خلال الخمسين يوماً الماضية شهدنا جميعنا إحدى أبشع مجازر القرن الواحد والعشرين وأكثرها وحشية ودموية، أمام أعيننا وعلى مرآى من العالم. أكثر من مليوني إنسان تعرضوا للإبادة الجماعية، للقصف بالطائرات، عائلات كاملة مُسِحت عن الوجود، أحياء أصبحت ركاماً، ذكريات وأحلام تلاشت في لحظة. استُهدفت المستشفيات وطواقم الإسعاف، المدنيون والأطفال، لا ماء ولا دواء ولا طعام، محاصرون تحت القصف دون كهرباء أو إنترنت.
في إسبانيا تابعنا بحرقة ما يحصل في غزة، صور الأشلاء والجثث المتفحمة تحت ركام البيوت المدمرة، ومشهد النزوح من شمال القطاع الى جنوبه مع مناشدات الغزيين وبكاء الأطباء لهول ما رأوه وعجز إمكانياتهم.
ليكتب التاريخ أن غزة الجريحة والمحاصرة منذ 17 عاماً استطاعت أن تعيد توجيه البوصلة إلى فلسطين.
منذ بداية العدوان خرج الإسبان الى الشوارع للاحتجاج ولمناصرة غزة، مظاهرات عمت معظم المدن الإسبانية، ففي الدول الديمقراطية "عادة" تسعى الحكومات إلى أن تكون انعكاساً للشارع ونبضه، فكان توجه الحكومة الإسبانية متزناً مع ما يحدث، ولم تنجر وراء الانحياز الواضح لبعض الدول الأوروبية كألمانيا مثلًا.
وقبل أيام بدا الموقف الرسمي الإسباني الرسمي أكثر وضوحاً وتجاوز مرحلة الإدانة، بعد زيارة رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانتشيز لإسرائيل ولقائه مع نظيره الإسرائيلي نتنياهو، إذ رفض سانتشيز: "القتل الأعمى للفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية"، ليستكمل بعدها جولته لمعبر رفح البري وهناك صرح: "إن إسبانيا تسعى إلى وقف إطلاق نار دائم في غزة، وإن على إسرائيل احترام القانون الدولي الإنساني". وقد وصف الرد الإسرائيلي بغير المتناسب مع ما حدث يوم 7 أكتوبر، مضيفاً أن بلاده: "تسعى للوصول إلى حل الدولتين، وضرورة إدخال المساعدات إلى القطاع".
"إسبانيا ستعترف بالدولة الفلسطينية في وقت قصير، وإن لم يعترف الاتحاد الأوروبي بالدولة الفلسطينية، فإن إسبانيا ستفعل ذلك، وتتخذ قرارها بنفسها". بيدرو سانتشيز، رئيس الحكومة الإسبانية
أما التصريح الذي استفز إسرائيل بشكل جذري هو إشارة رئيس الحكومة الإسبانية إلى: "أن إسبانيا ستعترف بالدولة الفلسطينية في وقت قصير". موضحاً: "لقد حان الوقت لكي يعترف المجتمع الدولي والاتحاد الأوروبي بالدولة الفلسطينية. إنه أمر قيم ومهم، يجب أن نفعل ذلك مع الاتحاد الأوروبي". لكنه أيضاً أضاف: "وإن لم يعترف الاتحاد الأوروبي بالدولة الفلسطينية، فإن إسبانيا ستفعل ذلك، وتتخذ قرارها بنفسها". وتجدر الإشارة إلى أن إسبانيا تتولى رئاسة الاتحاد الأوروبي حتى نهاية هذا العام.
بعد تصريحات رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانتشيز، ونظيره البلجيكي ألكسندر دي كرو، على معبر رفح، انطلقت عاصفة من الهجوم عليهما، واستنكر مسؤولون أوروبيون داعمون لإسرائيل هذه التصريحات، في حين استدعت إسرائيل سفيري إسبانيا وبلجيكا لديها للتوبيخ، ومن ثم قامت بسحب سفيرتها في إسبانيا، في الوقت الذي استنكر فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، تصريحات رئيسي وزراء إسبانيا وبلجيكا. أكدت إسرائيل بلهجة عدائية أن هذه التصريحات لرئيسي الوزراء الإسباني والبلجيكي: "هي مزاعم كاذبة وتقدم الدعم للإرهاب". لتحتج إسبانيا على ذلك باستدعاء سفيرة تل أبيب لدى مدريد رداً على هذه "الاتهامات الباطلة". توتر دبلوماسي وأجواء مشحونة بين البلدين بسبب التصريحات الإسبانية الأخيرة، وتاريخياً فإن إسبانيا لم تقم أي علاقات رسمية مع إسرائيل حتى العام 1986.
وكانت وزيرة العدالة الاجتماعية في الحكومة السابقة إيون بيلارا، قد أدانت الشهر الماضي العدوان الوحشي على قطاع غزة، معتبرة ما حدث: "جريمة حرب وإبادة جماعية مبرمجة"، إلى جانب تصريحات المسؤولين الإسبان هذه، فقد قطعت بلدية برشلونة علاقتها مع إسرائيل إلى حين: "وقف العدوان عن الشعب الفلسطيني بشكل كامل"، إضافة لتحركات الأكاديميين والفنانين الإسبان دعماً لغزة بمختلف الفعاليات والأنشطة.
الفلسطينيون والعرب في إسبانيا أشادوا بموقف رئيس الوزراء الإسباني سانتيشز، معتبرين أن هذه التصريحات هي ما يجب أن يقال في ظل ما يحصل من إبادة للشعب الفلسطيني، موضحين أن حالهم أفضل بكثير من الجاليات العربية في دول أوروبية تمنع وتعاقب التعاطف مع فلسطين.
شيرين الدجاني، صحافية فلسطينية تعمل في الإذاعة الإسبانية، قالت لرصيف22: "أكثر ما أعجبني في تصريحات سانشيز هو إشارته إلى أن المسألة لا تتعلق بحزب أو أيديولوجية وإنما بالإنسانية. في إشارة ضمنية منه، رغم أن حماس لديها أيدلوجية وهي حزب سياسي ديني، يجب ألا أن يحكم عليها من هذا المنطلق وإنما من منطلق الضحايا المدنيين في غزة والعدد الكبير من الضحايا من أطفال ونساء وشيوخ والقتل العشوائي لهم".
"أشعر بأنني محظوظ لأكون في بلد كإسبانيا مواقفه واضحة وإيجابية مع فلسطين، وهذا ما لمسته في الجامعة وفي الحي، فالجميع هنا متعاطفون مع فلسطين". أدهم أحمد، فلسطيني يدرس في جامعة مدريد.
رئيس الجالية الفلسطينية بدوره قال لرصيف22: "الحقيقة، نحن نعتز بموقف الحكومة الإسبانية بكل مكوناتها من أحزاب الوسط واليسار تجاه قضية شعبنا وعلى رأسهم سانتشيز، الذي أبدى رأيه بكل شجاعة أمام المجرم نتنياهو مما أشاط غضب الصهاينة. نتطلع إلى أن يتوج هذا الإعلان باعتراف واسع من أوروبا بحق فلسطين بالحرية والاستقلال ونتمنى أن يكون هناك موقف أبعد من ذلك ألا وهو الضغط الكافي على الغرب لتحقيق هذا الأمر على الأرض، لقد دفع شعبنا مهراً غالياً ثمناً للحرية والاستقلال، ونقول أن الأوان قد حان للذهاب إلى ما هو أبعد من الكلمات".
أما أدهم أحمد وهو طالب فلسطيني يدرس في جامعة مدريد المستقلة، فقال: "أنا أشعر بأنني محظوظ لأكون في بلد كإسبانيا مواقفه واضحة وإيجابية مع فلسطين، وهذا ما لمسته هنا في الجامعة وفي الحي الذي أسكن فيه، الجميع هنا متعاطفون مع فلسطين".
كريمة الزافي، وهي ناشطة حقوقية إسبانية من أصول مغربية، قالت: "خطوة الاعتراف بفلسطين هي خطوة مهمة جداً في الوقت الراهن، ومنذ سنوات كان هناك وعد بالاعتراف لكنه لم ينفذ، آمل الآن أن ينفذ سانتيشز وعده".
لطالما تميزت إسبانيا بقربها الجغرافي والثقافي من عالمنا العربي، ويتصف شعبها بالوعي بحقوق الإنسان، ولديهم ثقافة دعم القضايا العادلة للمظلومين في كل مكان. وموقف الحكومة الإسبانية المغاير لمواقف كثير من الدول الأوروبية العظمى يأتي في وقت أدار فيه العالم ظهره لما حصل في غزة، من جرائم حرب وإبادة جماعية حصار وتجويع، واستخدام أسلحة محرمة دولياً.
تصريحات رئيس الحكومة الإسبانية يجب أن ترتقي من مرحلة الكلام الى مرحلة الفعل، فوعده بالاعتراف بالدولة الفلسطينية هو وعد قديم منذ عام 2012.
ربما ستعترف إسبانيا بفلسطين وحق الفلسطينيين بتقرير مصيرهم وربما لا، لكن الاعتراف وحدَه لا يكفي. يجب أن تتبعه سلسة من الخطوات الهامة كالتوقف عن بيع الأسلحة لإسرائيل، ووقف التعاون مع دولة تنتهك حقوق الإنسان يومياً وترتكب جرائم حرب أمام العالم أجمع، حتى لا تكون إسبانيا شريكة فيما يحصل من إرهاب.
وليكتب التاريخ أن غزة الجريحة والمحاصرة منذ 17 عاماً استطاعت أن تعيد توجيه البوصلة لفلسطين، فلغزة وأهلها وحدهم الشكر لأي اعتراف قادم بفلسطين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومينحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com