في يوم ربيعي لطيف، في تاريخ محفور على جلودنا 4/4/2004، وفي مدينة تسلب عقلك بهدوئها الجمّ ورائحتها العٓطِرة، وعلى سرير أبيض في مستشفى خاص، وضعت أمي أخي الصغير، دون أن تعرف أنه سوف يموت قريباً، وأنها ستتشح بالسواد لسنين بعدها، وأحب أبي الذي ينتظر الولد على نار، أن يحتفل بقدومه بإعداد "عقيقة". ذبح حينها ثلاثة عجول سمينة وجهز ليلة من ليالي ألف ليلة وليلة يتحاكى بها الناس.
"قبة سيدنا الولي دول نوروها
ما أحلى البيارق والناس بيزوروها"
بعد أسبوع من ميلاد أخي، أخذنا أبي معه في عربته الحمراء للسوق في وسط المدينة، لشراء حاجيات السبوع: ملبسات، شيكولاته، بونبون، حمص وسوداني ومكسرات، وعرائس حلاوة.
ثم حدث أمر عجيب ونحن في السيارة الحمراء، نمرح ونحمل الأكياس في حجورنا، نخشى إفلاتها، وفجأة، اختفت نور، الأخت الصغرى، ذات الثلاث سنوات.
ننظر حولنا ولا نجدها.
اختفت نور في غمضة عين. صرخنا ورفعنا أصواتنا: "فين نور؟ نور راحت فين؟ يا بابا يا بابا؟"، ثم أصاب الشارع حالة ارتباك لا تحتمل. الشارع المليء بالناس والزحام، وبدأت أبواق السيارات في الارتفاع، وأصوات تقول: "وقف العربية. وقف العربية يا عمممم، إلحق البنت هتموت"، ريثما أفاق أبي من نشوته وسمعنا.
"يا بابا نور اختفت"
"يعني إيه؟".
كان أبي يحب نور أكثر منا جميعاً، وبطريقة أو بأخرى، اعتبرها صبياً لفترة، راح يصاحبها ويقصّ شعرها كالصبيان، ويأخذها معه في كل خروجاته، يعلّمها ركوب الخيل، وتسلق الجبال، وإطلاق النار، وقصّ الحكايات، والتماهي في حلقات الذِكر.
كانت لحظة مدهشة وعجيبة، حين أوقف أبي سيارته أخيراً، فإذا بشخص غريب، يخرج من محله على الناصية، ويجري ليوقف السيارات المسرعة، ويخبط رأسه بكلتا يديه محوقلاً، ويشير إلى السائقين بأن هناك جسداً صغيراً متربعاً على الأرض، جسداً ضئيلاً أبيض، لا يتوقّف عن الضحك، سقط من الشباك المفتوح، ربما، (هل كان الشباك مفتوحاً أصلاً، ولو كان مفتوحاً فهل يتسع لهذا الجسد الرخو؟).
كانت الليلة العجيبة، الاحتفاء بالطفل الذي سيموت بعد ثلاثة أعوام ونصف منها. الاحتفال بالجسد الزائل، وبالذكرى التي لا تغيب عن البال، وبالغصّة في القلب: "هل كان أبي سيحتفل لو علم أن ابنه كده كده حيموت؟"... مجاز
عجيب كيف لجسد طفل أن يتشبّث بالحياة إلى هذه الدرجة وهو لا يدرك عنها شيئاً. هل نور تحب الحياة الآن بنفس القدر أم تتوق للموت وتتلهّف إليه؟
حدث أمر لم ندرك ماهيته إلى هذه اللحظة. شعرنا فقط بأن ما حدث أقرب إلى المعجزة، "وإن البنت كانت حتروح على فاشوش". ربما نجت نور لتفدي أخي في ذلك الحين، ويموت بعدها بسنين، أو أن سقوطها كان رسالة تقول بأن شيئاً سيئاً سوف يحدث علينا انتظاره (من ينتظر موت طفل ويستعد له أصلاً؟).
كيف لها أن تسقطـ وتقع جالسة بدون أي خدش أو كدمة أو نقطة دم، أو أن يصطدم بها أي شيء من خلفنا؟ كيف لم نسمع صوت ارتطامها بالأرض؟
في البدء، كان ميلاد نور خفيفاً وبلا ألم، كما تقول أمي "بأنها محستش بحاجة وهي بتولدها وموجعتهاش". تقول ذلك وهي تبتسم، فطبيعي أن يكون وجودها خفيفاً، لا يخلف أثراً وراءه.
عاد أبي بنا والشمس ترسم ظلاً خفيفاً للشجرة أمام بيتنا، محملين بالدهشة والصدمة، وبأشياء السبوع، وبنور، لنقصّ على أمي ما حدث.
ثم كانت الليلة العجيبة، الاحتفاء بالطفل الذي سيموت بعد ثلاثة أعوام ونصف منها. الاحتفال بالجسد الزائل، وبالذكرى التي لا تغيب عن البال، وبالغصّة في القلب "هل كان أبي سيحتفل لو علم أن ابنه كده كده حيموت؟".
يرقص يرقص ويقول:
"إللي شاف حمص ولا كلشي
حب واتلوّع ولا طالشي"
في الشارع الواسع، أمام البيت وتحت أسلاك اللمبات النيون الحمراء، والخضراء، والزرقاء، والبيضاء، كانت اللّيلة الكبيرة، وعلى الكراسي الزرقاء جلس الأقارب والأصحاب والجيران، يتغنون ويهلهلون، ويأكلون من العقيقة، ويحلون بالرز باللبن، ويشربون الشاي الساخن في أكواب بلاستيكية، ويوزع عليهم في علب بيضاء، الترمس والفشار والمقرمشات.
بينما الليل يسقط على المدينة، راح الشيخ "فايد" ينشد ويغني، ويهز رأسه المغطاة بالعمامة والتلفيعة، ويتمايل في حركات صوفية خاشعة، ومن خلفه تجلس الفرقة الموسيقية تعزف، وتدق على الطبول والرِق. كان الأمر أشبه بحلقة ذِكر لكن بعقول مخمورة.
"الليلة الكبيرة يا عمي والعالم كتيرة
مالين الشوادر يابا من الريف والبنادر"
وقلوبنا في أجسادنا الصغيرة تخفق طرباً وزهواً، والأرواح تهيم في سماء بلا غيوم، ونحن نرسل أبصارنا إلى الكون من حولنا، ونغيب.
*****
هنالك لحظات لا يمكن تجاوزها، كتلك اللحظة التي نزلت فيها من البلكونة إلى الشارع، وقفت وسط الجموع مع بنات العم والخال، أشرئب برأسي وقامتي القصيرة لأرى المسرح الخشبي المنصوب أسفل البيت، وأتمعّن في الناس بعيوني الضيقة. راودني شعور طاغ حينها بأنني نملة، نملة صغيرة لا ترى، يمكن أن يدهسها أي أحد بسهولة ورغم ذلك كان الكون لي ويسعني، ثم أتذكر أمي تقف بجانبي، وتشير بإصبعها إلى الشيخ فايد وتقول لي: "اسمعي. اسمعي واحفظي".
نظرت إليها فوجدتها تمد كفيها إلى أعلى في ابتهال، ودمعة حارقة تكمن خلف ابتسامتها. فوقفنا نغني خلف الشيخ، ونردّد الكلمات، ونسقط معانيها على أخي في أذهاننا. لكن ابتهالاً بعينه ظلّ في عقلي إلى هذه اللحظة. أسمعه بين الحين والآخر بصوت ياسمين الخيّام، فتتدفق الدموع من عينيّ .
أمي امرأة هشّة ومكلومة، بيضاء يحيطها سواد حزين، ترسل أبناءها إلى القبور في الصباح، وتلحف بناتها بالغطاء في اللّيل... مجاز
ربما حدث في الليلة التي أحكي عنها أو لم يحدث، أن نامت أمي مطمئنة، ورأت في المنام أن أحداً منحها أربعة إيشاربات وردية، فسّرتها أمها في الصباح بأنها ستنجب أربع بنات، وهذا ما حدث فعلاً.
*****
في يوم غبت عن البيت، كنت في تيهٍ معهود، وعندما عدت، كان كل ما أراه غارقاً في خضرة طازجة وصارخة: جدران البيت، السلالم للسيراميك، الباب الخشبي، العتبة، السجاد، الأرائك، الآسرة، الستائر، الملابس، أيادي الناس، الوجوه، حتى كفن أخي.
يتكدّس المعزون في غرفة خضراء ضيقة، ألمح رجالاً أعرفهم، وأخرين تقع عليهم عيناي لأول مرة. وجوه تشخص في وجوه، يبكون وتنفطر قلوبهم، يجلسون في صمت مريب، بينما أرى من زاوية صغيرة بين كتفي رجلين، جسداً ضئيلاً، فص لؤلؤ في إضاءة صفراء مزعجة، في غرفة لصيقة بالأرض، فأندسّ بين الأجساد الرخوة، أذهب إليه وأزيل اللحاف الأخضر عن جسمه، فيصرخ فيّ أحد الرجال بأن أبتعد، وأن أخلع العباءة السوداء لأنني صغيرة.
كل ما هنا غارق في لون أخضر، بينما جسده الميت، لونه أبيض بياضاً حليبياً، وظل يتحاكى الناس لسنوات بعدها بأن أخي كان شفافاً، وأن الحشايا كانت حية وظاهرة للأعين، ما أوقعهم في صمت وحيرة، وأنا أصدّقهم.
فلو قال أحدهم إن محي تحدث في المهد لصدقته أيضاً، فقد رأيت مشهداً قبل أن يوارى الثرى، جعل الرؤية ضبابية، وأحالني إلى نقطة لا أفرّق فيها بين العوالم.
أرسلت الشمس شعاعاً خفيفاً إلى وجه أخي، تدفقت جزيئاته عبر فتحة الشباك، في لون ذهبي لامع. راحت الجزيئات تتراقص، وإذا بخيوط رفيعة وبالغة الدقة، تتدفّق من الجسد الصغير، خيوط خضراء، كجذور النباتات، تكبر وتكبر في الأشعة الذهبية... مجاز
أرسلت الشمس شعاعاً خفيفاً إلى وجه أخي، تدفقت جزيئاته عبر فتحة الشباك، في لون ذهبي لامع. راحت الجزيئات تتراقص، وإذا بخيوط رفيعة وبالغة الدقة، تتدفّق من الجسد الصغير، خيوط خضراء، كجذور النباتات، تكبر وتكبر في الأشعة الذهبية، وإذا بالجسد يرتفع إلى أعلى، واللون الأخضر يزهو وينثر حبيباته، وإذا بنسمة هواء خفيفة تلمس وجوه المعزيين، ورائحة مسكرة تعبق المكان.
رحل أخي إلى السماء، بجسد أخفّ من ريشة وأصغر من حبة لؤلؤ. ذهب كنبي صالح، لم يزدد قومه إلا ضلالة ولم يهدهم إلى صراط.
خرج المعزوون من البيت، حاملين نعشاً صغيراً بداخله جسد أخي، وتدفق الناس كالنمل في الشارع، وخلفهم أمي و النسوة المتشحات بالسواد يصرخن، ويعددن موته.
*****
دفن أبي أخي الصغير وعاد إلى البيت، نفض التراب عن يديه وملابسه، أغرق رأسه في الماء، وأغلق الباب، وجلس معنا على الأرض لنأكل. وضع بضع لقيمات في فمه وبكى، وأمي المتشحة بالسواد تبكي معه، وتسأله عن الصوت الذي يأتي همساً من غرفة النوم. تقول: "محي يبكي، شكله جعان، سامعين الصوت؟ روح هاتلي ابني من جوة".
يغسل أبي يديه وينفض ملابسه، ويعود للجلوس برفقة أمي، لتسأله للمرة الألف عن الصوت الباكي الذي تسمعه، ويهمس لها في كل ثانية. بعد أيام يخرج أبي حزيناً من البيت، ويعود مكسوراً، يسأل عن الابن الميت، ثم يغيب.
أبي رجلٌ قوي، يحمل غضبه وسخريته اللاذعة على يده أينما ذهب، أضحى رجلاً حزيناً، وصامتاً. أنظر إليه وأستغرب الصورة.
أمي امرأة هشّة ومكلومة، بيضاء يحيطها سواد حزين، ترسل أبناءها إلى القبور في الصباح، وتلحف بناتها بالغطاء في اللّيل.
يمر الوقت ويعتاد أبي الغياب، ويحبه، وتعود أمي للسؤال عن أخي، ثم يبدأ الوقت في الزحف على صدورنا، وتمر السنين ولا ندرك بعدْ كيف كان ذاك الموت، ولا كيف أتى أخي إلى الدنيا ولماذا ذهب، لكن شعور الفقد يرافق خطواتنا.
كلما رأيت طفلاً رضيعاً راودني شعور الخوف، ولا يتمكن عقلي من تخيّل الطفل يكبر بشكل عادي، وأرغب بسؤال أهله: ألا تخافون مثلي من أن يموت؟ ألا تخافون مثلي من زوال هذا الجسد الصغير؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...