شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"سره الباتع" رواية سلطة تكره الثورة... كيف ترضي الله والشيطان في آن؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 13 أبريل 202303:52 م

"سره الباتع" ليس فقط عنوان قصة ليوسف إدريس، ولا مسلسلاً تلفزيونياً لخالد يوسف. وإنما هو طبيعة مرحلة. بعد عشرين شهراً في منفى اختياري بباريس عاد المخرج. وفي رصيف22، في 10 أيلول/سبتمبر 2021، كتبت مقالاً عنوانه "خالد يوسف يُخرج والأجهزة تنتج... أسئلة ما بعد احتفالٍ بطعم الاحتلال".

رحبتُ بعودته، وطالبتُ بحق المجتمع في المعرفة، وإعادة الحقوق إليه وإلى فتاتين تم اغتيالهما معنوياً، تحت أعين سلطة تراقب التغريدات وتحاسب عليها. لم تملك الفتاتان رفاهية الفرار، والاحتماء بإقامة فرنسية، ولا كفاءة التعاقد على تسويات يفرض فيها وليّ النعم شروطه، بعد "قرصة الأذن". وأبديتُ شكوكي في الإعلان السريع "عن أعمال يخرجها خالد وتنتجها الأجهزة".

لدى محتكري التديّن، ومحتكري الوطنية، تصور ساذج عن طبيعة ـ أو وظيفة ـ الآداب والفنون. السادة المحتكرون يلخّصون الفنون والآداب في التعبئة الوطنية والدعوة الدينية. العمل الأخلاقي، من وجهتي النظر هاتين، موجّه يحتشد بالخطابة الدينية أو الوطنية. كلاهما محروم من نعمة الخيال، لا يرى الفنون والآداب كاستعارات.

 السادة المحتكرون يلخّصون الفنون والآداب في التعبئة الوطنية والدعوة الدينية. العمل الأخلاقي، من وجهتي النظر هاتين، موجّه يحتشد بالخطابة الدينية أو الوطنية. كلاهما محروم من نعمة الخيال، لا يرى الفنون والآداب كاستعارات 

في أيار/مايو 2014 وجه المشير عبد الفتاح السيسي، المرشح للرئاسة، لوما إلى الممثل أحمد السقا؛ على قوله في فيلم "الجزيرة" عام 2007: "من النهار ده مافيش حكومة، أنا الحكومة"، فاعتذر الممثل للجنرال: "يا افندم، عيّل وغلط". وفي الاحتفال بعيد الشرطة، كانون الثاني/يناير 2015، أقسم السيسي للسقا وللممثلة يسرا أن الممثلين سيحاسبون على أدوارهم التمثيلية.

الفنان حر في اختيار قضاياه، وما يتوسل به من فنون المعالجة. وللمشاهد حرية انتقاد هذا الاختيار. النقد لا يمس اختياراً بديلاً زهد فيه الفنان. المحاسبة على الموجود، المتحقق، لا المتروك. لا يحق لأحد أن يملي على الفنان قضية أو وسيلة. وقد اختار خالد يوسف أن يراوح بين لحظتي ضعف: قبل الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، وقبل ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011. يسهل تناول اللحظة الأولى. أما الحالة الثانية فلا تزال تتفاعل. أسبابها قائمة، وجرحاها عادوا لينتقموا، ونبلاؤها بين السجون والمنافي واكتئاب ما بعد فشل الثورات. السطح الساكن خادع، ملتهب لا يمنح الاطمئنان للفنان. هل يمكن إرضاء الله والشيطان في آن؟

لعل هذا مأزق مسلسل "سره الباتع". لن ترضى سلطة تكره الثورة بأقل من تنفيذ شروط الكراهية، ولو من زاوية النظر إلى الوقائع. غير مسموح في الصحافة بوصف ما جرى في 30 حزيران/يونيو 2013 بأنه انقلاب. أما 25 كانون الثاني/يناير 2011 فيتناهبه الكتبة. يرونه مؤامرة أجنبية لإسقاط الدولة، ويتجاهلون مباركة الجيش، وتبني مطالب الشعب الثائر. هل يشارك الجيش في مؤامرة؟ وبعد انتهاء حكم الإخوان كان رجاء السيسي وضع "25 بجوار 30". وفي ديباجة دستور 2014 إقرار بأن "ثورة 25 يناير ـ 30 يونيه، فريدة بين الثورات في تاريخ الإنسانية، بكثافة المشاركة الشعبية التي قدرت بعشرات الملايين، وبدور بارز لشباب متطلع لمستقبل مشرق".

الثورة أكبر من واقعة اقتحام السجون. كانت زلزالاً لم تحتمله الآلة الدكتاتورية، استحقاقا للحرية يفوق اتهام الإخوان أو غيرهم. دعنا الآن من رؤية استشراقية أدت إلى أخطاء شكلية بسيطة، مثل ظهور الأعلام والخيام في ميدان التحرير مساء جمعة الغضب. لم يحدث. في أيام البراءة، طُرحت بعض أسئلة الثورة بصدق في فيلم "18 يوم".

