شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
ثلاثة دروس ينبغي ألا ننساها من حياة محمد أبو الغيط

ثلاثة دروس ينبغي ألا ننساها من حياة محمد أبو الغيط

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتطرف

الجمعة 8 ديسمبر 202312:13 م

تبتلعنا الأيام بطريقتها الأقسى؛ الحرب والموت، فنشعر أنها دارت بمعدل أسرع لأننا لم نعشها، ونفاجأ بأن دورة كاملة قد تمّت، وما كان بالأمس مرّ عليه عام، ومنه الرحيل المؤسي للكاتب والصحافي المصري البارز محمد أبو الغيط، قبل أن يُتم من العمر خمسة وثلاثين عاماً، بعد معركة شجاعة مع مرض السرطان، ومشوار مهني وإنساني قلّ مثيله، ربما ينبغي لنا أن نتذكر دروسه التي قد تشرح لنا أيضاً، لماذا كان لأبو الغيط هذا التأثير الكبير.

الدرس رقم 1 : الصحافة والتفاصيل

لم أكن من المعجبين بالفكرة القائمة وراء مقال أبو الغيط الذي صنع شهرته بعد أسابيع من ثورة يناير، بعنوان "الفقراء أولاً يا أولاد الكلب". في رأيي كانت الفكرة ساذجة، شعار رومانسي أنجبته تلك الأيام الحبلى بالأحلام، خواطر تناسب عالم المدونات الذي نشر عبره مقاله أو تدوينته. فـ "الصراع حول الدستور والانتخابات ونظام الحكم" الذي وصفه أبو الغيط في مقاله بأنه "عبارة عن كلام جرايد، لا يمثل أي شيء إلا بقدر تأثيره المباشر جداً على فرص عملهم (الفقراء) ورواتبهم وظروف معيشتهم"، خالصاً إلى نتيجة مفادها أن "قطاعاً كبيراً جداً من الناس يشتمون الآن الثورة والثوار والسياسيين جميعاً، بعد ارتفاع أسعار كل السلع تقريباً هذه الأيام".

ليس سراً أن محمد أبو الغيط نشأ في عائلة تنتمي إلى الإخوان المسلمين، وأنه كان أحد أشبالها ثم عضواً فيها، قبل أن يتحول إلى ناقد شديد الصرامة للإسلام السياسي، موجهاً نقداً موجعاً لمختلف تنظيماته

لم يكن المقال في رأيي – ولا يزال – سوى انسياقاً وراء شعبوية استغلتها وقتها مؤسسات إعلامية وبرامج تلفزيون غير بريئة، لتقوم بعملية "سلق" للعملية الدستورية، أدت بعد فترة ليست بالطويلة إلى انهيارها فوق رؤوس ساكنيها، ومن ثم انهيار التجربة كلها، ولم يؤذ ذلك الفقراء فحسب، بل ضمّ إليهم طبقات ظنّت عبر كفاح السنين أنها نجت من قيد العوز.

لكن تلك الرومانسية الشعبوية لم تكن سبب انتشار مقال أبو الغيط، ولم تكن بالطبع سبب اهتمامي به، كان السبب في مكان آخر؛ أبدى أبو الغيط منذ مقالته/ تدوينته الأولى اهتماماً فطرياً وبالغاً بما ينبغي أن يهتم به كل صحافي- وخصوصاً كاتبي المقالات الذين يظنون أحياناً أن الجهد البحثي لم يعد وظيفتهم- وهو التفاصيل والمعلومات التي لم يبحث عنها أحد.

في تدوينته، وثّق أبو الغيط، بالصور والأسماء، حياة وموت المجهولين الذين لم يتذكرهم الآخرون بوصفهم أرقاماً، فيوثقهم محمد بأدق التفاصيل، حتى عنوان البيت وعدد الطلقات القاتلة: "الشهيد محمود خليل ذو الـ 23 سنة - عنوانه: 10حارة ابو زيد، متفرع من شارع الصبان بالشرابية. أصيب بطلقتين يوم الجمعة 28، وتم العثور عليه بعد 3 أسابيع". "الزوجة أم يوسف، ومحمد صادق. استشهدا في مركز الواسطى بمحافظة بني سويف، تاركين ثلاثة أيتام" ،"الشهيد محمود حلمي ذو الـ 27 سنة - الإسكندرية - خطب قبل الثورة بشهر وكان من المقرّر أن يتزوج في مايو. استشهد في ميدان المنشية برصاصة في الرأس".

في تدوينته (لنتذكر مرة أخرى أنه لم يكن مقالاً في جريدة ولا عملاً مدفوع الأجر)، يقوم أبو الغيط – الذي كان طبيباً شاباً في تلك الأيام- بتوثيق الأسماء والحكايات بالصور التي تتناسب و"فكرة المقال". إنها صور ستديوهات التصوير الشعبية، حيث يلتقط الفقراء صورهم فـ "تكشفهم ملابسهم الرخيصة ومحاولاتهم للتأنق أو ادعاء الرومانسية، بنظرات متأملة، متشبّهين بمن يرونهم في التلفزيون أو في شوارع المناطق الأرقى". إنها صور "السرسجية" التي نسخر منها حين نراها، قائلين عبارات من قبيل: "مين كنج الرومانسية ده؟".

