شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"أصبحت قادرةً على قول لا"... عن تجربة العلاج النفسي الجماعي في مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والحريات الشخصية

الثلاثاء 9 يناير 202411:51 ص

في عيادة الطبيبة النفسية في شرق مدينة الإسكندرية، تترقب سهى (اسم مستعار)، وصول المشاركات من أفراد مجموعتها الجديدة، بعدما اجتازت عدداً من الجلسات الفردية. كانت تجربتها السابقة في المشاركة في جلسة جماعية في العام 2016، قد تركت أثراً مُرهقاً داخلها، فالحديث عن حياتها الشخصية أمام الغرباء يُزعجها، ولكنها اطمأنت قليلاً حينما تأكدت من خلو المجموعة من الرجال. جلست تلملم محتويات حقيبتها الصغيرة، وتتجنب النظر إلى من حولها.

قررت التزام الصمت في الجلسات الأولى، وكانت ترفض المشاركة في التعليق على ما قالته إحدى المشاركات. تتباطأ في الانغماس في الأنشطة الأخرى، كالمشي أو الألعاب الجماعية. تخرج كلمة "لا أعرف" سريعاً حين توجّه المعالجة سؤالاً إليها. يدفعها عقلها الباطن بما يُرسل من أحلام مُحملة بأوجاع الماضي ومخاوف المستقبل إلى الحديث لإلقاء الثقل عن ظهرها. تتألم من أوجاع جسدها الشديدة بعد الجلسة. تقرر أن تكون هذه جلستها الأخيرة، ثم تأتي الجلسة الأخرى وتعيد الأمر ذاته.

خلال مؤتمر الجمعية المصرية للعلاجات الجماعية والعمل الجماعي في أيلول/ سبتمبر 2019، قال الطبيب النفسي الدكتور يحيى الرخاوي، إن العلاج الجماعي في مصر بدأ منذ ستينيات القرن الماضي، مُرجعاً جذوره إلى الثقافة الشعبية في المجتمع المصري، ويقوم على الدعم النفسي من خلال مجموعات علاجية غالباً ما يتشارك أفرادها المعاناة نفسها.

بدورها، أوضحت الدكتورة منى الرخاوي، أن العلاج الجماعي دخل مصر على يد الدكتور يحيى الرخاوي والدكتور محمد شعلان. خلقا مدرسةً متفردةً في العلاج النفسي وأجيالاً من المعالجين/ ات النفسيين/ ات الجديرين/ ات بحمل الرسالة ونشرها.

بلورة المشاعر

تحملت منى السيد (40 عاماً)، عبء العمل المنزلي، وتخطّت مسؤولياتها، فكانت الأم لمن حولها. لم تتبيّن في البداية سبب التغيّر الطارئ على شخصيتها من حب الحديث والفضفضة. ترفض المشاركة في أي شيء. غلّفها الإرهاق النفسي ولم تعد قادرةً على مواجهته بمفردها. حاولت قبل أعوام اللجوء إلى طبيب نفسي، كانت قد بدأت معه جلسات للعلاج الفردي، إلا أنها لم تشعر بتحسن ولم تصل إلى فهم ما يدور داخلها.

لعبت المصادفة دورها في الوصول إلى "غروب ثيرابي". كانت بصحبة شقيقها وأصدقائه فروى أحدهم كيف أثّر العلاج الجماعي في سلوكه وساعده على تلمس طريقه من جديد بعد سنوات عاشها متخبطاً عقب وفاة والده بشكل مفاجئ.

"ما شعرت به من تطور ساعدني بعد انتهاء فترة العلاج على محاولة خوض الحياة بمفهوم جديد، فقد وجد عقلي قنوات جديدةً للتفكير، وأصبحت أكثر قدرةً على التعبير عن أشياء لم تكن واضحة المعالم"

بعد شهر ونصف من الجلسات الفردية في عيادة الطبيبة النفسية، وافقت منى على اقتراح طبيبتها بالانضمام إلى مجموعة يتم تكوينها لبدء العلاج الجماعي. لم تستوعب الفكرة في البداية، فالالتقاء بأناس لا تعرفهم والحديث عن تفاصيلها الشخصية أمامهم أمران غريبان، لكنها قررت أن تختبر الموضوع.

وعن هذه التجربة، تقول لرصيف22: "لن أدّعي أنني تغيرت كثيراً، إلا أن ما شعرت به من تطور ساعدني بعد انتهاء فترة العلاج على محاولة خوض الحياة بمفهوم جديد، فقد وجد عقلي قنوات جديدةً للتفكير، وأصبحت أكثر قدرةً على التعبير عن أشياء لم تكن واضحة المعالم، فكنت أعيش بمشاعر "سايحة".

لجأت السيد طوال سنوات إلى استخدام كلمات مبهمة مثل "عاوزة أمشي"، دون أن تصارح نفسها بالوجهة التي ترغب فيها، وما تعنيه بهذه الجملة، لكنها خلال فترة العلاج كانت قادرةً على التعبير عن رغبتها في الموت في البداية، ثم تعدّلت رغبتها واتضحت الرؤية أكثر لتظهر رغبتها في الزواج وتأسيس أسرة.

توضح منى أنها تفاجأت بتقنية العلاج في الجلسات الجماعية، والتي عمدت فيها معالجتها إلى دفعها لاكتشاف المشكلة بنفسها، ومحاولة فهمها، وإيجاد طرائق للتعامل معها، موضحةً أنها مذ بدأت رحلة العلاج لم يستوعب أحد من محيطها ما الذي تفعله.

إن الحديث أمام الغرباء وكشف الخبايا النفسية، فكرة أقلقت منى منذ البداية، فلم تتفاعل في الجلسات الأولى، بل كانت تلعب دور المُستمعة الصامتة وتشارك فقط حينما يُطلب منها ذلك: "في السنوات الأخيرة الماضية، كنت أتخوف من الحديث أمام الغرباء، فصنعت لنفسي فقاعةً أعيش داخلها ولا أسمح لأحد باختراقها، إلا أنني حاولت بغرض التفاعل في الجلسات كسر الحاجز والحديث عما يؤرقني من تفاصيل"، موضحةً أنها كانت تواجه رفضاً داخلياً كلما تحدثت عن تفصيل جديد، إلا أن حديث من حولها عن مشكلاتهم شجعها على خوض التجربة.

تأكدت منى من انعكاس التأثير الإيجابي للعلاج النفسي الجماعي عليها: "كنت أشعر باختلاط المشاعر، وكان يلازمني شعور دائم بالتعب والإرهاق ورفض الواقع أو الرغبة في تغيير كل ما حولي، ولكن مع العلاج الجماعي خطوت أولى خطواتي وهي تقبُّل الواقع والتعامل معه، فعلمت أنه لا يمكن تغيير من حولنا، لكن يمكننا أن نغيّر أنفسنا".

أصبحت قادرةً على قول "لا"

تزوجت أميرة فتحي (اسم مستعار)، في سن صغيرة، ثم تخرجت من الجامعة. وقبل بلوغها الثلاثين، كانت زوجةً وأماً لطفلين أحدهما في الخامسة والأصغر في عامه الثاني. عاشت روتيناً يومياً أشعرها بالضغط. تخيلت أن ذلك سبب تعاملها الغاضب تجاه طفلها الأكبر، كما أنها عانت لسنوات من صداع نصفي وآلام أبقتها في الفراش. مرت بمختلف مراحل الفحوصات من أشعة وتحاليل، إلى أن أخبرها طبيب المخ والأعصاب أنها في حاجة إلى زيارة طبيب نفسي، وأن استمرار وقوعها تحت تأثير الضغط العصبي قد يُسبب أذى لفقرات رقبتها.

"كنت أشعر باختلاط المشاعر، وكان يلازمني شعور دائم بالتعب والإرهاق ورفض الواقع أو الرغبة في تغيير كل ما حولي، ولكن مع العلاج الجماعي خطوت أولى خطواتي وهي تقبُّل الواقع والتعامل معه، فعلمت أنه لا يمكن تغيير من حولنا، لكن يمكننا أن نغيّر أنفسنا"

قررت أميرة الانخراط في رحلة العلاج الجماعي علها تجد ما يُخلّصها من آلامها الجسدية وتُصلح الجزء المتسبب في اضطراب علاقتها بطفلها: "شعرت بأن علاقتي به وصلت إلى حائط مسدود، وأن جزءاً من المشكلة نابع مني، فاكتشفت مع رحلة العلاج الجماعي أن المشكلة متعلقة بي"، موضحةً أن التجربة أثرت فيها كثيراً وانعكس ذلك على حياتها بشكل واضح، فكثر ممن يتعاملون معها لاحظوا تغيّراً في سلوكها.