عام 2011 لم تكن في مصر سلطة على صناع ذلك الفيلم إلا ضمائرهم. تغيب الحرية فتصنع دراما سابقة التجهيز. وتظل أسئلة الثورة تنتظر زمنا آخر. مساء الأربعاء 25 كانون الثاني/يناير 2017، استضافتني الفضائية المصرية الأولى، مع البرلماني السابق أستاذ العلوم السياسية جمال زهران، في برنامج مدته 45 دقيقة.

لن ترضى سلطة تكره الثورة بأقل من تنفيذ شروط الكراهية، ولو من زاوية النظر إلى الوقائع. 

في دقيقتين شرح الدكتور زهران لماذا كانت الثورة ضرورة؟ وفي دقيقتين قلت إن الثورة ليست نزهة. حالة مستمرة حتى تحقق أهدافها. لو عاد الشهداء ورأوا ملوك الفضاء العام في الحكم والاقتصاد والصحافة والثقافة سيظنون أن مبارك سيطر على "المظاهرات". وطالبت بكشف ثلاثة "ألغاز": أولها حريق مقر الحزب الوطني، وإهمال إطفائه. ثانيها: التحقيقات الخاصة بسيارة دبلوماسية بيضاء دهست المتظاهرين. ومن يأتي بحقوق نحو 550 شهيداً في جمعة الغضب، أغلبهم استشهد في وسط البلد الخالي من مراكز للشرطة؟ ثالثها: ألم تكن القوات قادرة على حقن الدماء في موقعة الجمل؟ ويبدو أنني تكلمت بما لا يرضي إدارة "الكونترول"، فأمر المذيع بإعلان انتهاء البرنامج.

تفشل الثورة فتتكاثر سكاكين الدراما. رسّخ المسلسل حكاية سرقة المتحف المصري. انتقاء نادر من وقائع يوم عظيم. في جمعة الغضب طاردتنا الشرطة، ودخلنا مول طلعت حرب. بابه مفتوح، ولا حرس. محال الملابس والذهب في متناول من يريد السرقة. والثائرون أكبر وأعفّ. لا أظن شيئاً سرق من "وسط البلد". صور المسلسل سرقة المتحف بسذاجة. على الفور تشكلت سلسلة بشرية يستحيل معها خروج اللصوص بأجولة التماثيل، إلا إذا كان "المخرج عايز كده". في كتابي "الثورة الآن"، نفيتُ "أن يكون لص أو مهرب آثار قد اقتحم المتحف مساء جمعة الغضب. الشباب كانوا شجعاناً، وبنوا سدودا منيعة، إلى أن وصل الجيش في الثانية فجراً".

الفنان حر في اختيار قضاياه، وما يتوسل به من فنون المعالجة. وللمشاهد حرية انتقاد هذا الاختيار. النقد لا يمس اختياراً بديلاً زهد فيه الفنان. المحاسبة على الموجود، المتحقق، لا المتروك. لا يحق لأحد أن يملي على الفنان قضية أو وسيلة

بثت الفضائيات مشاهد تدمير وسرقة قطع من المتحف، لكن "الأمين العام" للمجلس الأعلى للآثار زاهي حواس نفى عملية السرقة أو الاقتحام. رجحتُ في الكتاب، المنشور مسلسلاً عام 2011 وطبعته هيئة تابعة لوزارة الثقافة بداية 2012 أن "السرقة تمت صباح السبت، على أيدي لصوص محترفين من الداخل، يعرفون جيداً قيمة القطع الصغيرة وأماكن عرضها". ثم تضاربت تصريحات حواس الذي أصبح وزيراً للآثار، وقال إن "بعض المخربين تمكنوا من دخول المتحف يوم 28 يناير". في الحقيقة، وفي المسلسل، كيف تمكنوا من الخروج؟ الفنان، في أزمنة الحرية، يثير أسئلة تزعج السلطة. لا يتملق الجمهور، وإنما يقلقه ويستقوي بدعمه في أعمال تنقض الرواية الرسمية.

في انقلاب نابليون على الثورة ترحم فرنسيون على لويس السادس عشر، لما فاجأهم الجنرال بتتويج نفسه إمبراطوراً لنظام ملكي جديد، وتجاوزت سلطاته ما كان للملك المعدوم. وعلى كثرة قراءاتي عن الثورة، وما شاهدت عنها من أفلام، لا أعلم أن نابليون لعنها في إحدى ثرثراته. لولاها لظل قائداً مجهولاً في جيش الملك. الثورة رفعت الجنرال الطموح. ومغامراته أماتته مهزوماً في المنفى. وعاد النظام الملكي. وفي الحلقات التسع التي شاهدتها من مسلسل "سره الباتع" لم تصل الأحداث إلى الانقلاب النابليوني. لا أعرف ما وراء حماسة خالد يوسف لهذا "الاختيار"، ويسعفني قول السيد المسيح: "ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير". آمين.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard