شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
هتلر في الخيال الشعبي يقلّده الإمام علي سيف الإسلام

هتلر في الخيال الشعبي يقلّده الإمام علي سيف الإسلام

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الخميس 14 ديسمبر 202310:53 ص

في توثيقها الفني لمصائر المعالم (بنايات، شوارع، ميادين)، باختفائها النهائي أو تشييد بدائل حديثة، تسعى النصوص الروائية إلى تثبيت المشهد الزائل، والتأريخ للجديد. هذا الجديد، ذلك الذي كان جديداً، سيخضع لقانون التقادم، ويصير ماضياً لا تستعاد ملامحه إلا بأعمال فنية توثّـقه. استعادة نظراً لاستحالة الإعادة. ولعل العوامات النيلية أوضح الأمثلة على اختفاء أماكن كانت مسرحاً للأشواق واللذات السرية، والغياب والتغييب، وعقد الصفقات، وتدبير المكائد. اختفت العوامات ولن يشهد على وجودها إلا ما أوردته أفلام وثائقية وروائية، وروايات أبرزها "قصر الشوق"، و"ثرثرة فوق النيل"، و"قصر الحب" لنجيب محفوظ.

وفي التوثيق للمكان توثيق آخر للزمان بمعنى الوقت، وبمعنى الزمان النفسي كما في رواية "خان الخليلي". تُذكر وقائع ربما يظنها القارئ من خيال المؤلف، لولا ورودها في كتب تاريخية، أو شهادات المعاصرين. هكذا تصير الرواية سجلاً فنياً يقاوم مفهوم الفناء.

في رواية "بين القصرين" ذكرٌ لمعالم تختفي، ونهوض الجديد. في ثورة 1919 كانت قهوة أحمد عبده مكاناً مختاراً لاجتماعاً فهمي عبد الجواد وزملائه، بسبب "ميزاتها الأثرية التي تجعلها بمأمن من العيون". ثم سجل محفوظ ـ في الثلاثية نفسها ـ اختفاء القهوة من الوجود. اختفاء يشبه المحو، وإزالة لتاريخ وثقته الرواية التي وثقت أيضاً حدثاً ذا دلالة، بعد أن غادر أحمد عبد الجواد بيت أم مريم، مستتراً بالليل، ساقه عسكر الإنجليز، ومنعوه من الانعطاف إلى بيته، وتجاهلوا دمدمته. وفي الفزع الكابوسي تذكّر وداع أم مريم: "إلى الغد"، أي غد؟! نظر الرجل الجبار الجليل إلى السماء، وخجل أن يذكر اسم لله وفي فمه آثار الخمر، وفي جسده بقايا عرق الغرام. وعند بوابة الفتوح، رأى في أضواء المشاعل جنوداً من البوليس المصري؛ فشعر بالأمان. رأى حفرة عميقة كالخندق تعترض الطريق، والأهالي يحملون التراب في المقاطف لردمها. عرف من زملائه أن فتوات حي الحسينية حفروها؛ لمنع سير سيارات الإنجليز، ويقال إن أحد اللوريات وقع فيها.

في توثيقها الفني لمصائر المعالم (بنايات، شوارع، ميادين)، باختفائها النهائي أو تشييد بدائل حديثة، تسعى النصوص الروائية إلى تثبيت المشهد الزائل، والتأريخ للجديد. هذا الجديد، ذلك الذي كان جديداً، سيخضع لقانون التقادم، ويصير ماضياً لا تستعاد ملامحه إلا بأعمال فنية توثّـقه

بعد مئة عام، قد يظن القارئ هذا المشهد خيالاً روائياً، يستهدف المفارقة بين الأمان والرعب، النشوة والإذلال، الجبروت ومواجهة مجهول يبلغ حد الموت. هذه الواقعة ذكرها المعلم يوسف أبو الحجاج في كتاب "مذكرات فتوة" الذي حققه صلاح عيسى. في الفصل الرابع حكى أن الأهالي، في فورة ثورة 1919، حفروا "خنادق" لمنع حركة اللوريات: "لقيت لك العساكر الإنجليز واقفين بالرصاص وأكبر شنب، بيه، باشا، ضابط، عسكري، أفندي، شيخ، يشيّلوه تراب يردم الخنادق دي".

أعمال نجيب محفوظ توثق معالم اندثرت، مثل حديقة الأزبكية ومسارحها، حتى سورها للكتب القديمة انشطر، وحملم شظاياه اسمه القديم "سور الأزبكية". كما تغيرت أسماء شوارع وميادين ارتبطت بالعهد الملكي قبل عام 1952.

وأفقياً كان حي العباسية على حدود العمران. وعلى الضفة الغربية للنيل كان الذهاب إلى الأهرام سفراً، رحلة يجب الاستعداد لها. وفي رواية "حضرة المحترم" لم تكن لعثمان بيومي خبرة بأماكن تناسب لقاءه، يوم الجمعة، بالموظفة الجديدة أنسية رمضان. اقترحت حديقة الأزبكية فاعترض؛ بحجة أنها مكان مكشوف. "أما حديقة الحيوان فهي بعيدة بما فيه الكفاية، مهجورة، خارج العمران، ممتنعة عن الرقابة، يخوض الترام إليها حقولاً وخلاء".

صحراء العباسية

في مجموعة "الشيطان يعظ"، تبدأ قصة "الظلام القديم" بهذه الكلمات: "ليلة لا تنسى. تأخر بهم الوقت في صحراء العباسية في ليلة من ليالي الخريف". بعد انتهاء مباراة للكرة، في ذلك الخلاء، انصرف الفريقان إلا ثلاثة رفاق: علي وممتاز وإسماعيل. هبط عليهم الليل، ورأوا الظلام للمرة الأولى. وأمام الخوف قال أحدهم: "فلنمض نحو المدينة قبل أن يدركنا الهوس". وسخر الأخر: نسينا أن نحضر معنا بوصلة".

الأماكن التي عرفها محفوظ سجل بدقة تفاصيلها، وسبل الوصول إليها، والخروج أو الهروب منها. أما الأماكن التي لم يخبرها، ولم ترها عيناه، فذكرها بتعميم على مساحة فضفاضة، ممتدة بلا نهاية. في قصة "اللقاء"، في مجموعة "الشيطان يعظ"، يتناول انتقال الشاب القادم من قريته، إلى فيلا آل فاضل في "الهرم"، من دون تحديد هل يقصد شارع الهرم؟ أمْ منطقة الهرم الممتدة طولاً وعرضاً. لكنه في مناطق الدرّاسة، والأزبكية والقاهرة الفاطمية عموماً، يتمهل في الوصف، لا يريد أن ينسى شيئاً مما يعرف؛ خشية أن يصير خبراً بعد عين.

أعمال نجيب محفوظ توثق معالم اندثرت، مثل حديقة الأزبكية ومسارحها، حتى سورها للكتب القديمة انشطر، وحملم شظاياه اسمه القديم "سور الأزبكية". كما تغيرت أسماء شوارع وميادين ارتبطت بالعهد الملكي قبل عام 1952.

المكان شاهد حي على لحظة عمومية لا تتكرر. في الحرب العالمية الثانية، لاذ الأهالي بالملاجئ في كل نوبة قصف. ترد هذه المشاهد في "السكرية" وفي روايات أخرى مثل "خان الخليلي"، وقد اضطرت الأسرة إلى الانتقال إليه، والأب يستنكر تبرّم ابنه أحمد عاكف من العيش في هذا الحي العتيق. يقول الأب بحزم: "هذا الحي في حمى الحسين رضوان الله عليه، وهو حي الدين والمساجد، والألمان أعقل من أن يضربوا الإسلام وهم يخطبون ود المسلمين". لخصت الجملة الشعور الشعبي العام بالألمان كمنقذين، أو على الأقل لا يريدون استعداء عدو عدوهم. ولا يختلف الحوار بين رواد القهوة، وبعضهم متعلم، عن هذا العشم في الأمان:

ـ لن يبلغ الأذى رأس الحسين.

ـ وهتلر ينطوي على احترام عميق للبقاع الإسلامية!

ـ بل يقال إنه يبطن الإسلام!

ـ ليس هذا عليه ببعيد، ألم يقل الشيخ لبيب التقي النقي إنه رأى فيما يرى النائم علي بن أبي طالب يقلده سيف الإسلام؟!

ـ ترى ماذا ينتظر الأمم الإسلامية على يديه؟

ـ سوف يعيد ـ بعد فروغه من الحرب ـ إلى الإسلام مجده الأول، وينشئ من الأمم الإسلامية اتحاداً كبيراً، ثم يوثق بينه وبين ألمانيا بعهود الصداقة والتحالف!

ـ لذلك يؤيده الله في حروبه!

ـ وما كان لينصره لولا جميل طويته، وإنما لكل امرئ ما نوى!

وفي جلسة عربدة يقول المعلم:

ـ أبشركم يا إخوان بأن هتلر ـ حين يفتح الله له مصر ـ سيلغي أمر منع الحشيش ويمنع شرب الويسكي الإنجليزي!

وفي نهاية الرواية يقول أحدهم "بلهجة اليقين: إن هتلر أمر رومل بالتوقف ليجنب مصر ـ قلب الإسلام النابض ـ ويلات الغزو، وإنه لولا رحمة الفوهرر لكان الألمان في القاهرة منذ شهر".

هنا تأريخ فني لسيكولوجية المقهورين تحت وطأة الاحتلال البريطاني، ينتظرون مخلصاً لا يقل إجراماً، لكنه عدو عدوهم.

ويقترن بهذا التأريخ توثيق لمكان بعيد عن خان الخليلي. حين أصيب الأخ الصغير، رشدي، بالسل نصحه الطبيب بالعلاج في مصحة بحلوان، حيث الهواء الجاف النقي.

ذاكرة الرواية حفظت تلك الحقيقة التاريخية لضاحية كانت رمزاً للتعافي من الأمراض الصدرية، قبل أن تجعلها مصانع الأسمنت جحيماً.

تغيُّـر ملامح المكان يقترن بتحولات عمرانية ونفسية وطبية أيضاً.

وفي رواية "الباقي من الزمن ساعة" يسجل الراوي حنين الجدة سنية المهدي إلى صورة تذكارية ترجع إلى عام 1936 في "بيت المهدية" في حلوان. أبوها عبد الله المهدي شيد هذا البيت عندما أصابه الروماتيزم، ونصحوه "بالإقامة في حلوان مدينة الصحة والجفاف"، وكان البيت من نصيب ابنته. الخاطبة زكّت سنية بهذا البيت عند أم حامد برهان، "فكان ضمن مغريات اختيارها". كان البيت "قطعة من الجنة". هنا تحوّلٌ في المكان؛ إذ صارت منطقة حلوان عنواناً للتلوث الصناعي.

في هذه الرواية أيضاً تحولٌ يخص الزمان. في مفتتح الرواية إشارة إلى أن عبد الله المهدي "دخل الإسلام بعدما كان قبطياً من صلب أقباط". وقبل نهاية الرواية تحكي سنية شيئاً من تلك التفاصيل، لحفيدها رشاد الذي نوى أن يؤلف كتاباً. كان "فرج" يرعى الأغنام، "وعشق الله والنساء، وقرر ذات يوم أن يفجر قنبلة في بيئته العائلية الساكنة". أعلن إسلامه وحمل اسم محمد المهدي، قائلاً إن النبي زاره في المنام ودعاه إلى الإسلام، "أما أهله فأكدوا أنه عشق فلاحة مسلمة!"، ونذر بكريّه للأزهر، وهو الشيخ عبد الله المهدي أبو سنية مؤسس بيت المهدية في حلوان.

ومن التحولات أيضاً ما يلخّصه قول أم سنية، حين دخل الراديو البيت: "اقتربت القيامة يا أولاد".

وتحاول رواية "عصر الحب" استعادة زمن غابر، عبر رسم ملامح المكان. إذ يتسرى عزت عبد الباقي بالسهر في الغرزة، وهي كائنة في حجرة المراقبة بحصن أثري، فوق قبو كان البوابة الشمالية للقاهرة. الغرزة تحتل موقعاً فريداً، على الحد الفاصل بين التاريخ والعصر. صار القبو ملجأ للمتسولين، وأمست حجرة رماة النبال غرزة للسكارى، وعمل "خفير الآثار خادما للجلسة، يهيّء الجوزة ويدور بها، ويشارك في التدخين والعشاء".

زمن الأحداث غير محدد بدقة، وهناك إشارات إلى بدايات القرن العشرين، بدخول عزت عبد الباقي "مدرسة" الحقوق، ثم يدخل ابنه سمير مدرسة الهندسة، قبل تحول المصطلح إلى "كلية" عام 1925. كما توجد مسارح في روض الفرج والأزبكية. قدّر حمدون عجرمة تكاليف تأسيس فرقة الفردوس (أجرة المسرح والممثلين والملابس والديكورات) بنحو خمسمئة جنيه. تحمل عزت هذا المبلغ المالي الذي أخذه من أمه. وفي الخطوة التالية سيكون الانتقال إلى مسرح الإليزيه بشارع دوبريه (شارع سليمان الحلبي) بوسط القاهرة.

وفي "حديث الصباح والمساء"، بعد زواج عطا المراكيبي من هدى هانم تفجرت مواهبه الإدارية، بعد استشارة "جيرانه من الأغنياء واليهود المدربين". وعلى عجل "اقتنى أراضي فضاء، وشرع في تشييد السراي الكبرى بميدان خيرت" القريب من قصر عابدين.

وفي قصص "صباح الورد" يحكي عن شارع الرضوان في حي العباسية، وسعر متر الأرض مليم. وقد انتقلت أسرة الراوي إلى العباسية: "والنقلة من الجمالية إلى العباسية في ذلك الزمان تعتبر وثبة من القرون الوسطى إلى أعتاب العصر الحديث"، حيث اختفت الأزقة وعربات الكارو والملاءات اللف والقفاطين والجبب والعمائم، وانتقلوا إلى مدينة تنعم بالخدمات العصرية من مياه وكهرباء وصرف صحي.

في التوثيق للمكان توثيق آخر للزمان بمعنى الوقت، وبمعنى الزمان النفسي كما في رواية "خان الخليلي". تُذكر وقائع ربما يظنها القارئ من خيال المؤلف، لولا ورودها في كتب تاريخية، أو شهادات المعاصرين. هكذا تصير الرواية سجلاً فنياً يقاوم مفهوم الفناء

ثم يتناول راوي "صباح الورد" التذبذب بين القديم والجديد، مكاناً وسيكولوجياً وأصدقاء، فإذا عاد إلى الحي القديم انتهز الفرصة، "حتى جرفت معي الأصدقاء الجدد فاكتشفوا على يدي عالماً غريباً، عشقوه، وأقبلوا عليه كالسائحين".

ويمضي الراوي في مسار التحديث، وصولاً إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ توالت الهجرات من حي الجمالية إلى العباسية، "وشقّ شارع أحمد سعيد وسط الحقول فسرعان ما اختفت الخضرة والأزهار". وما لبثت فيلات العباسية أن طالتها أيدي التشويه، فسراي آل القربي أغلقت، "حتى بيعت قبيل الخمسينيات، وشيدت مكانها أربع عمارات". وارتبطت تلك التحولات بسريان قيم حداثية مسّ طيفها نساء الطبقة الوسطى. مثال ذلك زوجة شكري بك بهجت الموظف بالداخلية والحاصلة على الشهادة الابتدائية، "لعلها أول امرأة في العباسية تظهر في الطريق سافرة بموافقة زوجها". بل إن أم الراوي تجادل قائلة إن سعد زغلول "زعيم الأمة نفسه يوافق على السفور، وعلينا أن نسير مع الزمن".

لا يتعلق المكان بحدوده المصرية المحلية، وإنما بالتفاعل مع المحيط العربي. ففي رواية "قشتمر"، يتكلم الراوي عن وجود "برتقال يافا" في بيت صديقه صادق صفوان.

أرّخ راوي "قشتمر" لعالم يتداعى.

أكتفي ـ في نهاية هذه البانوراما ـ بعم حسنين "صاحب الطابونة" الذي اشترى، في الأربعينيات، سراي حمادة يسري الحلواني (صديق الراوي)، وثمنها مئتا ألف جنيه. وهدم السراي، وشرع في إقامة أربع عمائر في مكانها "كانت أول سراي داخل العباسية الشرقية تتحول إلى عمائر، وتجذب فيما بعد إلى سكناها أناساً ما كانوا يحلمون بالوجود في العباسية الشرقية إلا كسياح أو عشاق متسللين".

كم تغيرت الأمكنة، ولا شاهد إلا ما حفظه الإبداع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و"وقائع". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image