في الرابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر عام 1964، كانت النهاية التراجيدية لأحد أهم الشعراء العرب في القرن العشرين، الشاعر العراقي بدر شاكر السياب؛ توفي غريباً عن وطنه في المستشفى الأميري بالكويت عن عمرٍ ناهز 38 عاماً، وبجواره على "سرير من دم"، قصائده الأخيرة التي تميزت - مع الاختلاف النقدي على قيمتها الفنية- بنزعة وجودية متفردة وجديدة على الشعر العربي الذي كان يُكتب آنذاك. إنها صورة فادحة لقصة تراجيدية: حُطام شاعر، وبجواره قصيدة موته.
هذا الموت المُبكر للشاعر الذي يُنسب إليه ريادة تجديد الشعر العربي، كان الحلقة الأخيرة من فصول المأساة التي عاشها السياب، وتَوَحد معها كشاعر ذي حساسية فائقة، حتى ترسخت في أعماقه، وراح ينهل منها ويسيل شعراً، خلد في عدة دواوين منها: "أزهار ذابلة"، "أساطير"، "حفار القبور"، "أنشودة المطر"، "المعبد الغريق"، "شناشيل ابنة الجلبي"، "قيثارة الريح"، "منزل الأقنان".
وحين يتعلق الأمر بشعراء الجيل الذي انتمى إليه السياب أو الجيل السابق عليه، أو الشعراء القدامى عموماً، لابد أن يُطرح السؤال الصعب: ما الذي تبقى من الشاعر؟ وهو سؤال مشروع لكنه شائك، فالزمن لا يرحم أحداً، حتى رامبو الذي كان يقول: "لم أكن أكتب، بل كان يُملى عليّ"، ربما لم يبق منه الآن، سوى حكايته الأسطورية وفي القلب منها عذاباته ومعاناته الهائلة في سبيل معانقة المجهول، أما شعره فلا شك أن غبار الزمن، سيجد طريقه إليه في وقتٍ ليس بعيد، حسبما يتنبأ عدد كبير من النقاد الفرنسيين.
عاش السياب في فترة تاريخية شهدت صراعاً أيديولوجياً وسياسياً هائلاً، وعلى الجانب الشخصي كان هذا الشاعر واقعاً بين براثن الجوع والمرض، والأزمة النفسية الناتجة عن إخفاقه في الحب
وبالعودة إلى السياب، فعندما يُصَوب هذا السؤال إلى تجربته الشعرية، الإجابة دائماً ما تكون: يكفي أنه مهد الطريق للأجيال التالية من الشعراء، للمضي قُدماً نحو حداثة شعرية؛ فهو أول من تجرأ وخلخل هيبة الأوزان العروضية للخليل بن أحمد الفراهيدي، والتي سُجنت فيها القصائد العربية لسنوات طائلة، غير أن صاحب "أنشودة المطر" لم ينفصل كلياً عن تراثه العربي، ولم يهجر تماماً الأوزان العروضية، بل كانت قصائده تتراوح بين القديم والجديد من ناحية الشكل.
ولأن الخوض في تلك المسائل هو جدل مُهلِك، ولا يحمل رؤية كلية دقيقة لما فعله السياب، فعلينا أن نوضح أن قضية تجديد الشعر العربي لدى السياب، كانت انعكاساً أو تمخضاً عن التحولات التي شهدها المجتمع العربي آنذاك، فقد أحس السياب أن ما يُكتب من شعر كلاسيكي، يبدو منفصلاً عن روح العصر، سواءً في المضامين أو في الشكل.
لقد رأى أن ثمة إيقاعاً جديداً تحتاجه القصيدة العربية، ومن ثم سلك بجرأة هذا الطريقَ ومعه كوكبة رائعة من الشعراء العراقيين في مقدمتهم نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي الذي ناصب السياب العداءَ، مع آخرين من أعضاء الحزب الشيوعي العراقي، وهذا العداء يُمثل فصلاً مأساوياً في حياة السياب بالإضافة إلى معاناته النفسية والجحيم الأرضي الذي كان يعيشه، حتى أنه قال في إحدى المقابلات الصحافية التي أجريت معه: "لقد أصبحتُ ثمرةً مُرّة، سقطت من شجرة البؤس والحرمان".
جسد هزيل ضاوٍ، يتحرك مُسرعاً نحو حتفه، في ملابس فضفاضه، متأبطاً كتاباً وأوراقاً تحمل سطورها قصائدَ جديدةً، هي وَنَسه وملاذه الوحيد في ظل الحرمان العاطفي الذي نُذر له، وهي أيضاً طريقته الوحيدة في إثبات الذات الحائرة المُعذبة، لكن الشعر لم يمنحه إلا عذاباً مضاعفاً، وألماً مستقراً، فكان كمن يحفر في الجُرح.
قضية تجديد الشعر العربي لدى السياب، كانت انعكاساً أو تمخضاً عن التحولات التي شهدها المجتمع العربي آنذاك، فقد أحس السياب أن ما يُكتب من شعر كلاسيكي، يبدو منفصلاً عن روح العصر، سواء في المضامين أو في الشكل.
وُلد بدر شاكر السياب في كانون الأول/ديسمبر عام 1926، بقرية جيكور التابعة لمحافظة البصرة بجنوب العراق، ومبكراً عانى من الحرمان العاطفي من الأمومة، حيث توفيت والدته وهو في السادسة من عمره، هذا الفقد ترك ألماً دفيناً في قلب الفتى، خاصة بعد أن تركه والده هو وشقيقيه، ليتزوج من امرأة أخرى. أصبح الطفل الصغير وحيداً، وانعزالياً يقضي وقته مع جدته لأمه التي ما لبث أن فقدها هي الأخرى.
تلقى تعليماً في مدارس مجاورة لقريته، حتى سافر إلى البصرة ليلتحق بالمرحلة الثانوية، ومنها انطلق إلى بغداد حيث التحق بالجامعة، (دار المعلمين العالية). وكان بدر في تلك الفترة وما قبلها يكتب القصائد الكلاسيكية، ويُنشدها في الندوات التي يُنظمها اتحاد الطلاب، وصار اسماً معروفاً في الوسط الجامعي، لكن جُرحاً جديداً كان قد انفتح في ذاته الهشة؛ فقد أدرك أنه لن يكن له نصيباً في الحب، لأنه كما أفضى لأحد أصدقائه"أنا قبيح هذه حقيقة، فمن ستحب هذا الوجه الدميم، والجسد الهزيل".
وبمرور الوقت أصبح الشكل الجسدي للسياب عقدة نفسية لم يستطع الفكاك منها، ومعها عقدة الفقر المدقع الذي أصابه منذ الصغر بفقر الدم، وكان ذلك سبباً جذرياً في تكالب الأمراض عليه. عاش بدر في هذه المرحلة بين براثن عقدتين: الشكل الذي كان يراه قبيحاً ومن ثم الإخفاق في الحب، والفقر.
وفي مرحلة تالية، انخرط بدر شاكر السياب في العمل السياسي، حيث انضم إلى الحزب الشيوعي العراقي، ثم انشق عنه بعد عدة سنوات، متجهاً إلى القومية العربية التي كانت في طور التبلور، بعد حصول بعض الدول العربية على استقلالها. لكن هذا التحول السياسي لم يُغفر له؛ فراح أعضاء الحزب الشيوعي وقادته يُناصبونه العداء، ويُشهِرون به، ويسخرون منه، حتى أن أحد قادة الحزب ومعه الشاعر عبد الوهاب البياتي -كما روى الكاتب عبد اللطيف أطميش في كتابه أيام السياب الأخيرة- طلبوا من رفاقهم أن يبصقوا على السياب عندما يرونه في الطريق، أو عندما يُقابلونه في أحد الشوارع والمقاهي.
وبدوره لم يصمت السياب تجاه هذه الإهانات، بل راح يثأر ويُصفي حساباته معهم، عبر مقالات كان ينشرها على صفحات المجلات، ثم جُمعت في كتاب وصدرت تحت عنوان: كنتُ شيوعياً، وقد خلفت هذه الأزمة اضطرابات نفسية كبيرة لديه، فكان يُلقي بنفسه في دور البغاء بعد أن فشل في الحب، ويروي الكاتب عيسى بلاطه في كتابه "السياب.. حياته وشعره" أن أحد أصدقاءه حكى له أنه شاهد السياب وهو جالساً على أحد الأرصفة المواجهة لدار بغاء شهيرة، وكان منهمراً في البكاء، ويُقطع رغيف خبزٍ ليُطعمَ كلاب الشوارع.
بين الصراعات والتمزق العربي
عاش السياب في فترة تاريخية شهدت صراعاً أيديولوجياً وسياسياً هائلاً، وعلى الجانب الشخصي كان هذا الشاعر واقعاً بين براثن الجوع والمرض، والأزمة النفسية الناتجة عن إخفاقه في الحب، وبين هذه اللحظة التاريخية الحرجة، والأزمات الذاتية، كان السياب يسير متخبطاً بين مختلف الانتماءات السياسية؛ ينتمي إلى الحزب الشيوعي، ثم ينشق عنه، ويلتحق بالتيار القومي العربي المعادي للسياسات الغربية، ثم ما يلبث أن ينشق عن هذا التيار، يعادي الزعيم عبد الكريم قاسم ثم يمدحه في قصيدة.
