عبد الله حمدوك، رمز التغيير في السودان، ورئيس حكومتَي الفترة الانتقالية السابقتين. شهد من منصبه أهم محطات الانتقال، من توقيع اتفاق سلام جوبا ورفع اسم البلاد من قوائم رعاة الإرهاب، إلى التطبيع مع إسرائيل، والموافقة الدولية لإعفاء السودان من الديون، وانقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر الذي أنهى وجود المدنيين في السلطة، بما فيها حكومة حمدوك الثانية.
العودة للعمل السياسي
يعود حمدوك ثانيةً، بعد فترة انعزال منذ استقالته وخروجه من البلاد عقب الانقلاب، وتحديداً في شباط/ فبراير 2021، بعد فشل مفاوضاته مع العسكريين، إلى المشهد السياسي من خلال قيادة جهود القوى السياسية المدنية المحسوبة على الحرية والتغيير، أي المجلس المركزي لإيقاف الحرب واستعادة الانتقال المدني الديمقراطي.
والمهمة ليست باليسيرة، ليس لواقع الحرب بين الجيش والدعم السريع فقط، بل لأن حمدوك سيقود ثانيةً رفاق الأمس الذين لطالما اشتكى من تهافتهم على السلطة وانقساماتهم، فضلاً عن أنّهم باتوا جزءاً من الانقسام الحاد في البلاد.
بعد إخفاق الجبهة المدنية في إيقاف الحرب واستعادة الديمقراطية في إحراز تقدم سياسي نحو وقف القتال في السودان، منذ تأسيسها بعد انطلاق الحرب بأيام عدة، تحوّل الفاعلون في الجبهة نحو مقاربة جديدة. قامت الكيانات والشخصيات ذاتها التي شكلت الجبهة، بتشكيل كيان جديد باسم تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية "تقدم"، وعقدت اجتماعاتها التحضيرية في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، في أديس أبابا.
خرج كيان "تقدم" بمقررات عدة، أولها الاتفاق على الهيكل التنظيمي المؤقت للهيئة القيادية برئاسة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، للقيام بالمهام الرقابية والإشرافية ومتابعة التحضير للمؤتمر التأسيسي للتنسيقية. كما اعتمد ورقة "الموجهات العامة للعملية التفاوضية لوقف الحرب وإعادة تأسيس الدولة السودانية"، وورقة "أسس ومبادئ إنهاء الحرب وتأسيس الدولة السودانية"، وغير ذلك من القرارات.
لا تنبع أهمية وجود حمدوك على رأس جبهة "تقدم"، من أفكاره التي قد يضفيها على مسارات العمل، بل من مكانته وعلاقاته بالفاعلين الدوليين والمحليين من القوى العسكرية المتحاربة. يقول عضو المجلس الاستشاري لقائد قوات الدعم السريع الباشا طبيق، إن الدعم السريع لا يمانع في التواصل مع عبد الله حمدوك، باعتباره رئيس الوزراء الشرعي، مضيفاً أنّ الدعم يخوض هذه الحرب من أجل إعادة الحكم المدني الديمقراطي، من خلال إزاحة فلول النظام السابق الذين يخططون للعودة إلى السلطة بعد إشعالهم الحرب.
عبد الله حمدوك يلقى تأييداً كبيراً من قوى سياسية وازنة، وعودته تساعد البلاد على الخروج من الأزمة الحالية في حال تم التوافق بين كل المكونات السياسية والاجتماعية، مع تناسي الخلافات السابقة من أجل الشعب السوداني، الذي يعاني من ويلات الحرب
يخبر طبيق، رصيف22، بأنّ عبد الله حمدوك يلقى تأييداً كبيراً من قوى سياسية وازنة، وعودته تساعد البلاد على الخروج من الأزمة الحالية في حال تم التوافق بين كل المكونات السياسية والاجتماعية، مع تناسي الخلافات السابقة من أجل الشعب السوداني، الذي يعاني من ويلات الحرب التي يريد عناصر النظام السابق لها أنّ تستمر.
يُذكر أن الدعم السريع كان شريكاً للجيش في انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر، الذي أطاح بحكومة حمدوك الثانية، ولم يتراجع الدعم عن موقفه ويبدي ندمه على مشاركته في الانقلاب على لسان قائده محمد حمدان دقلو (حميدتي)، إلا بعد تعقّد أزمته الخاصة مع الجيش.
يرى الخبير العسكري العقيد الركن المتقاعد خالد محمد عبيد الله، أنّ حمدوك شخصية محورية في الفترة الانتقالية لما له من مقبولية كبيرة في الشارع، لكن قيام الحرب أخلّ بالموازين مرةً أخرى، لتنحصر مكانة حمدوك عند العسكريين في كونه شخصيةً يمكنها الحفاظ على استدامة العلاقات الدولية واستقطاب الدعم الاقتصادي الدولي.
ويقول عبيد الله، لرصيف22، إنّ العسكريين تحفظوا على إصرار حمدوك على تجديد تفويض بعثة "يونيتامس" تحت الفصل السادس من ميثاق مجلس الأمن الدولي، ولا يعارضون عودته إلى رئاسة الحكومة، طالما انتهى تفويض تلك البعثة.
وأنهى مجلس الأمن الدولي في اجتماعه في الأول من كانون الأول/ ديسمبر الجاري، تفويض بعثة الأمم المتحدة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس)، بناءً على طلب من وزارة الخارجية السودانية، بعد خلافات طويلة بين البعثة ورئيسها السابق فولكر بيرتس والجيش السوداني.
ماذا سيقدّم حمدوك؟
بإنهاء تفويض البعثة الأممية، فقدت القوى المدنية أهم حلفائها الدوليين، وسينحصر الدور الأممي عبر مبعوث الأمين العام، رمطان لعمامرة، الذي شغل منصب وزير الخارجية في الجزائر من قبل، والذي لن يمنح الحرية والتغيير المكانة المميزة التي منحها لهم فولكر بيرتس.
يذكر مصدر قريب من تنسيقية "تقدم"، فضّل عدم الكشف عن هويته، أنّ حمدوك التقى رئيس الاتحاد الإفريقي موسى فكي في أديس أبابا، في أثناء انعقاد جلسات اجتماع التنسيقية.
ويقول المصدر لرصيف22، إنّ جبهة "تقدم" برئاسة حمدوك، تلقت دعوةً رسميةً من رئيس دولة جنوب السودان لمناقشة الأزمة السودانية والبحث عن مخرج لإيقاف الحرب. كما يكشف عن لقاء جمع حمدوك مع رئيس الحركة الشعبية-شمال، عبد العزيز الحلو، ورئيس حركة جيش تحرير السودان عبد الواحد نور -فصيلان لم يوقّعا على اتفاق سلام جوبا- لبحث إمكانية إيقاف الحرب، فضلاً عن مناقشة جذور الأزمة السودانية، والتمهيد لقيام حوار سوداني-سوداني لا يستثني أحداً، عدا أنصار نظام المؤتمر الوطني والمتعاونين معهم في إشعال فتيل النار، بحسب المصدر. كما يتوقع أنّ يوجه منبر جدّة دعوةً إلى حمدوك لبحث الملف السياسي بعد تحقيق انفراج في الملف العسكري والإنساني.
من جهته، يقول القيادي في قوى الحرية والتغيير، عضو تنسيقية القوى المدنية، ماهر أبو الجوخ، إن "من المهم الإقرار بأن حمدوك من واقع عمله السابق في المنظمات الإقليمية وعلى رأسها الاتحاد الإفريقي، بجانب تجربته في رئاسة مجلس الوزراء، اكتسب بُعداً دولياً وإقليمياً في علاقاته الخارجية"، مضيفاً أن ترؤس حمدوك لتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية يضيف إليها صفةً سياسيةً، بما يجعل تحركاته أكثر تأثيراً وفاعليةً، مقارنةً بالفترة التي سبقت تأسيسها.
يرى القيادي في التنسيقية، أنّ دور حمدوك انتقل من الخانة الشخصية إلى الإطار العام، بصفته رئيس الهيئة القيادية لـ"تقدّم"، بما يُعدّ إضافةً نوعيةً لدوره على المستويين الداخلي والخارجي، متوقعاً أنّ تشهد الفترة المقبلة تحركاً أوسع ذا طابع مؤسساتي، بعد اكتمال تكوين المكتب التنفيذي لتنسيقية "تقدم" ومباشرة نشاطه. ويلفت إلى أنّ التنسيقية سيكون لها تأثير أكبر في جهود إنهاء الحرب وتحقيق السلام، والتأسيس لانتقال مدني مستدام، مع بحث جميع القضايا على المستويات كافة، بالاستفادة من مكانة حمدوك وخبرته.
اللافت في هذا السياق، أنّ الحرية والتغيير كونها الجسم الأساسي للمكون المدني المحسوب على الثورة، تعهدت بتقديم تنازلات كبيرة لتحقيق وحدة القوى المدنية، وهو الأمر الذي يُعدّ تقدماً إيجابياً بعدما أدى التنافس على المناصب من قبل إلى انقسام المعسكر الثوري. لكن يبقى تحقيق ذلك مرهوناً بالفترة المقبلة، التي ستشهد عقد مؤتمر تأسيسي واسع للقوى المدنية.
عقبات وتحديات
بناءً على ما سبق، أمام عبد الله حمدوك عدد من القضايا للتعامل معها: أولها الخروج بموقف مدني متماسك وجامع، ثم اكتساب ثقة الجيش السوداني وحلفائه المدنيين بعد تجربته السابقة في الفترة الانتقالية التي لم تنجح في بناء الثقة، وآخرها اكتساب دعم شعبي حقيقي أوسع من فكرة معسكر الثورة التي تجاوزها الواقع السوداني.
أمام عبد الله حمدوك عدد من القضايا للتعامل معها: أولها الخروج بموقف مدني متماسك وجامع، ثم اكتساب ثقة الجيش السوداني وحلفائه المدنيين بعد تجربته السابقة في الفترة الانتقالية التي لم تنجح في بناء الثقة، وآخرها اكتساب دعم شعبي حقيقي أوسع من فكرة معسكر الثورة التي تجاوزها الواقع السوداني
يعبّر القيادي في الحرية والتغيير-الكتلة الديمقراطية، السنوسي كوكو، عن رأي حلفاء الجيش المدنيين، غير المحسوبين على المؤتمر الوطني المنحلّ. يقول لرصيف22، إن الجهات التي تريد عودة حمدوك إلى المشهد من جديد، هي ذاتها الجهات التي كانت سبباً في اندلاع الحرب بين الجيش والدعم السريع. ويضيف أن الإقصاء الذي مارسته الحرية والتغيير-المجلس المركزي، وانفرادها في الحكم قبل 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، تسببا في الوضع الذي تعيشه البلاد اليوم. ويستبعد كوكو عودة حمدوك لقيادة رئاسة مجلس الوزراء من جديد؛ لأن هنالك جهات عديدةً تقف ضد هذا القرار، لافتاً إلى أنّ الحل يكمن في حوار شامل لا يستثني أحداً.
أما عن شخص حمدوك، فيحمّله كوكو، المسؤولية أيضاً عن الحرب، ويراه شخصيةً لا تتوفر فيها صفة رجل الدولة المنقذ، الذي يستطيع إدارة دولاب الدولة والخروج بها إلى برّ الأمان، برغم ما حظي به من دعم داخلي وخارجي كبير. يقول: "تقدّم حمدوك باستقالته في أشد أوقات احتياج البلاد إليه".
لا يتفق أستاذ العلوم السياسية صلاح الدومة، مع الطرح السابق، ويرى أن اختيار حمدوك لرئاسة تنسيقية القوى المدنية جاء في وقتٍ جيد، لما له من تأييد بين قطاعات واسعة من قوى الثورة السياسية والمدنية والجهات الإقليمية والدولية.
يقول الدومة لرصيف22، إنّ المخرج لإيقاف الحرب هو استعادة التحول الديمقراطي بتشكيل حكومة مدنية بقيادة رئيس الوزراء المقال عبد الله حمدوك، وإبعاد العسكر عن العملية السياسية، وقطع الطريق أمام فلول النظام البائد، الذين يريدون حرق البلاد وجرّها إلى حرب أهلية شاملة، بحسب وصفه.
من منظور شامل، وحتى مع اتفاق المدنيين بقيادة حمدوك على استبعاد المحسوبين على المؤتمر الوطني المنحل والحركة الإسلامية، فهؤلاء باتوا قوةً وازنةً في المشهد السوداني منذ انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، كما تعزز حضورهم بتأييدهم للجيش السوداني في الحرب ضد الدعم السريع، ومن بين تلك القوى فئات لا تختلف عن أخرى محسوبة على المكون المدني بقيادة حمدوك؛ حيث شاركت غالبيتهم في السلطة في عهد الرئيس المعزول عمر البشير، فضلاً عن أنّهم يمثلون قوى حقيقيةً على الأرض، خصوصاً الكيانات الأهلية والمناطقية والجماعات الصوفية. لهذا، أمام حمدوك تحدٍّ تحقيقي في أنّ يتحول من قائد للجناح السياسي لقوى الثورة، إلى قائد وطني يقود البلاد نحو الديمقراطية دون إفراط في الإقصاء، الذي كان سبباً في الوصول إلى الحرب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...