شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
في ذكرى اغتياله الـ71... لماذا لم تفتح تونس ملف اغتيال المناضل فرحات حشاد بعد؟

في ذكرى اغتياله الـ71... لماذا لم تفتح تونس ملف اغتيال المناضل فرحات حشاد بعد؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الثلاثاء 5 ديسمبر 202305:38 م

"أحبّك يا شعب. أحبك حين تبحث، وحين تكثر في البحث عن مجرى أمور بلادك وسير قضيتك، وأحبك حين تنتقد وحين تصيح وحين تغضب وحين تدبر"؛ هذه الجملة قالها الزعيم النقابي والمناضل التونسي فرحات حشاد، في مواجهة المستعمر الفرنسي سنة 1950، فخلّدها التاريخ وظلت مصاحبةً لذكراه.

لم يكن حشاد مناضلاً في المجال النقابي فحسب، بل كذلك في مقاومة المستعمر والكفاح الوطني، إلا أن انتصاره لحقوق الطبقة الكادحة وتزعمه للكفاح المسلح كلّفاه حياته، حيث تم اغتياله في 5 كانون الأول/ ديسمبر من العام 1952، بعد أن تعرض لإطلاق نار وهو في طريقه من منزله إلى الاتحاد التونسي العام للشغل في العاصمة.

إلى اليوم، يتذكر التونسيون نضالات حشاد، الذي تأثروا بخطاباته وآمنوا بفكره ومشروعه النقابي والنضالي، فلم يثنِهم اغتياله عن مواصلة الكفاح حتى تحصلوا على الاستقلال. تحل اليوم ذكرى مرور 71 سنةً على اغتيال حشاد، وفي هذه الذكرى، يروي نجله نور الدين لرصيف22، تفاصيل عن حياة والده، الشخصية والنقابية، وعن اغتياله، والعدالة الضائعة، إلى اليوم.

كيف قضى حشاد طفولته، وكيف انتقل من قرقنة إلى تونس؟

فرحات حشاد، أصيل من منطقة "العباسية"، في قرقنة شرق تونس، له 15 شقيقاً وشقيقةً. توفي 13 منهم مرضاً وجوعاً، ولم يبقَ سوى ثلاثة، من بينهم فرحات الذي تحصل على شهادة في ختم الدراسة الابتدائية، وبسبب ضيق الحال لم يتمكن من إتمام مسيرته الدراسية، فقررت والدته التي رأت فيه مستقبلاً زاهراً إرساله إلى خاله الموجود في ولاية سوسة، لحمايته وليتمكن من إيجاد عمل، فانتقل فرحات وهو في عمر الخمس العشرة سنةً إلى سوسة، ولم يحمل معه شيئاً ما عدا ثيابه التي كان يرتديها.

"أحبّك يا شعب. أحبك حين تبحث، وحين تكثر في البحث عن مجرى أمور بلادك وسير قضيتك، وأحبك حين تنتقد وحين تصيح وحين تغضب وحين تدبر"

اشتغل حشاد في شركة النقل، وولع بالحركة النقابية نتيجة شعوره الكبير بمآسي العمال ومتاعبهم. ترأس نقابةً أساسيةً للعمال تابعةً للمنظمة الفرنسية للاتحاد العام للعمل "سي جي تي"، وهي الوحيدة التي كانت متاحةً آنذاك. وبسبب تحرره ونصرته للعمال، تم طرده من العمل خلال الحرب العالمية الثانية، بعد أن قضى فيه 8 سنوات. ثم عاد إلى قرقنة، وتزوج ابنة عمه في سن التاسعة والعشرين، ثم قدّم ترشحه للعمل في الإدارة العامة للأشغال العامة، ونجح في المناظرة وأصبح موظفاً في مؤسسة عمومية.

وفي سنة 1944، عادت الحركة النقابية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولاحظ فرحات حشاد الظلم الواقع على العامل التونسي، فراودته فكرة محمد علي الحامي، مؤسس أول منظمة نقابية تونسية، فقرر الاستقالة من "سي جي تي"، في نيسان/ أبريل 1944، وكوّن اتحاد النقابات المستقلة للجنوب في تشرين الثاني/ نوفمبر، وانتقل إلى تونس العاصمة في أيار/ مايو 1945، ليؤسس اتحاد النقابات في الشمال، والتقى مع الجامعة العامة للموظفين وتقرر تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل في 20 كانون الثاني/ يناير 1946، وتم تكوينه على مراحل.

كيف حظي حشاد بشعبية كبيرة لدى الطبقة العاملة؟

بمتابعتي واكتشافي لهذا الرجل النقابي التونسي، تبيّن لي أنه أسس حياته على مبدأ التعويل على الذات، وفرض وجوده بسيرته الطيبة وابتسامته وقوته، فتمكن من فرض نفسه برغم أن العامل كان محتقراً آنذاك، وكان حشاد يستمد قوته من وضعيته كعامل، فجعل من الاتحاد أداةً محترمةً تثير الرعب، وعندما تعلن عن موقف يلتزم به الجميع.

حوّل حشاد الاتحاد ليصير معروفاً على صعيد أوسع بكثير من تونس... كيف أمكنه ذلك؟

بعد أسبوعين فقط من تكوين فرحات للاتحاد العام التونسي للشغل، أرسل رسالةً للمنظمة العالمية النقابية وطلب عضويةً للاتحاد، لكن مطلبه جوبه بالرفض لأنها كانت شيوعيةً، وبعد ثلاث سنوات فرض الاتحاد وجوده، فانخرط فيه 100 ألف عامل في سنة واحدة، وتمكن من الانضمام إلى الاتحاد الدولي للنقابات "السيزل"، واشترط دعمه لمقاومة الاستعمار الفرنسي لتونس، وحضر مؤتمره الأول واصطحب معه الحبيب بورقيبة ليبيّن أن الحركتين النقابية والتحررية متوازيتان.

كذلك، تم ترتيب زيارة أولى لأمريكا سنة 1951، وبمعية الحبيب بورقيبة، مدافعاً عن القضية التونسية في وزارة الخارجية الأمريكية، وألقى في سان فرانسيسكو خطابه الشهير وكان يجهز لوضع القضية الوطنية أمام الأمم المتحدة، لأن تونس كانت تقاوم منذ سنة 1905، وجهاً لوجه مع فرنسا التي ارتكبت جرائم فظيعةً ضد الشعب التونسي، فتمكن حشاد من تدويل القضية التونسية وأصبحت أمريكا تعاتب فرنسا على جرائمها، وبفضل النقابات والإعلام والمجتمع المدني، أخذت العديد من المواقف الداعمة لتونس، في مجلس الأمن.

يوم استشهاد حشاد كان هناك اجتماع للأمم المتحدة، فتم منعه من حضوره لأن مخطط اغتياله كان جاهزاً. وبما أنه كان نائب رئيس "السيزل"، رتب اجتماعاً مع الاتحاد الدولي للنقابات ليتدخل لفائدة تونس في اجتماع الأمم المتحدة في لجنتها الأولى.

ما هو دور حشاد في الكفاح الوطني؟

سنة 1950، وتزامناً مع إضراب "النفيضة" الذي نفّذه العمال والفلاحون والذي راح ضحيته العديد من المضربين من بينهم امرأة حامل بتوأم تم شق بطنها بسكين. مُنع حشاد من الحضور في الإضراب، فكتب مقاله الشهير: "نحبك يا شعب"، وتمكن من توفير موكب دفن وطني لشهداء أحداث النفيضة حضره الملك ووزير الشؤون الاجتماعية وكان انتصاراً عظيماً لوضعية العامل الذي كان يُقتل ولا يعلم به أحد.

سنة 1952 تم وضع زعماء الحركة التحريرية في السجن، ولم يبقَ سوى فرحات حشاد حرّاً، فكان الوحيد الذي يلقي الخطب في ظل حكم عسكري مقيت، وأصبحت دار الاتحاد مكاناً تُصنع فيه القنابل لدعم المقاومة، وتالياً لم يكن من الممكن أن تنتهي سنة 1952 دون اغتياله، فقد حكم على نفسه بالموت وكان يعرف ذلك.

وبفضل مقال "أحبك يا شعب"، أصبح حشاد يتكلم باسم الشعب وليس فقط النقابة والنقابيين، فارتأى أن الاتحاد جاهز لينخرط في الحركة الوطنية وفي المقاومة المسلحة، فسافر إلى أمريكا واتفق مع بورقيبة على توزيع الأدوار بينهما. وقد نجح كذلك في جلب الملك محمد الأمين باي، ليكون مع القضية التونسية والوطن والمقاومة وأصبحت بذلك البلاد التونسية منسجمةً في ما بينها برئيسها وحزبها والاتحاد، وأصبحت الحركة التحريرية تسير على قدمين لأنها أصبحت ببعد كامل، فنجحت.

سنة 1952 تم وضع زعماء الحركة التحريرية في السجن، ولم يبقَ سوى فرحات حشاد حرّاً، فكان الوحيد الذي يلقي الخطب في ظل حكم عسكري مقيت، وأصبحت دار الاتحاد مكاناً تُصنع فيه القنابل لدعم المقاومة، وتالياً لم يكن من الممكن أن تنتهي سنة 1952 دون اغتياله، فقد حكم على نفسه بالموت وكان يعرف ذلك.

أنت تدحض أطروحة اغتيال حشاد من قبل اليد الحمراء؟

أنا سعيد اليوم لأني نجحت في تغيير فكرة اغتيال حشاد من طرف اليد الحمراء، فتسعون في المئة من الشعب التونسي يقرّون بأن فرنسا ومصالحها المختصة هي من دبّرت مقتل حشاد وقتلته... اليد الحمراء موجودة في تونس منذ حزيران/ يونيو 1952، أي قبل ستة أشهر من اغتيال حشاد، وهي مكونة من معمرين وشرطة، وعندما تتمكن المقاومة التونسية من قتل معمّر، ينتقمون ويقتلون تونسيين، لذلك أنشأت المقاومة اليد السوداء انتقاماً من اليد الحمراء، وهي التي قتلت سنة 1953 عز الدين باي، ومحمد المزالي، والإعلامي الشاذلي القسطلي.

فرحات أضرّ بمصالح المستعمر الفرنسي وشركاته وموظفيه السامين، فتقرر قتله بطلب من المقيم العام، وسانده في ذلك رئيس الحكومة صلاح الدين البكوش الذي وافق على التخلص من حشاد، وفور اغتياله اتصلت فرنسا بأمريكا لتقنعها بأنه زعيم الإرهاب، وبث المستعمر إشاعة قتله من قبل اليد الحمراء.

هل انتصرت تونس لحق حشاد؟

بالنسبة لي، الاتحاد العام التونسي للشغل قام بدوره في قضية حشاد حسب ظروفه، كذلك الشعب التونسي الذي فرض فتح قضية اغتياله مراراً وتكراراً. لكن الدولة التونسية برؤسائها ووزراء خارجيتها، لم تقُم بدورها، فلطالما دعوت إلى مطالبة فرنسا بملف اغتيال فرحات حشاد الذي أعدّه موجوداً إلى الآن، لكني لم أجد استجابةً من أي رئيس أو حكومة.

"قبل وفاة والدي كان عمي ينصحه بالتريث، وقال له إنه سيموت إذا واصل على النهج نفسه، فقال له والدي: "أعلم ذلك"، وعندما سأله عمي عن مآل أولاده، قال فرحات حشاد: "سأترك لهم الشعب التونسي أباً"

لقد تحدثت مع فرنسا في اجتماعات رسمية في وزارة خارجيتها باسم الجزائر، وكتبت للرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي رسالةً حول ملف اغتيال والدي، فسألني عن رأي رئيس بلادي في الموضوع. ناضلت وحيداً من أجل ملف فرحات حشاد. حتى وزارة العدل التي مات حشاد وكثيرون مثله في سبيلها لم تفتح ملفه. والدي مواطن تونسي مات على تراب تونس وعلى الدولة فتح ملفه حتى لو كل الذين قتلوه ماتوا. نحن يجب أن نعرف الحقيقة.

هل تعرضتم كعائلة حشاد لمضايقات بعد وفاته؟

عندما اغتيل أبي، كنت في سن الثامنة، وكانت شقيقتي الصغرى رضيعةً لا يتجاوز عمرها ستة أشهر وتمكننا من العيش بفضل المرأة التونسية العظيمة "أم الخير"، التي قامت بواجباتها كأم، وظلت وفيةً لذكرى زوجها الذي توفي وهي في سن الثانية والعشرين.

لقد مررت لنا والدتي الرسالة، وربّتنا على إرث والدي، لذا نحن نعدّ أن الشعب التونسي هو والدنا والتمسنا فيه الوفاء ونحن مدينون له بذلك، لكننا عشنا باحترام ولم نكن يوماً عبئاً على الشعب التونسي. قبل وفاة والدي كان عمي ينصحه بالتريث، وقال له إنه سيموت إذا واصل على النهج نفسه، فقال له والدي: "أعلم ذلك"، وعندما سأله عمي عن مآل أولاده، قال فرحات حشاد: "سأترك لهم الشعب التونسي أباً".  


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image