من كثرة مشاهداتي لأفلام عن العراق بعد الغزو الأمريكي، 2003، أكاد أعزف عن الأعمال الجديدة، الأدبية والسينمائية، خصوصاً الوثائقية، في تناولها خطايا حزب البعث وجرائم الاحتلال. الميلودراما تقتل الإبداع، وتقضي على حماسة المشاهدة، إلا بدافع الفضول. لكن الفيلم الوثائقي الطويل "من عبدول إلى ليلى" جعلني أعيد النظر في خطأ الأفكار المسبقة، وأتجنب التعميم؛ فكل فيلم بصمة تخص صناعه، وتحمل هموماً كلما انتقلت من العمومي إلى الخاص منحت الفيلم تفرّداً، واستبعدت الصراخ والهتاف الجماعي لصالح الوجع الشخصي. وفي مهرجان الجونة السينمائي السادس (14 ـ 21 كانون الأول/ديسمبر 2023) صفق الجمهور إعجاباً بالفيلم، بعد عرضه العالمي الأول، بحضور مخرجته العراقية الفرنسية ليلى البياتي.
انتهى الفيلم، وتساءلت: كم تبعد بغداد؟ كدت أتساءل: كم يبعد العراق؟ وأجعل السؤال الأخير عنواناً للمقال، ثم اطمأننت إلى السؤال الأول عنواناً؛ فالعراق أكثر من عراق، بجغرافيا منقسمة تنطوي على ولاءات أجنبية، أو حكم ذاتي بعد ضعف الدولة المركزية. أما بغداد فواحدة، منزوعاً منها "البغددة" الدالة على مجد تاريخي لحاضرة الدنيا، قبل توالي احتلالات وكوارث بعضها أوحى باقتراب القيامة. ودائماً تنهض بغداد من دون بغددة. في آخر نوبات السقوط عاد البعض على الدبابة الأمريكية، بحجة القضاء على ديكتاتورية صدام حسين، ففوجئوا بانفراط العقد، وسرقهم الزمن، ولا يزال العراق أكثر مرضاً من ليلى العامرية، ومن ليلى البياتي التي تتعافى بالغناء والسينما.
فيلم "من عبدول إلى ليلى" تأريخ لسيرة الروح، روح عبد الإله البياتي وروح ابنته، في أحوال نفسية متباينة، وظروف سياسية عاصفة، وانعكاسها على علاقتهما، من الاختلاف والخصام إلى التفاهم والحب، وكذلك لأم ليلى التي تتحدث عن زوجها، وتكمل فراغاً لم يتطرق إليه الأب، وتركه الفيلم الذي يعتمد بناؤه الذكي على ما يوحي بالتداعي الحرّ، لا البناء الخطي التقليدي. اعتُقل الأب مبكراً، وغادر العراق مع صعود حزب البعث. لجأ إلى القاهرة في ستينيات القرن العشرين، مع صدام حسين، ويؤمن بديمقراطية لا يريدها حزب البعث، فيترك البلاد، ويعيش في فرنسا، ويتزوج فرنسية، ويعيش في منفى لغوي فلا تعرف ابنته كيف تتكلم العربية.
انتهى الفيلم، وتساءلت: كم تبعد بغداد؟ كدت أتساءل: كم يبعد العراق؟ وأجعل السؤال الأخير عنواناً للمقال، ثم اطمأننت إلى السؤال الأول عنواناً؛ فالعراق أكثر من عراق، بجغرافيا منقسمة تنطوي على ولاءات أجنبية، أو حكم ذاتي بعد ضعف الدولة المركزية. أما بغداد فواحدة
ينأى الفيلم عن الميلودراما، ولا يسقط في فخاج الحنين، أفضّل أن أقول: الحنين لا النوستالجيا؛ لأن الفيلم يناقش قضية الهوية اللغوية، بلا إدانة ولا إطلاق أحكام، فالأب لا يعاني ازدواجية، ولا يمارس وصاية على ابنته، ولا يفرض اللغة العربية التي تحاول أن تلحنها وتغنيها، وأن تتعلمها بصحبة الأب، وفي ألمانيا مع مهاجرين فلسطينيين وناجين من معقلات بشار الأسد، وفي القاهرة التي يقيم فيها أبواها في فصل الشتاء. ليلى، في البداية، تنطق كلمات عربية كتبتها بحروف فرنسية، تنطق الحروف ولا تستطعم الكلمات، لا تشعر بها. تردد كلمات أبيها: اسمي فلّينة. يضحك الأب ويصوّب: "فلانة"، أما الفلّينة فهي سدادة الزجاجة، وتضحك ليلى.
I am somenone
في القاهرة، حين يستقيم لسان ليلى بقدر يسمح بتذوق المعاني، يشرح لها موجّه مصري أثناء تسجيل الأغنية، معنى "I am somenone"، هي تظنها: "أنا لا أحد"، فيوضح أن المعنى هو "أنا شخص ما، لي اسم لا يهم أحداً، وعليكم التعامل معي كإنسان". كتب أبوها الكلمات التي استطاعت غناءها بلكنة خواجاتي محببة، مشحونة بالصدق والرغبة في الوصول إلى جذورها. وقبل الغناء غامرت ليلى بالذهاب إلى بغداد، على غير رغبة أبيها، بعد عاصفة الصحراء التي تلاها حصار دام ثلاث عشرة سنة. الحماسة الشخصية نابعة من ملاحظتها كيف تحول الأب، من مجرد مراقب يتابع أخبار بلاده في التلفزيون، إلى "عراقيّ بالكامل" كما تقول.
الفيلم الذي البالغ 92 دقيقة، تضمن فنوناً كالموسيقى والغناء والرقص والرسم (لوحات ليلى)، وانتهى بمشهد تتحاور فيها الظلال وإضاءة محسوبة، على مقطع من وجه ليلى، وهي تغني قصيدة لأبيها، تبدأ بهذه الكلمات:
اسمى فلانة
كالريح أمشي
عيوني عراقية، عربية
روحي عراقية بقلب أبيض في زمن أسود
حزني من الموصل، بغداد، غزة، دمشق
لملمت أشجاني بحثاً عن ملجأ
رفيقي ياللا نحن سوياً كالريح سنمشي
كالطير سنرجع.
لا يروي الفيلم تاريخاً مكتملاً، هناك مشاهد متفرقة أشبه بضربات فرشاة ترسم خطاً هنا وظلاً هناك، وتبقى في اللوحة فراغات عن الْتباس العلاقة بين الأب وصدام حسين في القاهرة هاربين من حكم عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، وبعد صعود البعث عام 1968. وليس حادث التصادم الذي أثّر على ذاكرة ليلى وأصاب ساقها هو السبب في اهتمامها بتقصّي الجذور. قررت الرجوع وهي بكامل صحتها وإرادتها: "أحتاج إلى التواصل مع ما فاتني"، من تاريخ العراق، ومن اللغة العربية. بهذا الدافع الذاتي أحبت الكلام مع الناس في الشوارع، وأن تسمع الناس تتكلم، على الرغم من الفضول المصري: من أين؟ تعيشين وحدك؟ متزوجة؟
على مستوى سياسي: يراهن الأب عبد الإله البياتي، البعيد عن وطن لم يحب سواه، على الحرية سبيلاً للخروج. يقول: "الاحتلال أعلى مراحل الديكتاتورية"، ويرفض وصاية بلد على آخر، والديمقراطية وحدها تضمن ألا تقرر قوة كبرى ما يجب على غيرها.
لا يروي الفيلم تاريخاً مكتملاً، هناك مشاهد متفرقة أشبه بضربات فرشاة ترسم خطاً هنا وظلاً هناك، وتبقى في اللوحة فراغات عن الْتباس العلاقة بين الأب وصدام حسين في القاهرة هاربين من حكم عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف
وعلى مستوى شخصي: تبحث ليلى عن ذاتها، ولا يرضيها أن تظل عالقة بين ثقافتين. لا يشغلها سؤال الهوية، بمفهومها المركب، المتفاعل والمتجدد، متعدد الأبعاد. ليلى تسعى إلى التعلم، في بداية الفيلم لا تعرف العربية، فتضطر إلى كتابتها بحروف فرنسية، وفي نهاية الفيلم يستقيم لسانها، وتنجح في نطق حروف حلقية مثل الحاء، وتسمع من صديقتها الفلسطينية اللبنانية فروقا بين اللهجات. إذا غنت باللهجة العراقية سيفهمها العراقيون والشوام والفلسطينيون، وإذا غنت باللهجة المصرية سيفهمها العرب جميعا. ليلى الفرنسية، ميلادا ولغة وثقافة، تريد الحصول على الجنسية العراقية، وتلحن وتغني كلمات أبيها: أنا حرة/ دمي بغدادي/ أنا جمرة/ إسأل أجدادي/ أنا ثورة/ بغني لبلادي.
وعلى مستوى تربوي: تتعجب الأم لعدم وجود اللغة العربية في مدارس فرنسية، على الرغم من كثرة أعداد الجاليات العربية، مقارنة بلغات تدرّس في فرنسا كالإسبانية والبرتغالية. هذا التغييب، في رأيها، يربك جيلاً جديداً يجهل جذوره جهلاً قد يغذّي العنف. وبهذه الملاحظة الذكية، من أم فرنسية لا تعرف العربية، أذهبُ إلى دراسة عنوانها "الأسرى المسلمون في أوروبا الغربية خلال القرون الوسطى المتأخرة" للمستعرب الهولندي بيتر شورد فان كونينجسفيلد (1943 ـ 2021) أستاذ الدراسات الإسلامية وعلوم الأديان بجامعة لايدن. كان زوجاً للرسامة العراقية عفيفة لعيبي. وفي بيته، عام 2006، أعطاني هذه الدراسة التي تكشف آثاراً عصرية لمأساة تنصير المسلمين بعد سقوط الأندلس:
"إرغام هذه الأقليات المسلمة على التنصير من أهم العوامل التي تفسر لنا النجاح الذي تلقاه اليوم الحركات الإسلامية الإحيائية في الغرب حيث يعاد اكتشاف الإسلام كهوية أصيلة مفقودة. هذا لا يهم فقط ما يُدعى الصحوة الإسلامية وسط أقلية مسلمة من أصل إسباني خاصة في إقليم أندلوسيا، بل يخص أيضاً المسلمين السود في الولايات المتحدة... لا يهم في هذا المجال معرفة ما إذا كانت هذه الأقليات تنحدر مباشرة... من سلف مسلم. المهم هو أن هذه الأقليات المسلمة تجد في الإسلام عنصر إلهام بحيث ترى فيه استعادة لمجد ثقافة وهوية مهضومتين، خاصة وأن الضغط على الإسلام ومحاربته في الغرب كان واقعاً تاريخياً.
كم ليلى في فرنسا، وفي غير فرنسا، غير ليلى البياتي مخرجة فيلم "من عبدول إلى ليلى"؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع