قبل ثلاثين سنة عرفت قاصّاً، ونما بيننا مشروع صداقة. أصدر مجموعته القصصية الأولى، وأراد معرفة رأيي، فطلبت الإبقاء على الصداقة. وأمام إصراره استجبت مدفوعاً بالنية الحسنة، والرهان على سعة الصدر. نشرت رأيي بإيجاز لا يخلو من إشارات إلى مشكلات فنية، فقاطعني. ثم انصرف عن الكتابة، واختفى.
درسٌ مبكر علّمني تفادي الاستجابة إلى الإلحاح، وعدم تصديق الاستعداد لتحمل الانتقاد. حزنت على مصير الكاتب الذي صار مؤلف الكتاب الواحد، ولم أندم على المصارحة. لا يخلو مبدع في أي مجال من هشاشة، وفي بدايات السباق يتزاحمون بالأكتاف، ثم يصمد القادرون على تغذية الهشاشة بالعناد، هؤلاء الذين يتحلّوْن بشيء من القلق المحرض على التجويد.
الأحداث الصاخبة والوقائع الكبرى قد تغري أدباء بكتابات تأخذ حظها من الشهرة، ثم تنطفئ بانتهاء الصخب وزوال الحوادث. أما محفوظ فأعرض عن الزائل، واعتصم بما يبقى
صديقي الشاعر أسامة عفيفي فرح بقصيدته، في مجلة تنشر للكتاب الراسخين. وقابل نجيب سرور الذي قرأها، ورمى المجلة من رصيف مقهى ريش بشارع طلعت حرب، فاصطدمت بالرصيف المقابل. استعادها أسامة؛ اعتزازاً بقصيدته.
وفي اليوم التالي بادره نجيب بابتسامة: "القصيدة حلوة، ومن واجبي أعصُرك، لأختبر صلابتك. الشعر يحتاج إلى صلابة وجسارة، وصاحب الموهبة غير الأصيلة ينهار ولا يكمل". وسأله: "أنا عازمك، تشرب ايه؟". تمتع أسامة عفيفي بعناد يميز رعايا برج الثور. ولعل نجيب محفوظ الأكثر عناداً، وقد تابع الاهتمام بالآخرين، والصمت عن أعماله حوالي خمس عشرة سنة. وبعد جائزة نوبل، قال لغالي شكري: "انفعلت بأول مقال كتب عني... الصمت لا يطاق".
سيرة محفوظ ملهمة في زوايا أكتفي منها باثنتين.
الأولى هي تطوير الأدوات الفنية. لم تكن أعماله الأولى دالة على قفزات كبرى قطعها في سنوات قليلة. قصص محفوظ آنذاك تبدو دون مستوى قصص ألبير قصيري. قصص قصيري، التي ترجمها لطفي السيد منصور بعنوان "بشر نسيهم الله" (1941)، أكثر تطوراً من المجموعة الأولى لمحفوظ "همس الجنون" (1948). لكن محفوظ، بالدأب والمجهود المتواصل والإيمان بأنه حامل رسالة، شيّد دعائم عبقريته، وعرف كيف يصونها من التبدد، فلا يستعرض ولا يكتب من دون استيعاب قانون اللحظة التاريخية التي يريد تناولها. وجد في نفسه الشجاعة على الصمت، حين ارتبك هذا القانون، واستغلق فهمه بسبب ضباب الرؤية، في السنوات السبع التالية لثورة 23 يوليو/تموز 1952.
والزاوية الثانية هي التمتع بمعدة إبداعية طاحنة تحوّل الظواهر العارضة والفلسفات والأفكار إلى دراما إنسانية. ولعل الزمن نال من قصص ليوسف إدريس، وكانت انطلاقته عبقرية عام 1954، بمجموعته القصصية "أرخص ليالي".
الأحداث الصاخبة والوقائع الكبرى قد تغري أدباء بكتابات تأخذ حظها من الشهرة، ثم تنطفئ بانتهاء الصخب وزوال الحوادث. أما محفوظ فأعرض عن الزائل، واعتصم بما يبقى. تعتصره الفكرة، وتعصف به الكارثة، فيضعها في بوتقة، ويراقب ما يمكن أن تنتهي إليه المواد المصهورة. تنصهر الأفكار والألفاظ الخشنة في سبيكة، فينتمي المنتج إلى فن أوسع من جغرافيا أحداثه. بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967 المروعة لم يعد الصمت ممكناً، كما كان بعد 1952.
كلما ازدادت العتمة، تذكرنا السطور الأخيرة في "أولاد حارتنا"، قبل يوم الموعود: "وكانوا كلما أضر بهم العسف قالوا: لا بدّ للظلم من آخر، ولليل من نهار، ولنرين في حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب"
كتب محفوظ مسرحيات من فصل واحد وقصصاً قصيرة بطلها العبث. استجاب لنداء شغفه المعرفي، وقلقه الوجودي، وناقش المنطق غير المنطقي للسلطة المطلقة في التخلي عن مسؤولياتها. في قصة عنوانها "الجريمة"، في مجموعته القصصية "الجريمة" الصادرة سنة 1973، يتم تكليف مسؤول بكشف السر عن الأسباب الخفية لطمس معالم الجرائم في الحي الشرقي، وتواطؤ رجال الأمن على ذلك مع فقراء الحي الشرقي وسادة الحي الغربي. الجريمة هي الصمت، أن ترتكب الجرائم ولا يجرؤ الفقراء على الشكوى، هم الطرف الضعيف، في مواجهة الأغنياء والشرطة التي يعنيها حفظ الأمن أيّا كانت الأثمان. وفي الحي الشرقي يتمكن ضابط الشرطة من كشف سر المسؤول الغامض، ويواجهه:
ـ واجبنا هو المحافظة على الأمن.
ـ وهل يحفظ الأمن بإهدار العدالة؟
ـ وربما بإهدار جميع القيم!
ـ تفكيرك هو اللعنة.
ـ وهل تخيلت ما يمكن أن يقع لو حققنا العدالة؟
ـ سيقع عاجلاً أو آجلاً.
ـ فكر طويلاً، بلا مثالية كاذبة، قبل أن تكتب تقريرك، ماذا ستكتب؟
فقلت بامتعاض:
ـ "سأكتب أن جميع القيم مهدرة ولكن الأمن مستتب!".
لنرجع إلى البدايات. نشر محفوظ عشرة أعمال، أولها كتاب مترجم، ثم ثلاث روايات تاريخية، وروايات اجتماعية إحداها ذات طابع نفسي، ومجموعة قصصية. عشرة مؤلفات لا تغري النقاد. الصمت لم يمزقه الفوز بجائزة قوت القلوب الدمرداشية عن رواية "رادوبيس" عام 1943، وجائزة مجمع اللغة العربية عن رواية "خان الخليلي" عام 1946.
لو كان محفوظ قصير النفس، لاستغنى بكتابة السيناريو، وزهد عن الأدب. بحث عنه المخرج صلاح أبو سيف، واختاره لكتابة السيناريو. أبو سيف لم يطلب رواية لمحفوظ ليخرجها. كأنه انتظر أن يصبح محفوظ الشاب كاتباً شهيراً؛ فيعيد اكتشاف أعماله، ويخرج روايتيه "بداية ونهاية" و"القاهرة الجديدة" في فيلمين من كلاسيكيات السينما المصرية.
راهن محفوظ على الوقت، وللزمن دلالة يعيها أبطاله. في سن الأربعين، يرى كمال عبد الجواد قطار العمر يتوقف به، فلا يملك البائس اليائس إلا رثاء حاله: "ولن يمنى الإنسان بعدو أشد فتكاً من الزمن". وفي "الحرافيش" نتابع شمس الدين الناجي، في عودته ظهراً إلى داره، وقد ارتطمت قدمه بنحلة يلعب بها طفل ساءه سلوك الرجل، فصاح بغيط: "يا عجوز يا أعمى!". التفت إليه شمس الدين، ورآه في طول عنزة، وينظر إلى الفتوة بتحدٍ وجرأة. "ودّ لو يهرسه بقدمه. كظم غيظه ومضى. هذا جيل يجهله. إنه يعيش بفضله ويجهله. ويصرخ بعفوية بما يكتمه الراشدون. أليس من الأفضل أن نموت مرة واحدة؟".
لأعمال محفوظ مكانة بجوار فلاسفة ومبدعين في تاريخ الإنسانية تسري مقولاتهم عابرة للأجيال واللغات، من سقراط «تكلم حتى أراك"، إلى المتنبي والمعري وشكسبير وكازانتزاكيس، وسارتر، ومحفوظ...
تلك بدايات انحدار الفتوة الذي سيناجي نفسه "ما أفظع وحدتي!". وفي النهايات تتبدى آمال في بدايات جديدة. دورة الحياة طفولة وشباب وفتوة واضمحلال. النجاح يغري بطغيان يؤدي إلى تمردات على القوة، وثورات قصيرة العمر. وبعد الإخفاق يلوذ الخاسرون بالسخرية والتصوف الكاذب الاضطراري. وفي رواية "السمان والخريف" يفرق عيسى الدباغ، ابن طبقة قضى عليها الضباط عام 1952 "بين أن نتصوف حيال أزمة سياسية وبين أن نتصوف لوجه الله والدنيا مقبلة علينا". ظل عيسى أسيراً لأفكاره القديمة، وتنتهي الرواية وهو جالس تحت تمثال سعد زغلول. موقف عيسى من التغيير يفسره قوله إن "المصريين زواحف لا طيور". الزواحف بطيئة، وأقل قدرة على الحركة.
لأعمال محفوظ مكانة بجوار فلاسفة ومبدعين في تاريخ الإنسانية تسري مقولاتهم عابرة للأجيال واللغات، من سقراط "تكلم حتى أراك"، إلى المتنبي والمعري وشكسبير وكازانتزاكيس، وسارتر، ومحفوظ... حتى لو كانت "آفة حارتنا النسيان".
وفي كبواتنا، بعد فشل ثورة 25 يناير/كانون الثاني، نستدعي رد الشيخ عبد ربه التائه في "أصداء السيرة الذاتية"، على سؤال: متى ينصلح حال البلد؟ بقوله: "عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة". وكلما ازدادت العتمة، تذكرنا السطور الأخيرة في "أولاد حارتنا"، قبل يوم الموعود: "وكانوا كلما أضر بهم العسف قالوا: لا بدّ للظلم من آخر، ولليل من نهار، ولنرين في حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين