"التحدي الكبير الآن، هو أن يكون السودان، أو لا يكون". بهذه العبارة المباشرة قدّم رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك، في حزيران/ يونيو الماضي، مبادرته الخاصة لحل الأزمة الوطنية، ومعالجة قضايا الانتقال الديمقراطي، معبّراً عن أمله في أن تساهم المبادرة، ليس في حل الإشكالات السياسية بين شركاء السلطة فحسب، بل في خلق مشروع وطني سوداني، عجز السودانيون عن الوصول إليه منذ استقلال بلدهم.
وجاء طرح حمدوك، بعد قرابة عامين من تسلمه منصب رئيس الوزراء الانتقالي، ليقدم المحاور الأساسية التي عدّ أنها تقف عائقاً أمام الانتقال السياسي في السودان، داعياً إلى وقف الانقسام بين قوى الثورة، وإزالة التوترات بين المجموعات الأهلية.
تعثر محاولات تأسيس الدولة السودانية
يسعى السودانيون، منذ الثورة التي أطاحت بحكم نظام البشير، إلى إعادة بناء الدولة بموجب التأسيس على أكبر قاعدة من التوافق، بعدما ظل يجري تداول السلطة لعقود، منذ استقلال البلاد، وفق منطق الغَلبة، من خلال الانقلابات العسكرية.
بيد أن هذا المسار التأسيسي، محفوف بعقبات معقدة، وغير قابلة للتجاوز حتى الآن، وهو ما يشكل بيئة خصبة لتنامي الخطابات العنصرية والجهوية، وتعالي الأصوات الانفصالية، وتعدد مصادرها.
وعلى خلفية ذلك، يتجه السودان، رويداً رويداً، إلى حرب الجميع ضد الجميع، وحالة اللا دولة، بدلاً من الاتجاه نحو التوافق والتأسيس.
وفي هذا الإطار، ووسط كمٍ هائل من الخلافات في الرؤى الإستراتيجية بين شركاء السلطة، جاءت مبادرة حمدوك، كمحاولة لإنقاذ المرحلة الانتقالية، وحمايتها، حتى تحقق غايتها التأسيسية، التي يتطلع إليها السودانيون. غير أن المبادرة لقيت اعتراضاتٍ كثيرة حينما أُعلن في 16 آب/ أغسطس الجاري، عن آليتها التنفيذية، التي ازداد عدد أعضائها عن سبعين عضواً، فضلاً عن إعلان عدد غير قليل من الشخصيات التي ورد اسمها في الآلية التنفيذية، اعتذارهم عن المشاركة، من دون إبداء أسباب واضحة للانسحاب، وفي مقدمتهم حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي، ومع ذلك، لم يقدّم أي شخص اعتراضه على المحاور الواردة في المبادرة، ما يشير إلى أنها قد لامست نسبياً جوهر قضايا الحكم المدني، التي لا يجرؤ أحد على الاعتراض عليها في الظاهر، حتى لو كانت لديه أجندة مغايرة.
أبرز محاور مبادرة حمدوك
أفرزت الفترة الانتقالية في السودان، مجموعةً من الإشكالات بين شركاء السلطة الانتقالية، وداخل المنظومات المتحالفة مع بعضها البعض، فهناك إشكالات كثيرة معروفة بين المدنيين والعسكريين، غير أن التوترات لا تقف عند هذا الحد، فهناك إشكالات مركبة داخل قوى الثورة نفسها، وعلى الجبهة الأخرى، هناك إشكالات وسط العسكريين، وإشكالات أخرى بين الحركات المسلحة، وهو ما يزيد المشهد السياسي تعقيداً.
يتجه السودان، رويداً رويداً، إلى حرب الجميع ضد الجميع، وحالة اللا دولة، بدلاً من الاتجاه نحو التوافق والتأسيس
وعلى ضوء ذلك، تضمنت مبادرة حمدوك دعوة لتوحيد الجيش، ووقف التشظي داخل المؤسسة العسكرية، ما يعني دمج قوات الدعم السريع التي يقودها نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو، في منظومة الجيش، ووضع جدول زمني لهذه المهمة.
بالإضافة إلى إنهاء تعدد مراكز اتخاذ القرار في المسائل السيادية، لا سيما في ما يتعلق منها بتدابير السياسة الخارجية، إذ شهدت الفترة الانتقالية توترات كثيرة في هذا الجانب، بدأت بالقرار الفردي الذي اتخذه رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، بتطبيع العلاقات مع إسرائيل.
كما دعت المبادرة إلى أهمية مكافحة الفساد، وتصفية نظام الإسلاميين، وركائزه السياسية والاقتصادية، وهو ما يعني دعمها للجنة تفكيك نظام الثلاثين من حزيران/ يونيو، التي تواجه أيضاً انتقادات في ما يخص وسائل عملها، ويتهمها البعض بالتغول على سلطات الأجهزة القضائية والعدلية، وصلاحياتها.
وشددت مبادرة رئيس الوزراء السوداني على أهمية توحيد الكتلة الانتقالية، ووقف الانقسام داخل قوى الثورة، وتحقيق أكبر إجماع ممكن حول مهام الانتقال السياسي والتأسيس، والتزام الأطراف جميعها بالعمل، من أجل الوصول إلى نظام حكم ديمقراطي مدني، يقوم على المواطنة المتساوية، وإجراء انتخابات ديمقراطية حرة، ونزيهة.
في الاجتماع الأول للآلية التنفيذية، أكد حمدوك على أنها ليست جسماً دائماً، وإنما هي آلية مؤقتة، لإنجاز مهام محددة خلال شهرين؛ بغرض الوصول لاتفاق حول القضايا التي طرحتها المبادرة، وهي تالياً ليست حاضنة سياسية جديدة، أو حزباً، أو كتلة سياسية، ولا هي بديل عن الحرية والتغيير، أو أي جسم آخر، ولا هي توفر الوظائف، ولا ترشح لها، ولا تحقق أي منافع شخصية لأعضائها.
ونوّه إلى أنه لم يتم إعلان اسم أي شخص في عضوية الآلية، من دون مشاورته، وموافقته الصريحة على الانضمام إليها، مبدياً تقديره للأسباب اللاحقة التي دفعت البعض للاعتذار.
عوائق الانتقال الديمقراطي
وتفتح مبادرة حمدوك الباب للحديث عن أبرز عوائق الانتقال الديمقراطي، كما أنها تطرح بشكل أكثر وضوحاً أسئلة التأسيس للدولة السودانية، وتمثل هذه الأسئلة وما يرتبط بها هماً يومياً للمشتغلين في الشأن العام في السودان.
وفي هذا السياق، يرى المفكر السياسي الدكتور المحبوب عبد السلام في حديثه لرصيف22، أن المجموعة السياسية الحاكمة الآن، أعادت تجسيد عبارة الدبلوماسي والمفكر الراحل منصور خالد "النخبة السودانية، وإدمان الفشل"، مشيراً إلى أن طريقة إدارتها للحكم خلال عامين، هزت قناعة السودانيين، التي تنامت في ظل النظام السابق، والمتمثلة في أن السودان لن يُحكم إلا ديمقراطياً ولا مركزياً، بالإضافة إلى القناعة بالحكم الرشيد، التي شكلتها الثورة على نظام البشير، وسط السواد الأعظم من الشعب.
وأكد عبد السلام أن جزءاً كبيراً من الفشل، يكمن في ضعف المجتمع المدني، والأحزاب السياسية، لافتاً إلى أن اتفاقية نيفاشا للسلام، التي عُقدت في عام 2005، بين نظام البشير والحركة الشعبية لتحرير السودان، أتاحت خلال سنواتها، فرصاً لم يوظفها أي حزب سياسي لإعادة بنائه التنظيمي.
ونوّه إلى أن تآمر القوى السياسية الموجودة في الحكم على مشروع الديمقراطية، هو الذي يمنع السلطة بمكوناتها كلها، من تشكيل المجلس التشريعي، ومن تنصيب المحكمة الدستورية، وتساءل: "لماذا لم يُعد الاصطفاف السياسي وفقاً للبرامج، تمهيداً للانتخابات؟ ولماذا لم يُقم مؤتمر نظام الحكم، الذي يُنتظر أن تشارك فيه أطياف الشعب كلها، قبل التورط في صيغ لإدارة الدولة خارج الوثيقة الدستورية، مثلما نتج من اتفاقية جوبا للسلام؟".
غير أن أستاذ الفلسفة في جامعة النيلين، الدكتور فتح الرحمن التوم، قدم تشخيصاً لعوائق الانتقال الديمقراطي، يختلف عن تحميل الطبقة السياسية الحاكمة المسؤولية عن التخبط المصاحب للفترة الانتقالية.
تفتح مبادرة حمدوك الباب للحديث عن أبرز عوائق الانتقال الديمقراطي، كما أنها تطرح بشكل أكثر وضوحاً أسئلة التأسيس للدولة السودانية، وتمثل هذه الأسئلة وما يرتبط بها هماً يومياً للمشتغلين في الشأن العام في السودان
ويقول في حديثه لرصيف22 إن الأوضاع السياسية والاجتماعية الحالية في السودان، وما تشهده من نزاعات قبلية وعنصرية ودعوات انفصالية، لا يمكن عدّها مخاضاً طبيعياً للانتقال السياسي، إنما تُمثل عودةً لوعي فئوي مغلق، ظن كثيرون من الناس في السودان، أن عهده قد انتهى، لكن مجريات الأحداث لا تزال تُثبت أن ذلك غير صحيح.
ورأى التوم أن المشكلة الرئيسة، تتمثل في الانقسام الاجتماعي، وفي الاستعادة الواسعة النطاق لنظام ما قبل الدولة الحديثة، وخطابه، ممثلاً في القبيلة والعرق والمنطقة، مشيراً إلى أن هذا الخطاب كان محدوداً، لكنه شهد انبعاثاً كبيراً بعد الثورة، الأمر الذي يمثل مفارقة عن مسار التقدم في إنجاز مشروع الدولة.
واقترب من هذه الرؤية المستشار الإعلامي السابق لرئيس الوزراء السوداني فايز السليك، مشدداً على أن المهدد الأكبر لوحدة السودان حالياً، يتمثل في خطاب الكراهية الذي يتغذى، ويغذي التحديات كلها، وقال لرصيف22: "إن خطاب الكراهية ينطلق من مستويين، الأول هو المستوى القبلي المبني على الإقصاء والرفض لأسباب إثنية وعرقية، وهو ما يُعرف بالعنصرية والعنصرية المضادة، وهذا النوع قد تسبب في صراعات مسلحة بين القبائل، وبين الهوامش والمركز، وعليه بإمكاننا عدّ خطاب الكراهية سبباً، مثلما هو نتيجة للصراعات الدموية، ودوامة العنف، ونتائج الحروب".
وأضاف السليك أن النوع الثاني من خطاب الكراهية، مرتبط بشخصنة الموضوعات العامة، فالفترة الانتقالية كشفت عن أن كثيرين من المتعاطين في الشأن العام، يحاولون نسف من لا يعجبهم كلهم، أو من يختلف معهم، من منطلق أن نجاح غيرهم يمثل فشلاً لهم، لافتاً إلى أن هذا الوضع يظهر في "حفلات الشواء" التي تنتظم في مواقع التواصل الاجتماعي، تجاه من يترشح، أو يتقلد أي منصب عام، وفي ذلك لا يتورع ذوو النفوس المريضة عن تأليف الحكايات وفبركة المعلومات والأخبار، وهو مسلك خطير سيمنع الفترة الانتقالية من تحقيق أهدافها.
المشروع الوطني للسودان
هناك شبه اتفاق الآن، بين النخبة في السودان، على أن هناك حاجة إلى مشروع وطني، يجد فيه كل مواطن سوداني نفسه، ويمثل جسراً للاندماج الوطني، بدلاً من حالة التشظي القائمة.
وفي هذا الإطار، يذهب الدكتور المحبوب عبد السلام إلى أن نجاح الفترة الانتقالية في السودان، مرهون بشروع النخبة السياسية في التأسيس المادي للهُوية، ويقول: "إننا لن نتوقع النجاح إذا لم تشرع النخبة في التأسيس المادي للهوية، وإذا لم تخطو خطواتٍ نحو مشروع الدولة الوطنية القائم على العدالة الاقتصادية، وعلى ترابط الرؤى بين المؤسسات الثقافية".
هناك شبه اتفاق الآن، بين النخبة في السودان، على أن هناك حاجة إلى مشروع وطني، يجد فيه كل مواطن سوداني نفسه، ويمثل جسراً للاندماج الوطني، بدلاً من حالة التشظي القائمة
فيما عزا فايز السليك تفشي خطاب الكراهية إلى عدم وجود مشروع وطني، وإلى فشل السياسات العامة في إدارة التنوع، وإلى الفترات الزمنية الطويلة التي عانى فيها السودانيون من الاستبداد، والقمع، والإقصاء الممنهج، لافتاً إلى أن الوصول إلى صيغة الدولة التي ترسّخ السلام، وتقضي على الكراهية، يأتي عبر حملات التوعية وسن التشريعات، مثلما يحتاج إلى إرادة وعزيمة من الفاعلين في المجال العام، بالتركيز على النجاح، وعدم الالتفات إلى من يشدهم إلى الوراء.
انتقادات لمبادرة حمدوك وآليتها
ويظل السؤال حول ما يمكن أن تقدمه مبادرة رئيس الوزراء السوداني، لحل إشكالات الفترة الانتقالية، وحماية أهدافها، وفي مساهمتها في معالجة قضايا التأسيس للدولة السودانية، من خلال الآلية التي وُضعت لها.
يقول فايز السليك، إن مبادرة رئيس الوزراء من حيث المبدأ، وجدت ترحيباً معقولاً، وجاءت في وقت مناسب، عدا عن أن الآلية التي أُعلن عنها، من الصعب أن تساهم في دفع عجلة المبادرة، فالآلية كثيرة العدد، وكأن المقصود منها تجميع أكبر عدد من القيادات السياسية والمجتمعية على شكل مهرجان.
وأضاف أن وظيفة الآلية، من المفترض أن تكون ذات طبيعة تنفيذية، عبر تنسيق الجهود، والاتصالات، والتحضير لمؤتمر تأسيسي، لكن اختيار الأسماء بهذه الطريقة، وبهذا العدد، سيعيق عملها، كما أنه يعكس الأزمة السياسية المتمثلة في إعادة التدوير، خاصة وأن بعض الأسماء المعلنة ظلت تشارك في لجان متعددة، من دون أن تنجز شيئاً مهماً في إحداها، وبعضها كان من ضمن رموز النظام السابق، وبعض الأسماء التي أُعلن عنها، ليس لها فائدة، ولا يتعدى وجودها في الآلية التنفيذية دور ضيوف الشرف.
من جهته، رأى الدكتور المحبوب عبد السلام أن مبادرة رئيس الوزراء، كما هو واضح من بنودها، تقترب من كونها مكاشفةً عن حقيقة الأوضاع السياسية في الفترة الانتقالية، أكثر من كونها أهدافاً محددة، ينبغي أن يُصوّب إليها الجهد، للخروج من الأزمة.
وأضاف أن الآلية التي أُعلن عنها، جاءت بعدد أكبر مما يلزم، لذلك فهي في حاجة إلى نواة جديدة ذات خبرة وفاعلية، فضلاً عن كون المبادرة تحتاج إلى عمل مسبق، داخل الأطراف المنقسمة على نفسها، قبل جمعهم في آلية واحدة، إلى جانب إصلاح قوى الحرية والتغيير، حتى تحقق المبادرة الهدف الذي أعلنه رئيس الوزراء في البحث عن أكبر توافق وطني ممكن، لدعم الانتقال السياسي.
فيما أكد الدكتور فتح الرحمن التوم أن بناء مشروع وطني، يظل مَطلباً أكبر من مبادرة محدودة العضوية، كمبادرة رئيس الوزراء، فالمجتمع، ومؤسسات الدولة، والعون الإقليمي والدولي، كلها تمثل عناصر تكوينية مهمة في مشروع البناء الوطني، وهذه العناصر التكوينية لم تبرز بعد ضمن المشهد الاجتماعي، والسياسي، والحقوقي، والاقتصادي، والتعليمي في السودان.
ولفت إلى أن اعتذار بعض الشخصيات عن المشاركة في الآلية المعلنة، لتنفيذ المبادرة، وبصرف النظر عن الأسباب، يُعدُّ مؤشراً لتعثر مشروع البناء الوطني، وتشتت الجهود؛ بسبب المشاكسات السياسية، كما أنه دليل على سيطرة الأجندة غير العمومية على دهاليز الدولة السودانية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 23 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع