منذ اللحظة التي بدأت فيها الحرب على قطاع غزة، في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أخذت هذه المدينة الحزينة تتحول شيئاً فشيئاً إلى مدينة أخرى لا يعرفها أبناؤها، ولم يعتادوا عليها. فقد فرضت هذه الحرب معادلةً جديدةً، أصبح فيها الجوع رفيقاً دائماً للموت، يمشي بالتوازي معه داخلاً كلّ حيّ وزقاق وبيت، ساحقاً النّاس دون رحمة، حتى بات تأمين كيس طحين أو جرّة غاز أمراً في عداد الرفاهيات لأكثر من 2.3 ملايين إنسان محشورين في 365 كيلومتراً.
الجوع مقابل الموت
"كل شيء غالي، معك بتشتري، ما معك بتموت من الجوع"؛ هذا ما تقوله ص.ع (30 عاماً)، التي رفضت النزوح إلى الجنوب، وأصرّت على البقاء في غزة، حيث تضاعفت الأسعار بشكلٍ مجنون نتيجة الحرب، وبات الحصول على لقمة لعيش يوم إضافي على وقع الأحزمة النارية والقذائف المدفعية وقنابل الفوسفور، يستلزم الكثير من المال الذي قد يكون موجوداً بالفعل، ولكن لا مجال لاستخدامه كما تفيد: "ولو معك فلوس بالحساب البنكي، مش هتقدر تسحبها". فقد خرجت صرافات أغلب البنوك عن العمل، وإن كان بعضها يعمل فالوصول إليها أمر يُشبه اللعب بكرة من الاحتمالات، كلّ احتمالٍ منها يفضي إلى فَقد يدٍ أو قدمٍ أو ساقٍ أو الرحيل إلى الأبد.
في المرات التي يحالف أحدهم فيها الحظ ويعثر على "علبة فول"، فإنه يضطر إلى دفع 3 أضعاف سعرها الطبيعي للحصول عليها
ترافق ذلك الجوع مع انعدام التحويلات الخارجية التي يعتاش عليها عدد كبير من سكان قطاع غزة، فلم يعد ممكناً في الكثير من مناطق القطاع، خصوصاً "شمال الوادي" كما يصفونها، الحصول على صرّاف لاستقبال الحوالة المالية، وإن كان ذلك متوافراً في المناطق الجنوبية، فإن الأمر يحتاج إلى أيام طويلة من الانتظار بعد تسليم الهوية الشخصية لمحلّ الصرافة، وهذا نظراً إلى الازدحام الشديد على محال الصرافة. وفي هذا السياق تضيف ص. ع: "لو في مكاتب كان حوّلنا من حساباتنا البنكية إلهم وسحبنا عن طريقهم".
عن موضوع الفول واللحمة
"البلد ما فيها علبة فول وحدة"؛ هكذا يقول س.ح (24 عاماً)، الذي ظلّ لأيامٍ طويلة يبحث هنا وهناك عن علبة فول، وباءت محاولاته كلها بالفشل، فقد باتت رفوف المحال فارغةً من المعلبات بعد مضي أكثر من شهرٍ على الحرب، واضطر الناس إلى الاعتماد عليها في ظل عدم توافر غاز الطهي والانقطاع الدائم للكهرباء والمياه، وفي المرات التي يحالف أحدهم فيها الحظ ويعثر على "علبة فول"، فإنه يضطر إلى دفع 3 أضعاف سعرها الطبيعي للحصول عليها، وينطبق هذا الغلاء على جميع المعلبات الأخرى كالتونة واللحمة الإكسترا والجبنة.
"متخيل مخازن أكبر تاجر حبوب في خان يونس فضيت!"؛ يقول س.ح مستعجباً، ثمّ يسترسل: "شريت 2 كيلو عسل، عشان حنوصل لمرحلة الوجبة فيها ملعقة عسل لنضل عايشين"، وهذا بعدما فقد الأمل في الحصول على كيس طحين أو أي نوع من المعلبات سواءً كانت لحمةً أو غيرها. وفي وصفه لطريقة سد جوع الصغار يقول: "شريت بـ50 شيكل مارشميلو للصغار عشان كل ما يقولو بدنا ناكل نعطيهم حبتين".
حياة مرهونة بالمال
قلة المواد الغذائية والتموينية المتوافرة في الأسواق، وعدم دخول المساعدات لفترات طويلة خلال أيام الحرب، كانا عاملين أساسيين في ارتفاع الأسعار بشكل لم يسبق له مثيل، وقد شملَ هذا الغلاء الطحين والمعلبات والخضروات وغيرها من المواد التي قد تُبقي الغزّيين على قيد الحياة لفترة أطول، حتى بات الوصول إلى مقومات الحياة التي تجعل الإنسان يتنفّس فقط، أمراً يحتاج إلى شيئين: الحظ والمال وكلاهما غير متوفرين لأيّ غزّي في الحرب.
"نفسي في فنجان قهوة"، إذ لا يتوافر في مكان تواجد أ.ب غاز طهي منذ أسبوعين، ولا يمتلك ثمن شراء حَطب من أجل إعداد هذا الفنجان، ما حوّل فنجان القهوة الصباحي في حياته إلى حلم بعيد المنال، وربما يدخل في عداد الرفاهيات مع أصوات الصواريخ التي تكاد لا تتوقف
وفي نظرة على الأسعار، نجد أن الطحين قد تجاوز سعر الـ25 كيلو منه، 200 شيكل بعدما كان 35 شيكلاً فقط قبل الحرب، وأن الرز تجاوز سعر الكيلو الواحد منه، 10 شيكلات بعدما كان 6 شيكلات فقط، أما المعكرونة التي باتت وجبةً رئيسيةً في الكثير من البيوت، فقد وصل سعرها إلى 7 شيكلات، ولم يسلم البيض من موجة الغلاء فقد شهد ارتفاعاً مهولاً في السعر، فبعدما كان سعر "طبق البيض" 14 شيكلاً فقط قبل الحرب، تجاوز سعره خلال الحرب 45 شيكلاً.
وسائل بدائية حديثة
عدم توافر غاز الطهي ووصول سعر الـ12 كيلو منه إلى أكثر من مئة دولار -إذا حالف أحد الحظ ووجد جرّة غاز- جعلا الناس في قطاع غزة يلجأون إلى وسائل بدائية في الطهي وإعداد الخُبز، تمثّلت في الاعتماد على الحطب الذي بدوره ارتفع سعره أيضاً وشحّ وجوده، ما جعل الناس يستبدلون طوابير الخُبز الطويلة التي قصفتها الطائرات الإسرائيلية أكثر من مرة، بصناعة "خبز الرقاق" أو في مسمى آخر "خبز الصاج"، الذي يُستخدم خارج إطار الحرب في عمل الفتة والمسخن الفلسطيني، ولا يحتاج إلى وقت طويل في الإعداد مقارنةً بالخبز العادي.
وفي هذا السياق، يقول أ.ب (28 عاماً)، الذي ترك بيته في غزة ونزح إلى الجنوب منذ الأيام الأولى للحرب: "نفسي في فنجان قهوة"، إذ لا يتوافر في مكان تواجده غاز طهي منذ أسبوعين، ولا يمتلك ثمن شراء حَطب من أجل إعداد هذا الفنجان، ما حوّل فنجان القهوة الصباحي في حياته إلى حلم بعيد المنال، وربما يدخل في عداد الرفاهيات مع أصوات الصواريخ التي تكاد لا تتوقف.
أشياء لا تُشترى
في السابعة صباحاً من يوم الجمعة 24 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي 2023، دخلت التهدئة الإنسانية في قطاع غزة حيّز التنفيذ، لتبدأ شاحنات المُساعدات والوقود بالدخول، وهنا كان على الغزّيين الدخول في مُعترك جوع آخر من مسافة صفر، يتمثّل في الوقوف الطويل في طوابير لا حصر لها. فالحصول على الماء يستوجب الوقوف لساعاتٍ طويلة في طابور، وتعبئة جرّة الغاز لا تتم إلا بطابور، والحصول على كيس طحين يستوجب طابوراً، وتعبئة البنزين تحتاج إلى طابور، وهكذا تحوّلت حياة الغزيين إلى طوابير ريثما تنتهي التهدئة فيتم استكمال الإبادة.
الحصول على الماء يستوجب الوقوف لساعاتٍ طويلة في طابور، وتعبئة جرّة الغاز لا تتم إلا بطابور، والحصول على كيس طحين يستوجب طابوراً، وتعبئة البنزين تحتاج إلى طابور، وهكذا تحوّلت حياة الغزيين إلى طوابير ريثما تنتهي التهدئة فيتم استكمال الإبادة
وعلى الرغم من تجاوز عدد المساعدات، الـ100 شاحنة في اليوم، إلا أنها لا تزال غير كافية لسدّ جوع ما يزيد عن 2.3 ملايين إنسان، زيادةً على محدودية شحنات المساعدات التي تصل إلى مناطق غزة والشمال، وهو ما يضع حياة عشرات الآلاف من السكان على المحك، في الوقت الذي تركز فيه توزيع المساعدات على مراكز الإيواء المتمثلة بشكل رئيس في مدارس وكالة الغوث في مختلف مناطق القطاع.
بيع وشراء في الحرب
لجأ الكثير من النازحين في مناطق جنوب قطاع غزة، إلى إعادة بيع جزء من المساعدات التي تصل إليهم، في ظل حاجتهم الشديدة إلى المال الذي إما فقدوه خلال النزوح أو لم يمتلكوه أساساً، وقد ساهم هذا في ارتفاع أسعار المواد التموينية المتوافرة في السوق بشكل لافت، ومضاعفة أسعار السّلع بطريقة غير منطقية.
وقد ترافق هذا مع قيام بعض التجار بالاحتفاظ بالمواد التموينية المختلفة، لا سيما الطحين، ومن ثمّ بيعها بأسعار طائلة استغلالاً لندرة وجودها في السوق وحاجة السكان الملحة إليها، وقد تجلى ذلك بوضوح في انخفاض أسعار الطحين وتوفر الكثير منه بعد إعلان وكالة الغوث عن بدء توزيع أكياس الطحين على الناس في أيام التهدئة، وهو ما يطرح سؤالاً كبيراً: هل يستغلّ مَن يموت مَن هو ميّت في الأساس؟
نهايةً، يمكن القول إنّ هذه الحرب وضعت صفراً كبيراً في حياة كلّ غزّي، فمن لم يفقد عائلةً، فقد بيتاً. ومن لم يفقد بيتاً، فقد حبيباً. ومن لم يفقد حبيباً، فقد صديقاً. ومن لم يفقد كلّ هؤلاء، أصبح الجوع رفيقاً دائماً له. أما سعداء الحظ في هذه الحرب، فهم الذين عرفوا الموت من مسافة صفر، ولم يروا حبيبتهم غزة وقد حولتها الطائرات والدبابات إلى صفرٍ كبيرٍ مؤلم من الفقد والجوع والألم. إنهم أحباؤنا الذين رحلوا إلى الأبد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 5 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه