شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
رمح الإمام عليّ الذي طار من العراق إلى بانياس

رمح الإمام عليّ الذي طار من العراق إلى بانياس

في سنوات ما قبل عصر "البولمانات" في سوريا، أيام لم يكن الناس مستعجلين ويستعذبون نوعاً من البطء في سفرهم، كانت باصات "الهوب هوب" تنفّذ استراحات عدة على الطرقات بين المحافظات، لا استراحةً واحدةً، وبين اللاذقية ودمشق، كانت استراحة "أبو نديم" على الطريق بعد مدينة بانياس الساحلية، في منطقة الباصية، الأكثر لفتاً للانتباه بسبب قربها من البحر ولطافة موقعها وخدمتها. حدث هذا قبل أن تحتل المشهد فيلا ضخمة بناها في قلب ذاك المشهد البحري الساحر نائب الرئيس عبد الحليم خدّام.

شرق استراحة "أبو نديم"، وعلى تلة قريبة، تقع قلعة المرقب وبرج الصبي اللذان يشاهَدان من الطريق بوضوح، وغرباً على امتداد البحر يقع مرسى مراكب صغيرة قرب شاطئ صخري قليل الارتفاع، وقرب نهاية طرف السرير الصخري جهة البحر، هناك علامة فارقة، تغطّيها أمواج البحر شتاءً وتظهر صيفاً، وكثيراً ما كانت ـ وما زالت ـ حديث المسافرين وموضع تأويلاتهم التي يختلط فيها المتخيل والتاريخ بهزّات الرأس نفياً وإثباتاً.

بالطبع وكما يعيش كلّ شيء في سوريا على "السبحانية"، لا دليل سياحياً يوضح للمسافرين ماهية هذه العلامة الفارقة، ولذلك، تلقائياً، يتولّى شوفير الباص هذه المهمة السهلة عليه طبعاً، ويقول عن العلامة الفارقة وهو يشعل سيجارةً حمراء طويلةً، كلمة السرّ: "إنه رمح الإمام علي رماه من العراق إلى بانياس ليصيب به الكفّار وقد جاؤوا لسرقة كنز مدفون في قلعة المرقب".

إنه ينمو في ضوء القمر

هذه العلامة الفارقة التي وصفها السائق بالرمح، هي عمود غرانيت أسود مخضرّ، ناعم السطح، مائل بشكل زاوية منفرجة، مغروس بمتانة في أرض صخرية قاسية، والجزء المخفي في الصخر غير معروف الطول، وارتفاعه الظاهر متران، والعمود في منطقة تسمى "الباصية" وهي مرفأ طبيعي قديم.

يسمّي الناس العمود أحياناً "عصا موسى"، وهو نادر، والاسم الأشهر هو "رمح الإمام علي" أو "جْريدة اﻹمام عليّ"، وتُلفظ ابتداءً من ساكن، وهي كلمة ذات أصل آرامي تعني الشيء الحديدي القاسي الطويل.

يستخدم صيادو المنطقة الجْريدة لربط مراكبهم والهبوط منها إلى الشاطئ الصخري القريب، ويلجؤون إليه أيام الشتاء العاصفة لموقعه في طرف الميناء الطبيعي، وبقدر ما يبدو العمود ثابتاً فإن الريح قادرة على تحريكه تبعاً لأحاديث متواترة، ولكن "هذا هراء، فمن شي عشرين سنة حاولوا يشيلوه بالتركسات والحفارات بس مستحيل ما قدروا، وكمان جابوا ورشة من اليابان بس كمان ما تحرك ولا سنتيمتر من محله"؛ يقول صياد من "الباصية"، ويضيف: "أنت ما بتعرف أنو بيكبر (ينمو) في ضوء القمر؟".

حسناً، لا أحد يعرف على وجه اليقين من حاول نزع العمود من مكانه، ولا متى جاء الأخوة اليابانيون ﻷمر مهم مثل هذا، ولا أحد أيضاً وثّق محاولتهم هذه التي ستصير محاولات عدة نفذها يابانيون وأمريكيون وحتى إسرائيليون (بالنظر إلى أن العمود هو عصا موسى الضائعة). أما السوريون، خاصةً منهم العلويين القريبين من المكان، فهم متفرّجون يضحكون على هؤلاء الحمقى الذين يريدون نزع رمح الإمام.

"من شي عشرين سنة حاولوا يشيلوه بالتركسات والحفارات بس ما قدروا، وكمان جابوا ورشة من اليابان بس كمان ما تحرك ولا سنتيمتر. وإنت ما بتعرف أنو بيكبر (ينمو) في ضوء القمر؟"

لم أجد ضرورةً لتصحيح الصورة التي رواها الصياد بيقين ومحبة، إلا أني سألته سؤالاً لئيماً: "إذا كان العمود ينمو في ضوء القمر فهذا يعني أن طوله كان يجب أن يصبح منذ رماه الإمام عليّ (توفي في العام 661 ميلادي)، حتى الآن مئات الأمتار إن لم يكن أكثر، هذا بالطبع إذا عرفنا معدل نمو العمود كل شهر في ضوء القمر". لم يردّ الصياد العجوز على كلامي، واكتفى بإلقاء لعنة من أرض الحكايات السحرية ومضى يبحث عن رزقه.

اختلاف حول حكاية العمود

تختلف الروايات التي يتناولها الناس حول العمود-الرمح، حسب الطوائف الثلاثة التي تعيش في منطقة الباصية ومحيطها، وإذ يتجاهل المسيحيون العمود ورواياته برغم زيارتهم الدائمة لمغارة الباصية (مغارة السيدة العذراء)، القريبة من المكان ويعدّونها موقعاً مقدساً، يذهب العلويون، وقد سكنوا المنطقة منذ القرن التاسع الميلادي، إلى الإيمان بالحكاية ويضيفون إليها بهاراتهم الخاصة، فيما يرفض سُنّة المنطقة الحمولات التأويلية للعمود ويصرّون على واقعيتهم الشديدة ولديهم أدلّتهم وتأريخهم مما سنتبيّنه لاحقاً.

تقول الرواية الشعبية العلوية إنّ "الإمام علي بن أبي طالب كان يطارد الكفار في قلعة المرقب، فاستطاعوا الهرب عبر نفق سرّي يصلهم من القلعة إلى الساحل في نقطة العمود حالياً، وركبوا سفينتهم وأرادوا الإبحار بها، فما كان من الإمام عليّ إلا أن حمل العمود وقذفه من القلعة فأصاب سفينتهم ومنعهم من الهروب، وثبُت العمود في مكانه ولا يستطيع أي إنسان تحريكه"، ("قلعة المرقب"، أحمد فايز الحمصي، ص 15).

هذه الرواية الشعبية الغرائبية ينقصها كي تكون حقيقيّةً أمران، الأول أنّ الإمام علي، وعلى مدار حياته التي امتدت لأكثر من ستين عاماً، لم يسجل حضوره أبداً في الساحل السوري، والمنطقة الوحيدة التي وصل إليها في سوريا الحالية هي سهل صفّين على مشارف محافظة الرقّة حالياً، والأمر الثاني، أنّ قلعة المرقب لم تكن موجودةً زمن اﻹمام عليّ، إذ إنّ تاريخ بناء قلعة المرقب الأولى في موقعها يعود إلى العام 1062، على يد مالك محلي، كما أنّ "الكفار" -وهم الفرنجة على الأرجح- احتلوا القلعة لأول مرة عام 1104، بقيادة الأدميرال كانتاكوزينوس، وقبلهم كانت تسكنها عائلة محلية من العلويين المحارزة القادمين من مصر أصلاً.

نسخة ثانية من الرواية العلوية تتشابه مع الأولى، ولكنها تتجاوز حضور قلعة المرقب التي تخرّب منطقية الحكاية -وبالضرورة لكل حكاية منطقها- تقول إنّ الإمام في أثناء حرب صفّين (657 ميلادية)، مع معاوية، رمى بالرمح -العمود- من صفّين باتجاه الساحل السوري بعد أن "رأى" وصول الكفار وقتها إلى الساحل، وتعاد خاتمة الحكاية نفسها، وهكذا ننجو من المتناقضات المكانية ونقف على أرضية أقوى للحكاية، إذ إنّ "الكفّار" دائماً ما يهاجمون على غير موعد، وهم دائماً متوفرون غبّ الطلب، ولو أنّ التاريخ المكتوب لا يذكر في زمن معركة صفّين غزواً للساحل، دعونا هنا من مسألة الرؤية من مسافة شاسعة، ففي الحكاية تحدث بسهولة، ويمكن للقدرات الخارقة للإمام أن تسعفه، ولكن المسألة هنا أنّ الإمام ترك المعركة مع عدوّه الشرس، وبدلاً من التخلص من خطر محدق، ومن معاوية تحديداً، فكّر في الخلاص من غزو بعيد عنه مئات الكيلومترات.

الرواية الثالثة، وهي الأكثر انتشاراً، أنّ الإمام عليّ، وكان مقيماً في سامراء العراقية، أخبره هاتف سماوي بقدوم الكفار إلى الساحل السوري، فسحب رمحه-العمود، ورماه من هناك إلى "الباصية" حيث كان الكفار يتجمّعون فأصابهم في مقتل في موقع العمود حالياً نفسه، وتكمل الحكاية النهاية السعيدة نفسها، وهنا نتخلص من معوقات الزمن والتأريخ والجغرافيا، لتصبح الحكاية طافيةً فوقها كلها، ودون الحديث هنا عن الطاقة اللازمة عند الإمام للقيام بالفعل العجائبي، فهذا ممكن في منطق الحكاية والشخصية نفسها (حمل باب خيبر الذي كان يحتاج إلى سبعين رجلاً لحمله وفق الروايات الإسلامية المختلفة)، حتى لو كان عمر الإمام وقتها، كما هو متوقع ستين عاماً، أي بعد معركة صفّين نفسها، كما أنّ الكفار يمكن أن يكونوا أي عدوّ خارجي.

الرواية الثالثة، وهي الأكثر انتشاراً، أنّ الإمام عليّ، وكان مقيماً في سامراء العراقية، أخبره هاتف سماوي بقدوم الكفار إلى الساحل السوري، فسحب رمحه-العمود، ورماه من هناك إلى "الباصية" حيث كان الكفار يتجمّعون فأصابهم في مقتل

تكتمل حكاية رمح الإمام عليّ ضمن السياق الشعبي، بأنّ العمود أو الرمح المغروز في الأرض الصخرية، لا يستطيع نزعه سوى شخص واحد، هو الإمام المهدي المنتظر -عند الشيعة وآخرين بصيغ مختلفة- وبعده سيحكم المهدي العالم، وشرط سحب العمود هذا أحد اشتراطات نهاية العالم وفق هذه الحكاية. هل تذكّركم هذه النهاية بحكاية سيف الملك اﻹنكليزي آرثر؟ وهي تتحدث عن سيف تمّ غرسه في صخرة بقوة سحرية خارقة وتحتاج إلى فارس حقيقي يُخرجه من الصخرة، وإن لم يكن فارساً حقيقياً فإنه حتماً لن يستطيع سحب السيف حتى لو بذل كل طاقته. ولسنا ندري أيّ الحكايتين هي الأسبق.

وظيفة الحكاية ومهامها

الحكايات الثلاثة السابقة لم ترد نصّاً في أي مخطوط أو كتاب علوي أو شيعي على حد علمنا، وهي لا تختلف عن حكايات أخرى منسوبة إلى النبي محمد أو الإمام علي أو غيرهما من الأنبياء والأولياء، مثل ردّ الشمس وشقّ القمر نصفين ومائدة المسيح السماوية وعصا موسى، وعدم ورودها في الكتب والمخطوطات لا يقلل من قيمتها الحكائية السردية، لأن قيمة هذه الحكايات مع حمولاتها الشعرية والمجازية تأتي من الحفظ الشعبي لها بصيغ مختلفة، واختراع نهايات لها، واستمرارها في الحياة زمناً طويلاً، وإيمان الناس العفوي بها.

تكمن قيمة هذه الحكايات أيضاً في مناقضتها الواقع بصفته مكاناً سلبياً مفارقاً مليئاً بالصراعات غير المتكافئة مع الأشرار، مقابل "واقع متخيّل" يمتلك علاقاته الموجبة المفارقة مع الآخر الشرير المتخيّل أيضاً، حيث يكون البطل المتفرّد ذو النزعة الجهادية ضدّ "الكفّار" حاضراً بقوة سحرية لا تضاهيها قوة.

القيمة الأخرى البارزة للحكاية مرتبطة بالصيغة الإعجازية لها، يقود حدثها "وليٌّ" واحد يمتلك ناصية الحكاية كلها، ولا يحضر آخر فيها سواه، فهو الفاعل والقائد والولي المولود في قلب الكعبة، و"الكفّار" هنا أشخاص ضبابيون غير معروفين أبداً، والحكاية تلحق البطل -الإمام علي- إلى هذا المكان البعيد جداً عن مكان إقامته وزمنه وشخصه وهو لم يسمع بها بالتأكيد ولم ينقلها إليه أحد.

من النافل القول هنا، إنّ البحث عن مؤلّف الحكاية الأصلية غير مُجدٍ، فهناك عشرات الطبقات المتراكمة الضائعة فوق النسخة الأصلية قد تقدّم تفسيراً في حال وجودها في أصل القول بأن العمود في تلك النقطة في زمن ما يعود للإمام عليّ، مما لا يمكن التيقنّ منه مطلقاً، وأقصى ما يمكننا التخمين مع بعض الأدلة التاريخية.

نشوء الحكاية في هذه المنطقة تحديداً أمرٌ آخر لا يمكن الجزم بأسبابه، حيث أن هناك عشرات ومئات الحكايات التي تغص بها الميثولوجيا المحلية، ناتجة عن آلاف السنوات من التراكم الحكائي والسردي، على سبيل المثال، عند سؤال الناس عن أصل اسم "الباصية" حيث يقع العمود في مينائها، لن نجد الكثير من الإجابات، وسيتستغرب الناس أنّ أصل الاسم إسباني، فما الذي "جاب إسبانيا لهون؟".

ميناء "الباصية" الإسباني!

تمتاز الرواية المتداولة بين أكثر سكان بانياس من السُّنة، بعقلانيتها وحذرها، وتشير اللقاءات التي أجريناها والمعلومات التي جمعناها إلى واقعية شديدة في التعاطي مع حكاية الرمح-العمود، وإلى رفض واضح وقاطع للحمولة السحرية-الغرائبية لهذه "الكتلة الصمّاء التي لا تشبه أي رمح في العالم، ولا تشبه سيفاً، ولا تشبه إلا الأعمدة الغرانيتية التي بُنيت منها قلعة المرقب وعلى الإرجح سُحب العمود من برج الصبي القريب من القلعة"، كما يقول أحد العارفين بتاريخ المدينة.

يُعرف الميناء الذي يقبع فيه "الرمح السحري" هنا باسم "مينا الباصيّة"، ووفق كتابات عدة فإن الاسم من كلمة Pasillo الإسبانية وتُلفظ باسيّو بتشديد الياء، وتعني حرفياً المعبر أو الممر، ويمكن أن يكون الاسم من Pass الإنكليزية بالمعنى نفسه، والاسم عائد إلى حقبة سيطرة الأوسبتارية Hospitaliers (وهم فرع من فرسان مالطا)، على قلعة المرقب ومحيطها زمناً طويلاً، وحتى اليوم لا يمكن فهم معاني معظم أسماء المناطق والبلدات المحيطة بتلة قلعة المرقب من دون العودة إلى هذه الحقبة التي امتدت من 1104 حتى 1285 ميلادي، حين حرّر السلطان قلاوون المنطقة.

وحسب الباحث التاريخي منصور عبد الله محمد، وهو من أبناء بانياس، فإنّ "منطقة الباصية مأهولة منذ أقدم العهود بسبب مينائها التجاري ووفرة مياهها العذبة"، ويوضح ذلك "مزارها الشهير (مزار السيدة العذراء) الذي يعود إلى ما قبل انعقاد مجمع أفسس العام 431 ميلادية"، وميناء الباصية "من أهم الموانئ السورية لأنه آمن وموقعه إستراتيجي قريب من قلعة المرقب أهم حامية على الساحل، استخدمه الصليبيون والعرب ومؤخراً أجدادنا (من أهل بانياس) في العهد العثماني لأغراض عسكرية وتجارية، فكان آغا القلعة (أسبر)، يدير شؤونه ومن بعده الآغا (عدرا) وتواصلت عائلات أخرى على إدارته مثل (حليس وعبيد)، كما بُنيت مستودعات على كتف الميناء من الجنوب مكان القصر الحالي (قصر خدّام)، لتخزين الحبوب والبقول القادمة من الداخل السوري".

"والله نفسي أعرف من المخبول الذي جاءته فكرة أن هذا (العمود) رمح ومتحجّر بعد ألف سنة، والمصيبة أنّ الشيعة في منتدياتهم مصدقين هالهبل"

يشير اسم "الباصية" ومراجعة خرائط المرحلة الصليبية المملوكية، إلى أنّ الطريق البحري في هذه المنطقة حيث الأوتوستراد الدولي الآن، كان معبراً حدودياً ضيّقاً جداً، وفيه يقول المؤرخ "ابن الأثير" مؤرخ صلاح الدين، إن "الطريق مضيق لا يسلكه إلا الواحد بعد الواحد"، وقد عبره صلاح الدين بحيلة ذكية متوجهاً إلى جبلة. ومثلما هناك استراحة "أبو نديم" على الطريق الدولي الآن، كانت هناك استراحات في الزمن الصليبي، ومشرفون على المعبر يجمعون الأموال لصالح أمراء القلعة.

برج الصبي وعلاقته بالرمح

برج الصبي بُني بعد نحو مئتي سنة على بناء قلعة المرقب، والكلمة في أحد وجوهها تحريف لكلمة الصليبي، أما الروايات الأخرى حول أن البرج ابن القلعة الأم، فهي خفيفة ولا يُعتدّ بها. وقرابة قرنين من الزمان، راقب جنود برج الصبي (شمال ميناء "الباصية" مباشرةً)، المعبر الضيّق بين ولاية طرابلس وولاية أنطاكيا، حيث يطلّ على مرفأ الباصية ويشاهد منه الميناء، ولأن المربط أو العمود لم يكن ظاهرةً غريبةً فلم يرد ذكره في أدبيات تلك المرحلة.

وتُعدّ أهم شهادة في أصل العمود هي شهادة المرحوم العميد البحري حسين حجازي، الذي قضى حياته محاولاً توثيق مواقع وأوابد الساحل السوري وقاع بحره، وهو يقول في كتابه "الموانئ والمرافئ والمراسي القديمة في ساحل القطر العربي السوري" (دار أماني، 1992)، إنّ العمود هو "عمود روماني، مثبت في حفرة، يمتدّ في البحر مسافةً كافيةً، تجعل منه رصيفاً صالحاً لربط السفن إليه، وتداول مختلف الأعمال البحرية، في مرسى 'الباص' الصغير، المحمي من الرياح والأمواج الغربية والجنوبية"، ويسميه "مربط المرقب".

إذاً، ووفق شهادة خبير موثوق وميداني، فإن "العمود روماني"، ولم يتم سحبه أو جرّه من برج الصبي، وهو بقية بناء روماني قد يكون برج مراقبة اختفى بعد أن تقدّم البحر مترين على الأقل منذ الرومان إلى تاريخ بناء برج الصبي في القرن الحادي عشر الميلادي، وفق حجازي نفسه، ويظهر هنا احتمال مقبول لتاريخ ظهور حكاية العمود السحري، وهي فترة حكم قلعة المرقب من قبل آل محرز العلويين بعد القرن العاشر الميلادي، خاصةً أنّ العائلة ذات أصول مصرية شيعية.

العمود بين السنّة والشيعة والعلويين

في كل المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي التي بحثنا فيها عن قصة الرمح-العمود، لحظنا إصرار كتّاب الحكاية من السُنّة على رفض كون العمود-الرمح يخصّ الإمام علي، أو النبي موسى. يقول أحد مديري صفحة معروفة على فيسبوك تُعنى بتاريخ بانياس الساحل، بتهذيب: "اسمها الجريّدة، ويسمونها عصا موسى أو رمح سيدنا عليّ، وجميع القصص والروايات التي سُردت عنها غير صحيحة!". وأبعد منه، يكتب أحدهم: "توجد في الباصية عصا حجرية مغروسة بصخرة داخل الماء تربط فيها السفن، وهذه العصا لم يأتِ بها نبي ولم ننسبها إليه"، فيما يذهب ثالث إلى القول بسخرية: "والله نفسي أعرف من المخبول الذي جاءته فكرة أن هذا (العمود) رمح ومتحجّر بعد ألف سنة، والمصيبة أنّ الشيعة في منتدياتهم مصدقين هالهبل".

تغمر الواقعية والإنكار الكثير من الكتابات والصور ذات المصدر "السنّي" (تجاوزاً، والأكيد أننا لا نتحدّث عن كتلة صماء)، فيما يقابلها تصديق منقطع النظير لدى العلويين والشيعة، وهذا التعاكس بين المصدّق والمنكر بين السنّة والشيعة ليس بجديد، وفي حين يبدو كلام السنّة منطقياً وعقلانياً، فإن قسماً وازناً من الشيعة والعلويين يتمسكون بالصورة الإعجازية لحكاية العمود، وبالطبع لا ينفع أي اعتراض على كلام المؤمنين فـ"حقيقة العمود ونسبته إلى الإمام عليّ مطلقة"، ومهما شغّلت دماغك واكتشفت كمية التناقضات بالجملة، فإن اقتنعتَ بالتفسير فأنت "مؤمن والإيمان هو التصديق"، وإن لم تقتنع فأنت "ملحد" وفي أحسن الأحوال أنت "كافر"، مثل الذين أصابهم الإمام، ولأن النساء أكثر إيماناً، وأقلّ أسئلةً، فهذا الكلام موجه إلى جنس الذكور المنكرين عادةً.

يكتب أمبرتو إيكو، في مقدمة كتابه "أراضي الأساطير"، أن "الأراضي الأسطورية ذات ألوانٍ متنوعة وتشترك في خاصية واحدة فقط -سواء اعتمدَت على أساطير عتيقة قد ضاعت أصولها في غياهب الزمان أم كانت من تأثير المخترعات الحديثة- ألا وهي أنها أجرَت أنهاراً من المعتقدات". من الواضح أن هذا العمود الرمح قد فعل ذلك بنجاح.

من المهم فهم حكاية العمود الرمح ضمن سياق عالم "المجهول"، وعدم تحليلها بأدوات المنطق العقلي لأن الحكاية هي حكاية أولاً وأخيراً، وتلجأ إلى الخيال كغيرها من الأنواع الإبداعية التي تخرج من الناس لأسباب شتى، ومن الممكن استبدال شخصية البطل في القصة، وهو الإمام علي، بأي بطل محلي آخر، وقد يكون بطلاً عالمياً مثل الملك آرثر.

ومن الممكن أنّ حكاية العمود ذات أصل محلي ألبسها أحدهم ثياب الإمام عليّ، وانتشرت بين الناس في فترات الحكم الصليبي، كنوع من أنواع العجز عن المقاومة والمواجهة التي تشتهر بها أدبيات الشيعة، مثلها مثل الكثير من القصص التعويضية في التاريخ. على أنّ الثابت الوحيد هنا، هو أنّ أحداً من البشر لا يقدر على زحزحة العمود، لسبب بسيط، هو أن وزنه لا يقل عن بضعة أطنان. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image