أعلن رئيس هيئة التصنيع الحربي العراقي، مصطفى عاتي، عن اعتزامه إنتاج العجلات القتالية المدرعة والطائرات الاستطلاعية المسيّرة. وبحسب تصريحه لجريدة الصباح الرسمية، في 3 كانون الأول/ ديسمبر الحالي، فإن المشروع سيرى النور خلال العام القادم.
أثارت التصريحات زوبعةً من التأويلات، فهي تأتي في ظل صراعات سياسية شديدة داخل الإطار التنسيقي الشيعي الحاكم، واختلالات أمنية تؤججها الزيادة المطردة في عدد الهجمات المسلحة ضد القوات الأمريكية، واستهداف الأخيرة لأرتال الحشد الشعبي والفصائل المسلحة.
وجدير بالذكر أنه سبق أن خاض العراق غمار الصناعات الحربية، مطلع ثمانينيات القرن الماضي، إبان حربه ضد إيران، وتمكّن من إنتاج العديد من الأسلحة والصواريخ، واستخدامها في عملياته العسكرية.
ما قبل 2003 وما بعده
محاولات حثيثة بذلها العراق منذ سبعينيات القرن الماضي، من أجل الاستقلال في صناعته الحربية، ووفقاً لذلك أسس هيئة التصنيع العسكري، وجهّزها بالتعاون مع الاتحاد السوفياتي ودول أوروبية، بمصانع ومنشآت بحثية.
في البداية، اقتصر عمل الهيئة على تطوير بعض أنواع الأسلحة المستوردة، وصناعة الذخيرة، ولكن خوض البلاد حربها مع إيران، سرّع خطواته، وتمكّن في عام 1981، من صناعة أول مسدس عراقي، "طارق"، وسمّي على اسم القائد العربي، طارق بن زياد، ووزّعته الدولة على أجهزتها الأمنية وقيادات حزب البعث وقتها. وفي عام 1987، باشر العراق إنتاج الأسلحة الثقيلة.
في البداية، اقتصر عمل الهيئة على تطوير بعض أنواع الأسلحة المستوردة، وصناعة الذخيرة، ولكن خوض البلاد حربها مع إيران، سرّع خطواته، وتمكّن في عام 1981، من صناعة أول مسدس عراقي
صاروخ "الحسين"، كان أول هذه الصناعات، وهو صاروخ باليستي، يصل مداه إلى 650 كلم، وقادر على حمل رؤوس كيميائية ونووية بوزن 500 كلغ، واستُخدم بالفعل في قصف طهران في أثناء الحرب العراقية الإيرانية، بالإضافة إلى استخدامه في قصف المدن الكويتية والسعودية وإسرائيل، في أثناء حرب الخليج الثانية، عام 1991.
استمر العراق في تطوير صناعته الصاروخية، وأنتج في عام 1988، صاروخ "العباس"، وهو نسخة مطورة من صاروخ الحسين، إذ يصل مداه إلى 800 كلم، كما أنتج صاروخَي "الفتح" و"العابد".
صاروخ "العابد"، خُصص ضمن مشروع حمل الأقمار الصناعية وأجهزة الاتصالات الفضائية وقتها، ولكن مداه البالغ 2000 كلم، وتكنولوجيته المشابهة لعمل الصواريخ العابرة للقارات، دفعت وزارة الدفاع الأمريكية إلى الإيعاز بوقف المشروع، وبالفعل تم وقفه بأوامر من منظمة الأمم المتحدة.
وضمن مشاريع الصناعات العسكرية الثقيلة، أنتج العراق في عام 1989، دبابة "أسد بابل"، وهي النسخة العراقية المطورة من الدبابة السوفياتية t-72، وتميزت بمنظارها الليزري المستخدم في تحديد الأجسام البعيدة، وقدرتها على محو آثار جنازيرها من الرمال والطين. صنع العراق 500 نسخة منها، ولكن اجتياحه الكويت، ومنعه من استيراد القطع الحربية، أوقفا المشروع.
اجتياح الكويت، لم ينهِ حلم العراق بصناعة أول دباباته فحسب، ولكنه قضى على حلم مشروع "بابل"، وبناء أول مدفع عملاق في العالم، بطول 156 متراً، وقد تعاونت الحكومة وقتها مع خبير المدافع الكندي والفيزيائي الفلكي المعروف جيرالد بول، من أجل إنجاح الفكرة، وبالفعل أعلن العراق في عام 1989، عن صناعة نموذج أولي مصغر، بطول 40 متراً، حمل اسم "طفل بابل"، ونجحت أولى تجاربه في عام 1990، بعد نصبه وتثبيته في تلال حمرين، شرق البلاد، ولكن اغتيال بول، في آذار/ مارس 1990، واجتياح العراق للكويت، كتبا نهاية الحلم العراقي، وأنهى الفريق الأممي التابع للأمم المتحدة، بقايا المشروع وقتها.
كما صنع العراق، منصات إطلاق صواريخ ذاتية الحركة، ومنظومات الإرضاع الجوي لطائراته، بالإضافة إلى مدافع قصيرة المدى.
بعد الاحتلال الأمريكي في عام 2003، أصدر الحاكم المدني بول بريمر، قراره ذا الرقم 75، وأمر بحل هيئة التصنيع العسكري، ومنع العراق من استخدام أسلحته الخاصة، وإفراغ جميع مخازنه في مقبرة الأسلحة الواقعة في منطقة التاجي، ودفع الحكومات المتعاقبة على استيراد الأسلحة من دول معيّنة حصراً.
يضع مصدر في هيئة التصنيع الحربي، اللوم على الحكومة الحالية في عدم تطور الصناعة العسكرية في العراق، ويؤكد أن عجزها عن اتخاذ الخطوات الصحيحة وتحفيز المؤسسات الأمنية على التعاقد مع الهيئة وشراء احتياجاتها منها، أمور أضعفت فكرة إحياء الصناعة الحربية
بقي العراق على هذا الحال حتى عام 2015، لكن حاجة الدولة إلى تعزيز خزينها العسكرية في مواجهة تنظيم الدولة "داعش"، عززت رغبتها في الاستقلال، وأسست في مدينة الإسكندرية التابعة لقضاء المسيب في محافظة بابل، 40 كلم جنوب العاصمة بغداد، شركة الصناعات الحربية، التي أنتجت صاروخ "يقين" قصير المدى، وقنابل خاصةً بطائرات سوخوي الروسية، بالإضافة إلى صيانة المعدات العسكرية.
هيئة التصنيع الحربي
في عام 2019، وافق البرلمان بقانونه رقم 25، على تأسيس هيئة التصنيع الحربي، وهي مؤسسة مرتبطة بمكتب القائد العام للقوات المسلحة مباشرةً، وبحسب موقعها الرسمي، تهدف الهيئة إلى إنشاء قاعدة متطورة للصناعات الحربية في العراق، وسد احتياجات القوات المسلحة والأجهزة الأمنية بمفاصلها كافة من الأسلحة والعتاد والذخائر، ودعم الاقتصاد الوطني من خلال إنهاء أو تقليل استيراد الأسلحة والذخائر، وإنتاج المواد المدنية وتصدير الفائض منها، وإعداد وتأهيل كوادر علمية وفنية متخصصة في التصنيع الحربي.
باشرت الهيئة الجديدة عملها على أنقاض منشآت ومصانع هيئة التصنيع العسكري المنحلة، وأعلنت في العام نفسه عن فتح ثلاثة خطوط لإنتاج العربات القتالية المدرعة، بموجب الرخصة العالمية لشركتَي أرمسترونك الصربية، وتاك الأمريكية، كما تمكنت من إعادة إحياء خطوط إنتاج الأسلحة المتوسطة، وتصنيع مسدس بابل، في نيسان/ أبريل عام 2022، ليكون باكورة الإنتاج العسكري المحلي بعد عام 2003، كما أعلنت في حزيران/ يونيو عام 2022، عن إنتاج أول نموذج لطائرة مسيّرة عراقية، باسم صقر واحد، وقرب إطلاق بندقية الرافدين محلية الصنع، ولكنها توقفت عن إعلان نشاطاتها في هذا الشأن لاحقاً.
عوائق في الطريق
ترغب الدولة العراقية الآن في إعادة إحياء الصناعات الحربية، ولكن فقدانها الكثير من مصانعها العسكرية في عمليات النهب والتدمير بعد عام 2003، جعلها تعاني في هذا الشأن، ومن جانب آخر، يُعدّ نقص الخبرات الشبابية في هذا المجال، من أبرز العوائق في طريق إحياء الصناعة الحربية العراقية.
فبحسب تصريحات صحافية لرئيس الهيئة السابق محمد صاحب الدراجي، فإن قلة الخبرات الشبابية تقف حاجزاً أمام تطور عمل الهيئة، إذ بلغ عدد عامليها نحو 27 ألف موظف، أصغرهم عمره 40 عاماً، وهم من العاملين في مؤسسات التصنيع العسكري سابقاً.
لقاءات رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، الأخيرة، تؤكد على رغبته في استثمار الخبرات الأجنبية، إذ استقبل في 19 تموز/ يوليو الماضي، وزير الجيوش الفرنسي سيباستيان ليكورنو، وأكد على رغبته بالتعاون مع فرنسا في مجال التصنيع الحربي على وجه الخصوص.
في هذا السياق، يضع مصدر مسؤول في هيئة التصنيع الحربي، اللوم على الحكومة الحالية في عدم تطور الصناعة العسكرية في العراق، ويؤكد أن عجزها عن اتخاذ الخطوات الصحيحة وتحفيز المؤسسات الأمنية على التعاقد مع الهيئة وشراء احتياجاتها منها، أمور أضعفت فكرة إحياء الصناعة الحربية في البلاد، خاصةً أن اعتمادها الأساسي مستند إلى التعاقد مع مؤسسات الدولة الأمنية كافة.
ويشير في تصريحه لرصيف22، إلى أنه وبرغم مرور سنوات على تأسيس الهيئة، والمباشرة بتصنيع الذخيرة والأسلحة الخفيفة، إلا أن الوزارات الأمنية لا تزال تستورد أسلحتها وذخيرتها من دول أجنبية، وهو ما يضعف عمل الهيئة، ويحدّ من جدوى وجودها.
وجدير بالذكر أن النفقات العسكرية تثقل كاهل خزينة الدولة المالية، فبحسب تقرير نشرته شركة "غلوبال داتا" لتحليل البيانات في شهر شباط/ فبراير الماضي، ستتجاوز النفقات العسكرية للبلاد خلال السنوات الخمس القادمة حاجز الـ27 مليار دولار.
شكوك
بالرغم من أن العراق سبق وأعلن عن صنع أسلحة محلية عدة، مثل طائرة "صقر 1" المسيّرة، وتشغيلها لمراقبة الحدود، لكن أنشطتها اللاحقة، بقيت طي الكتمان، فيما تشير تصريحات سابقة لرئيس الهيئة، إلى أنّه سلم بالفعل 10 طائرات استطلاعية، و180 عجلةً مدرّعةً خلال عام 2023، إلى الأجهزة الأمنية، بحسب تصريحات لوكالة الأنباء العراقية.
إن سبق للهيئة أن صنعت طائرات استطلاعيةً وعجلات قتاليةً، فما سبب الإشارة إلى صناعتها كمنجزات جديدة، خاصةً أن التصريح يأتي بعد أيام من استهداف الولايات المتحدة لمصانع عسكرية تمتلكها قوات الحشد الشعبي؟
وهنا يُطرح السؤال: إن سبق للهيئة أن صنعت طائرات استطلاعيةً وعجلات قتاليةً، فما سبب الإشارة إلى صناعتها كمنجزات جديدة، خاصةً أن التصريح يأتي بعد أيام من استهداف الولايات المتحدة لمصانع عسكرية تمتلكها قوات الحشد الشعبي، وفصائل مسلحة أخرى، في منطقة جرف الصخر، بالإضافة إلى ضرب قوافلهم قرب الحدود السورية؟
برأي الباحث الأمني علي زاهر الخالدي: "تكرار هذه التصريحات، ينبع من محاولات الهيئة، لتحفيز الفصائل المسلحة والحشد الشعبي، إلى التعاقد معها، وشراء المعدات منها، بعد يأسها من الدعم الحكومي".
ويقول لرصيف22، إن "الهيئة سبق أن عقدت صفقةً مع الحشد الشعبي، وزوّدت الأخيرة بالعتاد والذخيرة، ولكنهما لم يتفقا على بيع الآليات العسكرية المختلفة".
من جهته، يؤكد الباحث الأمني علي عبد الإله، هذه الاتجاه، ولكنه يشير إلى أن شراء الحشد الشعبي أو الفصائل أي آليات عسكرية من الهيئة، سيضع الدولة في موقف خطر دولياً، خاصةً إذا تم استخدامها في استهداف القوات الأمريكية.
وبحسب تفسيره للأمر خلال حديثه إلى رصيف22، فإن الفصائل وبسبب حاجتها إلى مصنع جديد لأسلحتها، تتجه نحو هذه المصانع، لاستغلال مكانتها الرسمية، وعدم قدرة الولايات المتحدة على استهدافها، بالإضافة إلى علم المشتري بالفخ الذي ستقع فيه الحكومة.
وتشير الأحداث الحالية، إلى وجود صراعات داخل الإطار التنسيقي بين القوى الحكومية وبعض الفصائل المسلحة المتحالفة معها، حول علاقة السوداني بالولايات المتحدة، وتوزيع مناصب حكومته، وتالياً ترغب بعض أجنحة الحشد المعارضة للسوداني، في إيقاعه في شرك محكم أمام الحكومة الأمريكية.
ويشير مصدر مسؤول في قوى الإطار التنسيقي، إلى أن هذه المحاولات لن تكون غريبةً، لا سيما وأن الفصائل المسلحة تسيطر على الكثير من مفاصل هيئة التصنيع الحربي، وعدّ كثرٌ أن إعادة تكرار التصريحات، لم تكن سهواً، بل هي إشارة من الفصائل المسلحة إلى القوات الأمريكية، بامتلاكها بدائل عدة، ولذلك يمتنع السوداني عن دعم عمل الهيئة ودفع الوزارات الأمنية إلى التعامل معها، كما يحاول إحاطة الولايات المتحدة بالموقف، تجنّباً للشبهة في حال استهدافهم بالطائرات الحكومية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...