يفسر المنجّم للملك جليعاد، في ألف ليلة وليلة، خدعة السِّنَّـوْر للفأر. السِّنَّـوْر قط لا يجد فريسة، ويصادفه وكر لفأر. يزحف على يديه ورجليه، ويتوسّل الإيواء. يعجب الفأر ويصارحه: "أنت لي عدو بالطبع ومعاشك من لحمي". يتمسكن ويتظاهر بالعجز عن الحركة، وكم تمنى الموت ليستريح، فما ناله: "أنا طريح على بابك من البرد والمطر وأسألك بالله من صدقتك أن تأخذ بيدي". أكد الفأر أن عداوتها "طبيعية بين الأرواح. وقد قيل من استأمن عدوه على نفسه كان كمن أدخل يده في فم الأفعى... من أخذ عهدا من عدوه لا يبتغي لنفسه نجاة". واحتال السِّنَّـوْر "حتى ملك المخرج"، ومنعه أن يخرج، وانقضّ عليه.
لم تصمد الهدنة بين السَّنَّـوْر والفأر. ولن تتعظ إسرائيل بدرس غزة. عسكرياً، أحبطت المقاومة خطط جيش الاحتلال. وسياسياً، أربكت سيناريوهات للتطبيع جاهزة للتوقيع. وأخلاقياً، تفوقت بشهادة أسرى إسرائيليين أدانوا كذب الاحتلال. في الوقت نفسه كانت جرافات العدو، في الضفة الغربية، تمارس عدواناً نوعياً، بإزالة معالم ميادين تحمل أسماء الشهداء، نصب ياسر عرفات في مدينة طولكرم مثلاً.
في العقيدة السياسية لإسرائيل الصغرى، الموروثة عن إسرائيل الكبرى، أن تلجأ إلى هدنة إذا فشل العدوان في تحقيق أهدافه. الهدنة اضطرارية، استراحة قتلة للتفكير في استعادة الهيبة
سخافة الانتقام والمكايدة بلغت سقفاً هزلياً، بتجريف أسفلت الشوارع. إهانة تعرّض لمثلها ياسر عرفات في حصاره الأخير، ولم تكن الحجة انتماءه إلى حماس. آنذاك أدرك متأخراً أن دوره انتهى، وليس في جعبته تنازلات أخرى لشارون الذي هدده بالحبس في رام الله. وجرّف مدرج المطار.
في العقيدة السياسية لإسرائيل الصغرى، الموروثة عن إسرائيل الكبرى، أن تلجأ إلى هدنة إذا فشل العدوان في تحقيق أهدافه. الهدنة اضطرارية، استراحة قتلة للتفكير في استعادة الهيبة، لا تعنيهم الوسائل. بإقرار إرهاب الدولة، تغيب الروادع. لولا احتياجهم إلى هدنة، بعد استنزاف عسكري واقتصادي، لاستمرت الإبادة.
انتهت الهدنة فاستأنفوا العدوان على الضفة وغزة، حتى إن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت، بطل عملية "الرصاص المصبوب" على غزة 2008، خرج من قبره السياسي، واقترح على حلفاء إسرائيل إرسال قوة تدخل عسكرية من دول الناتو، لإحكام السيطرة على قطاع غزة. ماذا بقي من اتفاقيات أوسلو؛ لكي تتمسك السلطة العاجزة بتسوّلٍ عنوانه "حل الدولتين"؟
لأهل السياسة، ومن يملكون خزائن المعلومات، أن يجيبوا. ما أنا إلا محبّ للقصص والروايات، أتجول في دروب التاريخ، فتصادفني مصائر يشبه البعض من تفاصيلها ما نشهده. ويمكن لقارئ التاريخ أن يجد مشتركاً عدوانياً بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، تشابه يكاد يبلغ حدّ التطابق في الخطوات... مقدمات التأسيس، حضور الدين غطاء أخلاقياً للإبادة، إعلان الاستقلال المرتبط بنكبة أصحاب الأرض، إرهاب الدولة في التطهير العرقي، الإقدام على حرق قرى بأكملها إذا تمسك أهلها بالبقاء، استخدام القوة المفرطة في ضمّ أراضي الغير، سرقة الثروات، عقد المعاهدات ونقضها إذا انتفت الحاجة إليها، القابلية للهزيمة في الحروب غير النظامية. وكانت فيتنام أول هزيمة عسكرية لأمريكا.
بين فلسطين وفيتنام، بين غزة وفيتنام، تشابه كبير. وبينهما اختلاف في التوقيت. مبكراً أدرك هوشي منه أن أحداً لن يساعد بلاده على نيل الاستقلال، والشعب يحارب الاحتلال الياباني ثم الفرنسي: "نقف وحيدين... لا بدّ أن نعتمد على أنفسنا". حقيقة تأخرت على الفلسطينيين الذين خذلهم إخوتهم، حتى أعلن محمود درويش في "مديح الظل العالي" شعاراً يتلخص في كلمة "وحدي"، واعتمد "يا وحدنا" عنواناً لما بعد حصار بيروت 1982. تبدّت حقيقة العجز أو التواطؤ، "لا إخوة لك يا أخي، لا أصدقاءٌ يا صديقي". قاوم هوشي منه، وأعلن تأسيس فيتنام الديقراطية، وكتب إلى الرئيس الأمريكي هاري ترومان ثماني رسائل للتذكير بوعود تقرير المصير.
في إحدى الرسائل، إلى ترومان وإلى الأمم المتحدة، جذب الانتباه إلى موت مليوني مواطن فيتنامي جوعاً بين عامي 1944 و1945، "بسبب سياسة التجويع الفرنسية، حيث كان الفرنسيون يجمعون الأرز ويخزنونه حتى يتعفن... إن كثيراً من الناس يهددهم الموت جوعاً... وإذا لم تسعفنا القوى العظمى في العالم ومنظمات الإغاقة بمساعدات عاجلة، فإننا سنواجه كارثة محدقة".
"نقف وحيدين... لا بدّ أن نعتمد على أنفسنا". حقيقة تأخرت على الفلسطينيين الذين خذلهم إخوتهم، حتى أعلن محمود درويش في "مديح الظل العالي" شعاراً يتلخص في كلمة "وحدي"، واعتمد "يا وحدنا" عنواناً لما بعد حصار بيروت 1982.
لم يردّ ترومان، وجاء الردّ فرنسياً بالقصف المدعوم أمريكيا، وبدأت سنة 1946 حرب السنوات الثماني. وعند انسحاب الفرنسيين حال الأمريكان دون توحيد البلاد؛ ليضمنوا لأنفسهم مجالاً حيوياً. وحملوا الفيتنامي "نجو دين ديام"، حامد كرزاي الفيتنامي، من ولاية نيو جيرسي حيث يعيش، إلى سايجون حاكما لجنوب فيتنام.
تشيد أوروبا الكولونيالية وأمريكا بما يسمى واحة إسرائيل الديمقراطية، وسط صحراء الاستبداد العربي. خطاب دعائي، خال المعنى، لا يملون تكراره. باسم أمريكا حكم ديام، وما كان له إلا أن يكون مستبداً، بموافقة ترومان وأيزنهاور، ثم تكلم جون كيندي عن "النجاح المدهش للرئيس ديام"، وقال عن فيتنام ديام: "إن حريتها السياسية شيء ملهم". ظنوا أن ديام حلٌ، فصار عقبة. وفي 1 تشرين الثاني/نوفمبر 1963، دبروا انقلاباً عليه، فاتصل بالسفير الأمريكي الذي خذله. هرب ديام مع أخيه، وقبض عليهما المتآمرون، واقتادوهما في سيارة نصف نقل. وبعد ثلاثة أسابيع على إعدام ديام، اغتيل كيندي، وتولى نائبه ليندون جونسون الذي أعلن على فيتنام حرباً صريحة.
يذكر المؤرخ الأمريكي هوارد زن في كتابه "التاريخ الشعبي للولايات المتحدة" أن أمريكا "أسقطت سبعة ملايين طن من القنابل على فيتنام، وهو ما يفوق أكثر من مرتين إجمالي ما أُلقي من قنابل على أوروبا وآسيا في الحرب العالمية الثانية؛ أي قنبلة تزن خمسمئة رطل لكل إنسان في فيتنام... أُلقيت غازات سامة بالطائرات لتقضي على الشجر... منطقة باتساع ولاية ماساتشوستس قد غطيت بهذه الغازات"، فضلاً عن تشوهات الأطفال، وأفاد علماء الأحياء بجامعة ييل الأمريكية، بعد استخدام السم نفسه على الفئران أنه "أدى إلى ولادة فئران مشوهة". ما كان أحد ليتوقع للقوة العظمى مصيراً مهيناً في ذلك المستنقع البعيد عن الجغرافيا الأمريكية.
أطوي صفحة حرب فيتنام، لأصل إلى قضية الهدنة. أرجع خطوة قبيل نهاية الحرب، إذ ظل الرئيس فورد، الذي تولى بعد استقالة نيكسون، يدعم حكومة جنوب فيتنام، أملاً في استقرار يضمن استثمارات اقتصادية. كتب رئيس لجنة الكونجرس جون كوكنس، بعد زيارة فيتنام، عن "الجمع بين خدمة الرب وخدمة رأس المال... تستطيع فيتنام أن تكون الانطلاقة القادمة للرأسمالية الجديدة في آسيا".
لكن الفيتناميين الشماليين دخلوا سايجون، في 29 نيسان/أبريل 1975، وانتهت الحرب. سبق تلك النهاية مظاهرات أمريكية رافضة للحرب، وتمردات داخلية لرافضي التجنيد، واستقبال عائدين من فيتنام موتى أو ناقصي الأطراف. وبعد أشهر انسحب هنري كيسنجر وزير الخارجية من حفل بجامعة ميشجان.
دُعي كيسنجر لإلقاء خطبة في حفل تخرج، فقوبلت الدعوة باحتجاج على دوره في حرب فيتنام. كان كيسنجر يرى أن على أمريكا القيام "ببعض الأفعال في مكان ما بالعالم لتأكيد استمرارها كقوة عالمية"، وهكذا حدثت عملية "ماياجويه"، وهي سفينة شحن أمريكية أبحرت، في أيار/مايو 1975، من جنوب فيتنام إلى تايلاند، بعد ثلاثة أسابيع من انتصار ثوار فيتنام. واعترض السفينةَ ثوار كمبوديون، وأنزلوا طاقهما. جرى ذلك صباح يوم الاثنين، ورحبوا بهم، وكتبت الصحافة عن حسن معاملة الخاطفين لطاقم السفينة. وعلى الفور أمر الرئيس فورد ببدء العمليات العسكرية، فألقت الطائرات قنابل على السفن الكمبودية، وإحداها كانت تقل بحارة أمريكيين، كما يقول هوارد زن.
مساء الأربعاء أطلق الكمبوديون سراح طاقم السفينة، وعددهم تسعة وثلاثون. أركبوهم مركب صيد باتجاه الأسطول الأمريكي. وعلى الرغم من علم الأمريكيين بترحيل الطاقم، فقد أمر الرئيس قواته البحرية بالهجوم على كمبوديا. بدأ القصف بعد ساعة من توجه البحارة الأمريكيين إلى القاعدة البحرية، وكان خبر الإفراج قد أذيع في راديو بانكوك، "وقد تم رصد مكان البحارة بواسطة طائرة استطلاع أمريكية، ومع ذلك تم الهجوم!". وهاجمت قوات المارينز الجزيرة، وفاجأتهم مقاومة الكمبوديين. ثلث القوات مات أو أصيب، وتم تفجير أو تعطيل خمس من إحدى عشرة مروحية، وقتل ثلاثة وعشرون أمريكياً في انفجار طائرة قبل الانضمام للمهاجمين. قتل في العملية واحد وأربعون فرداً.
تعرّض الوحش للنهش. نهشُ الجسد تلزمه هدنة للتعافي، ونهشُ المخ يؤدي إلى اختلال بعض من مراكزه، في الإبصار أو التفكير، والإصابة بالجنون واردة أيضاً. الثور الهائج الجريح لا يميز ثكنة عسكرية من مستشفى. لإسرائيل الأولى، الكبرى، ريادة في فنون التوحّش
وصل البحارة سالمين، قبل الهجوم. فما الداعي لعملية اجتمع فيها، كما يتساءل هوارد زن، "انعدام الضمير الأخلاقي وعدم الحكمة العسكرية؟ سيأتي الرد كالآتي: إنه كان من الضروري إثبات للعالم أن العملاق الأمريكي ـ الذي هزم من القزم الفيتنامي ـ ما يزال صاحب القوة والنفوذ". وأوردت تقارير صحفية على ألسنة كسينجر وخبراء الإدارة والاستراتيجية والتخطيط، أهمية تأكيد الزعامة العالمية، وجاء خطف السفينة فرصة لاختبار السطوة الأمريكية في جنوب شرق آسيا. وفي عيد العلم، تموز/يوليو 1975، قدم الجيش استعراضاً عسكرياً يجسد مشاركته في ثلاث عشرة حرباً، وعبر الرئيس عن سعادته بأعلام ترفرف بالقرب من المنصة، وكُتب على أحدها: ًكفى إبادة جماعية باسمنا".
تثبت الحقائق الميدانية أن غزة 2023 فككت الكثير من مكونات الآلة الإسرائيلية، عسكرياً وإعلامياً ونفسياً وديموجرافياً. تعرّض الوحش للنهش. نهشُ الجسد تلزمه هدنة للتعافي، ونهشُ المخ يؤدي إلى اختلال بعض من مراكزه، في الإبصار أو التفكير، والإصابة بالجنون واردة أيضاً. الثور الهائج الجريح لا يميز ثكنة عسكرية من مستشفى. لإسرائيل الأولى، الكبرى، ريادة في فنون التوحّش.
بعد ست سنوات من الحصار الاقتصادي للعراق، سئلت وزير الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت، عام 1996، عن وفاة نصف مليون طفل عراقي متأثرين بنقص الدواء والألبان بسبب العقوبات، أي أكثر من عدد الأطفال الذين ماتوا في هيروشيما، فأجابت: "الأمر يستحق". هكذا يرى قادة إسرائيل الصغرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع