر عمان، رداً على انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي. وقادت فرنسا "المبادرة الأوروبية للرقابة البحرية في مضيق هرمز"، في أواخر السنة نفسها.

من الغريب أن ثمة تحالفاً بحرياً دولياً سابقاً وقائماً، نشأ في 2019، وتعهد بالسهر على أمن المياه الإقليمية، في أعقاب هجمات إيرانية على ناقلات نفط وسفن تجارية. فلماذا إضافة "بنية" عسكرية أمنية وسياسية إلى الأبنية الفاعلة والعريضة القائمة؟

وتنشط في الدائرة العريضة، جنوب آسيا، على ما يسمي المرشد الإيراني علي خامنئي "الشرق الأوسط"، "فرقة العمل المشتركة 153"، ويبلغ عدد أعضائها 39 عضواً، ولا تزال "الفرقة" تعمل. وعقد لويد أوستن، في 19 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، حلقة تشاورية شارك فيها مسؤولون دفاعيون انتدبتهم 43 بلداً، إلى مندوبين عن الاتحاد الأوروبي (28 بلداً) وحلف شمال الأطلسي (31 بلداً).

فلماذا إضافة "بنية" عسكرية أمنية وسياسية إلى الأبنية الفاعلة والعريضة القائمة؟ والبنية الجديدة غامضة التركيب على نحو لا يقل غموضاً عن دواعي نشأتها وإضافتها إلى مثيلاتها، تضم عشر دول، ليس بينها غير دولة إقليمية واحدة، هي مملكة البحرين، مقر القوة البحرية الأمريكية العاملة في المنطقة الوسطى. وبين الدول العشر 3 دول متوسطية (وأطلسية)، وست شمالية أطلسية، وواحدة إفريقية. وتشارك ثلاث دول، هي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة (بريطانيا) وفرنسا، في القوة العسكرية العاملة جنوب البحر الأحمر.

وأحجمت عن المشاركة أشدّ الدول تضرراً من الأعمال "الحربية" الحوثية. وأول المحجمين مصر. وتولت مصر، قبل سنة تامة، قيادة "فرقة العمل المشتركة 153" التي سبق الإلماح إليها. واستنكفت اليمن والسعودية والإمارات العربية، شأن القرن الإفريقي، عن الانخراط في هيكل عسكري إقليمي يسهر على "الأمن القومي العربي، (و) باب المندب وجزره جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العربي، (و) من المجتمعين الإقليمي والدولي"، على قول علي الهدياني نيابة عن عيدروس الزبيدي (عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني). والمادة التي يهددها "أنصار الله" الحوثيون هي النفط وبعض مشتقاته (12% من النفط المنقول بحراً، في النصف الأول من 2023، و8% من الغاز الطبيعي المسال، نقلت إلى حوض المتوسط كله من البوابة الجنوبية على البحر الأحمر).

ويعلل مراقبون الإحجام العربي والإقليمي بأمرين: الخشية من إفضاء ردع الحوثيين، وقصف مصادر صواريخهم ومسيراتهم، إلى خنق مساعي السلام الأهلي اليمني التي تتولى السعودية وسلطنة عمان التوسط فيها، رسمياً. والأمر الثاني، هو توكيل الولايات المتحدة، "الراغبة"، بتولي مهمة يعود جزء منها، بالغاً ما بلغ من الضآلة، بالنفع على الدولة العبرية. ويُعوَّل على بنيامين نتانياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، في سبيل تصوير الأمر على هذا النحو: "نحن نخوض حرباً حضارية ضد (الإرهاب الإيراني)..." ونظيره علي شمخاني، أحد مستشاري علي خامنئي وأمين عام مجلس الأمن القومي الإيراني سابقاً، الذي حمل المشاركة في "الائتلاف الأمريكي" على "مشاركة مباشرة في (جرائم إسرائيل)".

يعلل مراقبون الإحجام العربي والإقليمي عن المشاركة في التحالف، بأمرين: الخشية من إفضاء ردع الحوثيين، وقصف مصادر صواريخهم ومسيراتهم، إلى خنق مساعي السلام الأهلي اليمني التي تتولى السعودية وسلطنة عمان التوسط فيها، رسمياً. والأمر الثاني، هو توكيل الولايات المتحدة، "الراغبة"، بتولي مهمة يعود جزء منها، بالغاً ما بلغ من الضآلة، بالنفع على الدولة العبرية

اشتباه الهدف

وفي الأثناء، لم تنفع المساعي العربية والإسلامية، ولا نفع رافدها الدولي والأممي، في حمل إسرائيل على قبول وقف إطلاق نار، موقت متقطع على شاكلة "الهدن" الأمريكية المقترحة أو دائم، على ما ألح ويلح أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. وآذن انتقال الطرفين إلى "المرحلة الثانية" من الحرب، على التسمية الإسرائيلية- في أعقاب حملة القصف المدمر من خارج القطاع التي دامت 3 أسابيع، ومباشرة تمهيد المبني بالأرض، والسعي في النفاذ إلى الحمى التحتي وشبكة أنفاقه، شمالاً وجنوباً، بامتحان الطرفين، واستراتيجيتهما، امتحاناً قاسياً. ولا شك في أن قوات "حماس" برهنت على تماسك وصمود قويين، لا يقارنان بـ "هواية" القتال التي صبغت قتال منظمات الخارج وفصائله.

واضطلع "سلاح" الأنفاق، إلى "سلاح" المدن وشوارعها ومخيماتها، وعلى قدر أقل "سلاح" الرهائن، بدور كبير وراجح في الصمود والتماسك هذين. وظهرت خطط "حماس" القتالية في صورة خنادق متراكمة، يتولى الخندق المتقدم منها الدفاع عن الخندق التالي، واستهلاك قوة العدو، وتأخير "نفاذه في الزبدة"، على تشبيه عسكري متفائل استعمله العسكريون الإسرائيليون في مطلع مهاجمتهم غزة المدينة وشمال القطاع. ويستقطب الخندق التالي بعض القوة التي يصبها العدو على الخندق أو الطوق السابق.

وبدا سريعاً أن الانكفاء الحمساوي على الباطن الغزاوي الحصين والحامي يضمن للمقاتلين المدربين والمؤهلين مناعة لا شك فيها. ويطيل، من وجه آخر، فرصة أداء "حماس" دور غرفة العمليات السياسية والإعلامية والعسكرية. ويبعد في الوقت نفسه "كنز" الرهائن، النفسي والمعنوي من مطال اليد العسكرية. ولكن المراهنة على فاعلية الانكفاء، ونجاحها، يقتضي ثمناً باهظاً يسدده المدنيون غير المحاربين من أرواحهم وأرزاقهم، ومن مصيرهم الوطني إذا خسرت "حركة المقاومة الإسلامية" الرهان. والْتفَّت القوات الإسرائيلية على الخندق الأول. فلم تتورّع عن إلقاء أعباء "تسديد الثمن"، وهو اسم إحدى عملياتها على غزة، على الاجتماع الغزاوي المدني، بشراً وحجراً. وأخفقت حركات الاحتجاج الجماهيرية، والحملات الديبلوماسية، و "الحروب" أو العمليات "المخفوضة"، في تقليص الأثمان المدنية، المقصودة و"الجانبية".

وأدى اشتباه هدف "حماس" من هجومها الأول- وخلطه الوجه الحربي (الحواجز، الجدار، الثكن، الحرس) النظامي بالوجه المدني، ووجه الدولة النظامي بالوجه اليهودي، والوجه الإسرائيلي بالوجه الأمريكي والغربي، والوجه السياسي بالوجه الأيديولوجي- إلى تعبئة وجودية أو كيانية لا تسهم في تغليب المعالجة السياسية والمرحلية (في قلب العمل العسكري) على ما يسميه الفلسطينيون "الحل التاريخي"، ويسميه جيرار شاليان، دارس الحروب غير النظامية وحروب التحرير المعاصرة، "الطوبى غير السياسية". ولا شك في أن السهم الإيراني في هذا الاشتباه، والسهم الإسلاموي، إلى السهم الإسرائيلي الليكودي أولاً، ثقيل وكبير.

ولكن استماتة مقاتلي "حماس"، وابتكاراتهم القتالية، وصمود الجسم التنظيمي ومحافظته على اتصال أجزائه في إطاره التحتي، قد لا تقوى على النهوض بأعباء التصدي، طويلاً، للهجوم الإسرائيلي الشرس. والوقت عامل أساسي في ميزان هذا النزاع. والأرجح أن "حماس" كانت تعوّل على أربعة عوامل: إحباط إسرائيل جراء هول الضربة الأولى، واندلاع قتال عنيف على جبهات الداخل وجبهات الطوق معاً، وارتفاع الخسائر البشرية في صفوف الجيش الإسرائيلي، وقوة التضامن العالمي مع فلسطينيي غزة المنكوبين. ويرجح افتراض "حماس" وحلفائها أن من شأن هذه العوامل تقليص أمد النزاع.

حرب التوقُّع

وبعض هذه التوقعات جرى أو حصل غير بعيد من الصورة المتوقعة. فهزت الضربة الأولى الدولة العبرية هزاً قوياً، من غير أن يطفئ روح الانتقام، ولا روح الحساب الذاتي. ولا شك في أن حرارة ظواهر التضامن الغربي، والأمريكي على وجه التخصيص، وسرعة ترجمتها إلى تعبئة وإمدادات واقتراع، وانبعاث ذاكرة المحرقة ودلالاتها الأوروبية، أدت دوراً راجحاً في استعادة إسرائيل توازنها، وفي تفاقم عدوانيتها و"كَلَبها"، على قول الرئيس الأمريكي جو بايدن مشيراً وواعظاً.

لا شك في أن حرارة ظواهر التضامن الغربي، والأمريكي على وجه التخصيص، وسرعة ترجمتها إلى تعبئة وإمدادات واقتراع، وانبعاث ذاكرة المحرقة ودلالاتها الأوروبية، أدت دوراً راجحاً في استعادة إسرائيل توازنها، وفي تفاقم عدوانيتها و"كَلَبها"، على قول الرئيس الأمريكي جو بايدن مشيراً وواعظاً

وبدت خسائر الجيش الإسرائيلي في الحرب الدائرة، 1) قياساً على الخسائر التي كبدتها "حماس" الإسرائيليين، مدنيين وعسكريين، في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، و2) مقارنة بخسائر الفلسطينيين، مدنيين ومقاتلين، و3) قياساً، أخيراً، على الاقتلاع العنيف وإمكان رسوه على تهجير ولجوء مروّعين- بدت هذه الخسائر "متواضعة"، ولا مقارنة بينها وبين ما يتكبّده الفلسطينيون. والموازنة بين أعداد القتلى الفلسطينيين، مدنيين (فوق ثلثي عدد المقاتلين) ومقاتلين (نحو 30% من نحو العشرين ألف قتيل، على زعم الجيش الإسرائيلي)، لا تحتمل. والسبب في هذا الفرق، أو بعض السبب فيه، هو "تمتع" الجهاز العسكري بحماية الأنفاق، على رغم جزئيتها في نهاية المطاف، واستحالة قيامها محل معركة حاسمة. وتدل سابقة التضامن العالمي مع العراقيين، على رغم صدام حسين وقيادته وتاريخ ديكتاتوريته، على قصور هذا التضامن، وطوفان تظاهراته، عن الحؤول دون اندلاع حرب نظامية، وتتحكم فيها أولاً عوامل جيو استراتيجية.

وقد يكون العامل الثاني، أي توقّع اندلاع "حروب" في ساحات الداخل وعلى الأطراف، أكثرها إشكالاً. وهو أشدها اتصالاً بـ "أزمة" البحر الأحمر الوليدة أو الحابية. فالتلويح بانفجار حرب إقليمية، إذا لم ترضخ إسرائيل إلى وقف إطلاق نار تارة "فوري" وتارة "إنساني" وتارة ثالثة "أممي"، يوقف المجزرة وفظائعها من غير شك ولكنه يسبق تدمير "حماس" في الوقت نفسه ويعلقه- ترجمه المحور الإيراني، رأساً وأطرافاً، عمليات متقطعة، بعضها عمليات بالإيماء والإيحاء، وبعضها الآخر على سبيل العد والإحصاء. وفجَّر بعض ثالث، في العراق، أزمة على شفير النزاع الداخلي والأهلي. ودل بعض رابع، في سوريا، على تصدع "المفتاح" الإقليمي، على زعم الرئيس السوري بشار الأسد (نظرية "البحار الخمسة") ونائبه السابق فاروق الشرع، وضعف احتمال عملية محلية على مشارف الجولان.

فافتقر المحور المفترض إلى قوام في وسعه فتح جبهة حرب فعلية ترتب على العدو تكلفة يحسب لها حساباً، أو تملي عليه إجراءً ثقيلاً، مثل وقف إطلاق النار في خضم معركة حاسمة. والإجراء هذا أمسى ضرورة حيوية بينما تتفاقم الكارثة الإنسانية والاجتماعية في غزة، ويشتد الحصار على المخيمات والمدن والأنفاق، وتبلغ الآلة العسكرية المنكفئة حدود فعلها، ويعجز المجتمع الدولي، وتظاهرات جماهيره، عن كبح "الحق في الدفاع عن النفس" من غير تناسب ولا تمييز، ولا استباق أفق سياسي.

وعلى هذا، يشبه إخراج "الأرنب" الحوثي من قبعة الساحر الإيراني، المعتكف عن الحروب كلها في الأثناء، عمل هواة. ويصادف، زمناً، اشتراط "حماس" وقف النار مدخلاً إلى المفاوضة على مبادلة الرهائن بالأسرى. والأزمة التي يهدد بها "أنصار الله" الحوثيون النقل البحري العالم، يدعو إلى مقايضة اجتنابها بوقف إطلاق النار الإسرائيلية في غزة وعليها. وإذا لم يكن الشرط موجهاً على إسرائيل وإليها، وينبغي ألا تكون هذه حاله مع "الأنصار"، فهو موجه إلى "الدول" عموماً. والدول الأقرب أعفت نفسها، وسايرها القطب الأمريكي على الإعفاء، من التبعات الإستراتيجية الإقليمية. ورأس المحور، الإيراني، يتنصل من الاشتراط وعقوبة الإخلال به، في ساحة حَرْبٍ القتلُ والدمارُ فارساها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و"وقائع". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image