يتناسب اختيار تلك الصور، التي يسخر منها عادة جمهور الطبقة الوسطى، مع فكرة "نسيان الفقراء" التي يطرحها المقال، ما يحدث التأثير المطلوب لدى المتلقي. إنه فهم ممتاز لعمل الصحافة، لكنه، وهذا هو الأهم، قائم على معلومات تفصيلية وصحيحة وموثقة، ما يحفظ للعمل الصحافي قيمته، حتى لو اختلفت معه في الرأي.

الدرس رقم 2 – اختبار التغيير أو "دموع سارة حجازي"

ليس سراً أن محمد أبو الغيط نشأ في عائلة تنتمي إلى الإخوان المسلمين، وأنه كان أحد أشبالها ثم عضواً فيها، قبل أن يتحول إلى ناقد شديد الصرامة للإسلام السياسي، موجهاً نقداً موجعاً لمختلف تنظيماته، وكان أهم ما في هذا النقد أنه جاء ممن اطلع على أدبيات تلك الجماعات وطريقة تفكيرها، ولكنه في هذا ليس وحده، فالمنفصلون والمتراجعون عن الانتماء إلى ذلك التيار ليسوا قلة، ولكن الذين انفصلوا عقلياً عن الثقافة الأصولية هم القلائل والنادرون، وكان أحد أهم ملامح ذلك الانفصال هو موقف أبو الغيط من وفاة سارة حجازي، الناشطة الكويرية التي أنهت حياتها في منفاها بكندا، بعد معاناة نفسية شديدة مع السجن، ثم الهجرة ووفاة والدتها بعيداً عنها.

حتى الذين لم ينتموا يوماً إلى الإسلام السياسي قد يملكون موقفاً متحفظاً أو معادياً لحقوق المثليين الذين كانت سارة حجازي واحدة من رموزهم، لو جاز استخدام ذلك التعبير، وواقع الأمر أن بعض المعادين للإسلام السياسي يزايدون على ذلك التيار في الموقف من "العادات والتقاليد"، خصوصاً في إطار محاولتهم إثبات أنه يمثلون "الإسلام الصحيح" أو "المعتدل"، أو لمجرّد قناعتهم الحقيقية بما ينبغي أن تكون عليه "الرجولة" أو "الأصالة". وبالطبع، فإن ثمة آخرين ممن يختارون الصمت في مثل تلك القضايا، بغض النظر عن قناعاتهم، خوفاً من ردة فعل المجتمع، أو حتى بعض مواد القانون.

لم يكن أبو الغيط أحد هؤلاء، كان موقفه من سارة حجازي هو موقفه من كل مضطهد، وتحت عنوان "سارقو الدموع"، كتب يقرّع بعض منتسبي الإسلام السياسي الذين غاظهم التعاطف مع واقعة انتحار سارة حجازي. في مقاله المنشور في يونيو 2020 يكتب: "كشفت موقعة سارة من جديد عن ارتباك من يرون أنفسهم أصحاب (السيادة على المجال العام)، مشكلتهم مع غيرهم مجرّد وجوده لا أفعاله".

إنها كلمات خاف أن يكتبها بعض من يعتبرون أنفسهم علمانيين أو ليبراليين.

كان موقف أبو الغيط من سارة حجازي هو موقفه من كل مضطهد، وتحت عنوان "سارقو الدموع"، كتب يقرّع بعض منتسبي الإسلام السياسي الذين غاظهم التعاطف مع واقعة انتحار سارة حجازي

الدرس رقم 3 – إلى آخر نفس

في إحدى محاضراته، يضرب الفيلسوف وعالم الأعصاب الأمريكي سام هاريس، مثالاً على حجّته بضرورة التفاؤل إلى آخر لحظة. يقول: "حتى لو أخبرك الطبيب أنك مريض بنوع قاتل من السرطان، وأن أمامك أسابيع قليلة لعيشها، وأنه لا علاج لهذا الأمر ولا مهرب منه، فإن التفاؤل مهم".

لا يتحدث هاريس هنا عن التفاؤل بمعنى الإيمان بالأوهام، بل عن قرار التمتع بالحياة، بالشمس، حتى آخر لحظة، فهذا هو الموقف الوحيد الذي يمكن أن يعد صحيحاً.

نحن نعرف الآن أن أبو الغيط فعل ذلك على طريقته، بالكتابة، التي جمّعت فيما بعد لتصدر في كتابه "أنا قادم أيها الضوء"، لكن الدرس الذي قدّمه محمد هنا يتفوق على مجرد "الشعور بالحياة"، وصولاً إلى القدرة على الإتقان حتى آخر لحظة، بالكتابة الرفيعة التي قدمها خلال صراعه مع المرض، تابع الآلاف ما كانوا يظنون أنه غير ممكن؛ قدرة الإنسان، حتى خلال مواجهة نوع متوحش من السرطان، على أن يكون بارعاً ومبدعاً ودقيقاً.

إنه الإتقان نفسه، واصلاً بين مرحلتين لم يكن مطالباً به خلالهما؛ مرحلة المبيت في مستشفيات وزارة الصحة حين كان طبيباً شاباً يكتب تدوينته عن الفقراء، إلى النوم فوق سرير السرطان في إحدى مستشفيات لندن، يكتب تحت الضوء الذي يقترب منه.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image