طوال رحلة العلاج عمل عقلها على ملاحظة التغييرات الإيجابية في تفكيرها وتعاملها تجاه ما يواجهها من أزمات. تشرح لرصيف22: "التجربة كانت مفيدةً بكل المقاييس حتى السيئ فيها، وما أتعبني كان مفيداً والتفاصيل الصغيرة التي لم أفهم أهميتها في وقتها ظهرت نتائجها بعد ذلك... كأن أحداً وضع لي مرآةً داخليةً لأرى نفسي".

تحديد المشكلة وإيجاد طرائق للتعامل معها، والتحكم في رد الفعل، كلها نقاط أولية اكتسبتها أميرة من رحلتها في العلاج: "أصبحت أكثر إدراكاً لما يدور حولي، فتحررت من فكرة ضرورة إثبات وجهة نظري في أثناء أي نقاش، وأصبحت أكثر وعياً بتصرفاتي وفهمت أسباب سلوكيات من حولي، وهو ما يخلق عندي مساحةً للتسامح، وفي الوقت ذاته ساعدني العلاج على تحديد أولوياتي والتصالح مع نفسي ووضع حدود واضحة لأي شخص يتعامل معي".

انعكست التطورات الجديدة على علاقتها بأسرتها وزوجها فأصبحت قادرةً على قول لا على غير المعتاد: "اكتشفت أنني أتعامل بشكل مغلوط في حياتي الزوجية، إذ إن حبي لزوجي جعلني أتحمل المسؤوليات كافة رغبةً في راحته، إلا أن ذلك أضرّ بي وحمّلني فوق طاقتي، فلم أكن أرفض أي شيء. أما الآن فأصبح مقياس القبول والرفض لدي هو مدى قدرتي على تحمل ذلك".

واللافت أن عدم تقديم حلول مباشرة من قبل الطبيبة المعالجة، كان من الأشياء المُرهقة لأميرة في رحلتها، وسبب لها في البداية تخبطاً فكرياً بحيث لم تكن تعلم كيف تتعامل في أي موقف، غير أن تجربتها جعلتها أكثر رغبةً في إصلاح عيوبها وهو ما دفعها لإتمام جلسات العلاج لمدة عام كامل. وبرغم ارتفاع التكلفة المادية للجلسات، إلا أن ثمن الجلسات المُحدد من قبل مُعالجتها كان أكثر ملائمةً مقارنةً بأطباء آخرين، ولذلك كانت تُقلل من شراء احتياجاتها الشخصية لتوفير نفقات العلاج.

استثمار ذاتي

الإيمان بالعلاج النفسي والمتابعة من حين إلى آخر، كانا دافعي آلاء فهمي (40 عاماً)، للمشاركة في "الغروب ثيرابي"، فالممثلة الباحثة عن فرصة تتجلى فيها موهبتها، تقف عند قدرتها على تمثيل مشاعر الأشخاص الذين تؤدي أدوارهم وتصل إلى أعماق تفاصيلها، في وقت يصعُب عليها فيه تمييز مشاعرها الشخصية في الحياة: "إن تجربة العلاج الجماعي ساعدتني في التحرر من أزمة التعبير عن المشاعر. وبرغم احتياجي إلى العمل كثيراً على هذه النقطة، إلا أن ما حققته شكل بدايةً جيدةً".

وجدت فهمي في تجربة العلاج الجماعي ما توقعته من استفادة، فساعدتها في فهم الأمور بشكل أفضل، وجعل رؤيتها للأمور أوسع وأشمل، فلاحظت تغيراً في حياتها إلى الأفضل، وفق ما تؤكد لرصيف22: "إن التغيرات شملت تفاصيل دقيقةً وبسيطةً فوجئت بها وبمردودها على ردود الفعل والتصرف في مواقف كان من الممكن أن تسبب لي في السابق أزمةً كبيرةً، وهو ما دفعني لاستكمال رحلة العلاج لعام كامل".

وبرغم ارتفاع التكلفة المادية للعلاج النفسي الذي مثّل ضغطاً على ميزانيتها الشهرية، إلا أنها تعاملت معه كنوع من الاستثمار الذاتي، وتوصلت إلى حل وسط يعتمد على تقليص مصروفها مقابل الوصول إلى حالة ذهنية أفضل تنعكس على حياتها المستقبلية، موضحةً أنها بعد هذا العام أصبحت قادرةً على وضع حدود للآخرين وأكثر قدرةً على إبداء رأيها والاعتراض على ما ترفضه، وصارت تتحدث بصوت مسموع.

بداية الرحلة

في حديثه إلى رصيف22، يوضح استشاري الطب النفسي والمعالج الدكتور عماد الغمراوي، أن أسلوب السايكو دراما، بشقّيه الفردي والجمعي، يُعدّ مُكمّلاً للعلاج الدوائي والخطة العلاجية بشكل عام، مُرجعاً ذلك لانقسام أسباب المرض النفسي إلى أسباب عضوية مثل كيمياء المخ، الاضطرابات، الموصلات العصبية، والأسباب النفسية مثل الصدمات، الضغوط، المهارات النفسية والاجتماعية، والتنشئة في الطفولة.

جاء اختيار "الغروب ثيرابي"، من منطلق البيئة المُحيطة للإنسان الذي ينتقل من مجموعة إلى أخرى، إذ يوضح الغمراوي أن المرض النفسي أو الاضطراب أو الضغط تتولد داخل الإنسان في أثناء تواجده في إحدى المجموعات، كأسرة مضطربة أو فيها إساءات أو كالتنمر في المدرسة وغيرها، لذا العلاج في مجموعة يكون له تأثير واضح وهو ما يُطلق عليه الخبرة التصحيحية: "خبرة شعورية تصحيحية".

"العلاج الجماعي قادر على خلق وعي جماعي يخترقنا ويغير الأصوات الداخلية المُتحكمة في شعورنا بذواتنا"

يصل المُشارك/ ة، من خلال الخبرة التصحيحية، إلى حقيقة أنه مقبول، وأن هناك غيره ممن يعانون ويعيشون في صراع ويفتقدون احتياجاتهم ويشعرون بالوحدة، وهو ما يخلق ما يُسمى بالـ universality والذي يشعر خلاله الشخص بأنه ليس الأكثر معاناةً أو الأسوأ فهذا الشعور هو بداية الرحلة، حسب الغمراوي، وهنا تخلق المجموعة أحداثاً يصعب الحصول عليها في الجلسات الفردية، تتلخص في عوامل عدة وضعها الطبيب الأمريكي "إيرفين يالوم"، من بينها: "العمومية، غرس الأمل، الخبرة التصحيحية، الفهم الذاتي، اكتساب المهارات الاجتماعية وغيرها".

يتابع الغمراوي أن النقطة الثانية في العوامل العلاجية هي إعادة بناء الأسرة في داخلنا: "لدى كل منّا نُسخ لعلاقات اجتماعية بعضها مُطمئن وبعضها مُضطرب"، مضيفاً أن "الغروب ثيرابي" قادر على خلق وعي جماعي يخترقنا ويغير الأصوات الداخلية المُتحكمة في شعورنا بذواتنا، وأن قياس مدى تأثير الجلسات على العضو يظهر في لغة الجسد أو مشيته وتواصله البصري والثقة بالنفس، فضلاً عن تطوراته الخارجية بتحقيق أهدافه أو قدرته على وضع حدود للآخرين.

ويرى عماد الغمراوي، أنه بعد ما يقرب من 11 عاماً في العلاج الجماعي، وعيه وإدراكه ارتفعا بنسبة كبيرة وشعوره بنفسه ومن حوله كذلك، موضحاً أنه ينصح دائماً في نهاية المجموعة بالاستمرار في القراءة أو ممارسة اليوغا والهوايات واللجوء إلى الجلسات الفردية في حال احتاجها المرء.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard