كنت شاباً لم يُكمل عامه الـ22 يومها، سنواتي القليلة تلك تحوي ثورة شاركت فيها، ديكتاتوراً استطعت وجيلي أن نخلعه من عرشه بعد حكم استمرّ 30 عام، وميداناً أذهب إليه لأقول لـ "أتخن" رأس في البلاد: "لا". ووقتها كانت الرؤوس "التخينة" تسمع وتُنصت وتُلبي ما نريد، لذلك لم يكن غريباً أن يتملكني الزهو، وربما الغرور الذي دفعني لإدانة الأجيال السابقة، وتحديداً تلك المولودة منذ سبعينيات القرن الماضي، لأنها رضيت بأن يحكمها رجل مثل مبارك لمدة ثلاثة عقود دون أن تثور ضده أو تسقطه.
نعم كنت أحمل تجاههم شعوراً سلبياً، حتى القريبين مني، الذين كانوا ينصحوني بعدم الاشتراك في أي فعاليات تلت ثورة يناير 2011، ورغم أن نصيحتهم كانت بدافع الحب والخوف علي، لكني كنت أنفر من ذلك، متهماً إياهم بأنهم "جبناء" لا يقدرون على قول "لا"، حتى الاستحقاقات الانتخابية، من استفتاءات ومجالس نيابية وما إلى ذلك، كان الواحد منهم يشارك فيها لأول مرة في حياته، فكيف أستمع لنصائح هؤلاء؟
لكن، لأن الزمان منصف أحياناً، فبعد 13 عام من قيام ثورة 25 يناير، وجدت نفسي تماماً مثل الذين أدنتهم سابقاً، فإذا كان مبارك قد حكمهم 30 عاماً، فها أنا يحكمني السيسي لمدة 10 سنوات، وبعد الانتخابات الرئاسية التي تُجرى الآن، ستمتد سنوات الحكم إلى 14 عاماً قابلة للزيادة بكل تأكيد، وإمعاناً في إنصاف الزمن للسابقين، فميادينهم التي امتلأت بلافتات تؤيد مبارك هي نفس مياديننا التي امتلأت بلافتات تؤيد السيسي.
لم يكن غريباً أن يتملكني الزهو، وربما الغرور الذي دفعني لإدانة الأجيال السابقة، وتحديداً تلك المولودة منذ سبعينيات القرن الماضي، لأنها رضيت بأن يحكمها رجل مثل مبارك لمدة ثلاثة عقود، دون أن تثور ضده أو تسقطه
نفس المقاسات والألوان مع اختلاف الاسم فقط، أما الأسطوانات التي سمعوها علىى مدار سنين من أن عصر مبارك هو "عصر الاستقرار" و"إلى الأمام يا قائد"، فنسمعها الآن مكرّرة بأصوات كريهة، وكما كان "نوّابهم" يصيحون تحت القبة: "معاك لآخر المشوار"، فإن "نوابنا" يكادون يصابون بالفتاق وهم يصرخون: "حتى تحترق النجوم ويفنى العالم".
إذن، لقد صرت مثلهم تماماً. أشاهد كل ما يحدث حولي وبي، هناك رئيس يحكمني لمدد لا متناهية، ولا أقدر على الحركة أو التظاهر في أي ميدان، لأن ذلك صار بعيداً، فأصغر رأس في البلاد الآن لن تضرب برأيي عرض الحائط فقط، بل إنها قادرة على حرماني من الحرية وإيداعي في أي سجن، وكما فضّلوا هم الابتعاد والصمت وهم يرون آخرون يقرّرون حياتهم، وأسميت ذلك جبناً وخضوعاً، فها أنا جبان وخاضع لأني فضّلت الابتعاد والصمت، ولأنه لا فضل على أحد الآن بعلو الصوت وقول كلمة لا، فليس علي سوى تقديم الاعتذار لكل من أدنتهم، فقد صرنا سواء.
رغم اعترافي هذا، وعدم بحثي عن مُبرّر للجُبن والخضوع وقِلة الحيلة، لكن ثمة أمور أدركتها حين وُضعت في نفس موقف من أدنتهم سابقاً، أمور جعلتني أرى الصورة بمنظور أوسع، فصحيح أن الأجيال السابقة فضّلت الابتعاد والصمت وهو فعل سلبي، لكنهم على الأقل لم يشاركوا في ترسيخ الظلم، ولم تحمل أصابعهم حبر الشرعية لسلطة ظلمت المصريين 30 عاماً، أليس كذلك؟ إضافة إلى أنهم رفضوا كافة الإغراءات، التي تبدأ في مصر بمنح يوم إجازة أو ترقية أو مكافأة للموظفين في المؤسسات الحكومية، وتنتهي بـ "كرتونة" تحوي بعض السلع الغذائية، أليس في رفض ذلك بطولة ما؟ والأهم أنهم بسبب ذلك قد يتعرضون لمضايقات، لكنهم تحمّلوا ذلك، وكما أعتبر عدم مشاركتي في أي انتخابات رئاسية أو برلمانية خلال العقد الماضي وما زلت، هو أحد الأشياء التي أفتخر بها، لأني لم أتورّط في دعم سلطة زادت المصريين فقراً، فلماذا لا يكون ذلك موقفهم أيضاً؟
الأمر الثاني الذي أدركته، أن تلك الأجيال التي أدنتها ربما سبقتنا إلى فهم طبيعة الحُكم في مصر، وأدركت أن المواطن، خاصة الذي ينتمي إلى الطبقة الوسطى أو الفقيرة، ليس رقماً في المعادلة السياسية من الأساس، وبالتالي وجوده مثل عدمه، لن يُقدّم أو يؤخر في شيء، فاختيار الرئيس أو النواب أمر يخضع لحسابات أخرى، ويتحكم في ذلك طبقات وفئات بعينها، هم من يقرّرون وينفذون، أما نحن فلتجميل الصورة لا أكثر، ولو كنّا فعلاً رقماً في المعادلة لما كان هذا حالنا. أدرك أهالينا تلك الحقيقة فجلسوا في بيوتهم رافضين أن يكونوا "ديكوراً" أو حتى لا يشعرون في كل لحظة أنهم بلا قيمة.
الأجيال التي أدنتها ربما سبقتنا إلى فهم طبيعة الحُكم في مصر، وأدركت أن المواطن، خاصة الذي ينتمي إلى الطبقة الوسطى أو الفقيرة، ليس رقماً في المعادلة السياسية من الأساس، وبالتالي وجوده مثل عدمه، لن يُقدّم أو يؤخر في شيء
أما الأمر الثالث، هو عِلمهم بأن أي سلطة ديكتاتورية مصيرها إلى زوال، وبالتالي يصبح الصدام معها نوعاً من المجازفة غير مأمونة العواقب، والأفضل أن يتم الجلوس والمراقبة حتى تتآكل السلطة من داخلها، وتصل إلى مرحلة هشاشة يجعلها تسقط مع أول اختبار حقيقي لها، وهو ما حدث فعلاً عام 2011.
ربما تلك العوامل هي ما دفعت الأجيال السابقة للسكوت، وربما هي ما تدفعنا للسكوت أيضاً، رغم أن ذلك ليس الفعل الأمثل ولا الأنبل، لكنه المتاح، ورغم أنني أعرف أن هناك أوقاتاً نكون فيها أقرب ما نكون إلى أهالينا، فنحب ما لمناهم على حبه ونكره ما كرهوه تماماً، لكني كنت أشعر أن هذا يحدث في مرحلة متأخرة من العمر، لا أن نشعر بهِ في مرحلة الشباب، وهو ما يعني أننا كبرنا فعلاً، وعلينا الانتظار لجيل جديد سينظر إلينا بنفس نظرة الإدانة، لأننا تحمّلنا ما نتحمّله الآن دون أن نثور، لكن من قلبي، أدعو الله ألا يضطر إلى نفس العوامل التي اضطرتنا لذلك، وأن لا يأتي بعد سنين يجلس بجوارنا ليعتذر لنا هو الآخر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...