هذا التخبط كان له أثر سلبي على سمعة السياب، في الأوساط الأدبية والسياسية، وترددت حوله الكثير من الشائعات التي نالت من وطنيته خاصة بعد اتصاله بمنظمة الحرية الثقافية التي أسستها المخابرات المركزية الأمريكية، ومدت أذرعها في بعض البلدان العربية، ولكن من يتأمل بحيادية السيرة الحياتية لبدر شاكر السياب، ربما يُدرك أن صاحب "الأسلحة والأطفال"، كان ضحية للديكتاتورية العربية وكذلك للتسلط العربي وازدواجية المثقف.
هناك دائماً حذف أو تهميش من جانب من يتناولون سيرة بدر، لصفحات سوداء من حياته؛ فقد اعتقل السياب وسُجن عشرات المرات، وشُرد في الشوارع، وفُصل من العمل بسبب مواقفه السياسية، وهناك أسئلة تطرح نفسها: هل الانتماء السياسي لشخص ما لا بد وأن يكون أبدياً؟ أليس من حق البشر أن يُراجعوا مواقفهم وأفكارهم ومعتقداتهم؟ فما بالنا بالشاعر الذي هو ابن التناقضات والصراعات النفسية والفكرية؟!
وكيف يُنشد المثقف الحرية، ثم يقوم بدور الديكتاتور تجاه رفيقه؟! والسؤال الأخير: ماذا جنى السياب من هذا التأرجح والتخبط السياسي؟ بعض المثقفين والشعراء من مجايليه، كانوا يُلوحون بشكل مثير للضحك بـ700 ديناراً عراقياً تحصل عليهم بدر مقابل ترجمته لكتابين عن الأدب الأمريكي من اللغة الإنكليزية إلى العربية، قبل هذه الترجمة التي عكف عليها متحاملاً على الآلام الرهيبة التي تنهش جسده الهزيل، عمل السياب في وظائف عديدة، بعضها مُهين لموهبته الكبيرة، وكان يُفصل منها غالباً بسبب انتماءاته السياسية.
التخبط السياسي الذي كان سُبة في جبين السياب في حياته وموته، لم يكن إلا انعكاساً للأزمات النفسية والروحية والحياتية التي أحكمت وِثاقها على الشاعر، حتى تكالبت الأمراض على جسده الهزيل في سنواته الأخيرة
ويحكي الأديب والمترجم نجيب المانع في سيرته الذاتية "ذكريات عمر أكلته الحروف" عن السياب حين كانا يعملان في شركة نفط البصرة إبان العهد الملكي وكان عملهما ينحصر في نقل أرقام صناديق البضائع وتدوينها في بطاقات خاصة ويروي تلك الأحداث بألم: "شيء لا إنساني لشاعر مثل بدر شاكر السياب، أن يتصور المرء شاعراً ثري الإحساس، مفعماً بالجوع للدنيا، يقضي ثماني ساعات كل يوم في نقل أرقام صناديق إلى البطاقات مئات المرات كل يوم، وكان المدير الإنجليزي يعامله بجفاء وينهره أحياناً بسبب تقصيره في العمل وفي نهاية المطاف يفصله نهائياً، بدعوى كثرة شرود ذهنه وتقصيره في العمل".
التخبط السياسي الذي كان سُبة في جبين السياب في حياته وموته، لم يكن إلا انعكاساً للأزمات النفسية والروحية والحياتية التي أحكمت وِثاقها على الشاعر، حتى تكالبت الأمراض على جسده الهزيل في سنواته الأخيرة، مما جعله يستجدي المساعدة، ويقضي وقته في كتابة الخطابات إلى بعض معارفه ليساعدوه في تلقي العلاج،
وتُظهر رسائل السياب التي جمعها وحققها الكاتب خالد السامرائي مدى الإذلال الذي تعرض له هذا الشاعر الكبير وهو يطلب بعض المال لشراء الدواء أو تلبية احتياجات أسرته، وكانت النهاية أن يموت الشاعر وحيداً وغريباً عن وطنه، وعندما جاء الشاعر الكويتي علي السبتي بجثمانه ليُدفن في بلده، لم يجد أحداً من أسرته في المنزل، حيث تم طرد زوجة السياب وأبناؤه الثلاثة بسبب ديون الإيجار المتراكمة، وعند هذا الحد كانت المأساة قد بلغت ذروتها، واكتملت تجربة الشاعر التراجيدية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...