تكاد لا تغيب عن ذهني الصور المؤلمة ووجوه الأطفال تحت الركام، وكأني أشتم رائحة الدماء وأنا البعيدة آلاف الكيلومترات، منذ بداية العدوان على غزة وأنا لا أنام، حالة من التوتر والهلع تسيطر علي، وليس علي أنا وحدي لكن على كل أولئك المكلومين بالقلق على أحبتهم وذويهم في القطاع المحاصر وفي الوطن الحزين. محظوظون جداً نحن الذين تمكنا من النجاة من الحرب بالهرب منها، لكننا لم ننجُ ولن ننجو أبداً من القلق ومتلازمة الذنب التي تلاحقنا.
منذ بداية الأحداث أتابع الأخبار في الصحافة الإسبانية، ورغم أن الشعب الإسباني يتسم بالتعاطف مع الفلسطينيين، إلا أن الإعلام كان منحازاً لإسرائيل.
فرغم رحلينا عن مدننا وأهلنا ووجودنا هنا في أوروبا، ومحاولة اندماجنا في المجتمعات الجديدة، إلا أننا وعند أول قنبلة نستذكر كل ذلك الرعب وتلك الأصوات ورائحة الموت، وأنه هناك تحت القصف مازال لنا أهل وأحبة وأصدقاء وبيوت وأحياء أحببناها ولعبنا فيها. مع بداية العدوان على غزة وعيوننا تلازم هواتفنا نستقصي الأخبار، نتابع كل جديد، كل اسم يضاف لقائمة الشهداء، قصة كل عائلة من تلك العائلات التي محتها إسرائيل من السجل المدني، صورهم، أحلامهم التي اغتيلت. لكننا نتابع كل ذلك ونحن في مُدننا الأوروبية المرفهة حيث يبدو أن كل شي على ما يرام، حركة السير المعتادة، الزملاء في العمل وتحياتهم الصباحية ومجاملاتهم، كل شي يبدو طبيعياً وكأن شيئاً لم يحدث، ومطلوب منّا أن نبدو طبيعيين أيضاً، رغم براكين الغضب والقهر وحالة القلق.
وفي اللحظة التي قد يتذكر أحدهم أننّا من ذلك الجزء من العالم قد يسأل عن الحال أو للفضول يريد أن يفهم في لحظة عاجلة عابرة تاريخ الصراع، وقد يأتيك أحدهم بحكم مسبق على ما حصل يبرر لإسرائيل جرائمها ضد الإنسانية، وعليك أن ترد وأنت هادئ حتى لا تجذب الأنظار وألا يقال عنك همجي وغير ديمقراطي، أنا في الأيام الأخيرة على المحك من أن أفقد أعصابي، وأنا أرد وأشرح منذ بموضوعية حقيقة ما يحدث منذ النكبة للآن.
كصحفية وإعلامية لدي الكثير من الأصدقاء والزملاء الصحفيين الإسبان، ومنذ بداية الأحداث أتابع كل خبر يكتب في الصحافة الإسبانية عن فلسطين، ورغم أن الشعب الإسباني يتسم بالتعاطف مع الفلسطينيين، إلا أن الإعلام كان سيئاً ومنحازاً في تعاطيه مع الخبر، فالعناوين كانت مثل: "لإسرائيل حق الدفاع عن النفس". "إسرائيل ترد على حماس الإرهابية". " إسبانيا تدين الإرهاب". "الملك أدان الهجوم وطالب بإطلاق سراح المخطوفين". "بداية العملية ضد الخلايا الإرهابية من حماس في غزة".
يتصلون بي لمقابلات صحفية أو لتسهيل شهود عيان من غزة، أحاول إيصال الصورة لهم، أركز على الجانب الإنساني أحاول ألا أخوض حواراً سياسياً فما يهمني هو الإنسان وحياته، أتحدث وأعطي أرقاماً بعدد الضحايا العزل والضحايا الأطفال، أشرح لهم بأن الوضع في غزة لا يحتمل قصفاً جوياً، بقعة جغرافية من أكثر البقع الجغرافية كثافة سكانية، قطاع ممتد على مساحة 365 كم مربع وفيه نحو مليوني نسمة، أكثر من نصف السكان شباب أي أنهم في حياتهم لم يغادروا هذا القطاع المحاصر.
أن تكون فلسطينياً في أوروبا يعني أن ترى الظلم في عينك لأبناء شعبك المنكوب في الإعلام وفي السياسة الأوروبية وتسكت، يعني أن أي كلمة تقولها تحسب عليك، ربما تطرد من عملك... عليك أن تكون فلسطينياً بصمت
وخلال بحثي عن شهود عيان في غزة، تواصلت مع البعض وأصبحت أعرفهم وأعرف عائلاتهم، وبعد أيام من العدوان اختفوا. لم أعد قادرة على الوصول لهم، أو معرفة مصائرهم، قلقة أنا عليهم، ومقهورة مما يحدث، عملية تطهير عرقي وإبادة على مرآى العالم أجمع، الموقف الأوروبي كان متحيزاً وبشدة لإسرائيل والموقف العربي لا أريد الحديث عنه.
بتنا نجتمع بشكل شبه يومي نحن وبعض الأصدقاء ممن لهم أهل في غزة، ترى وجوههم شاحبة وعلامات قلة النوم واضحة، البعض تمنى لو أنه مع أهله في هذه اللحظات حتى إن حصل لهم شيء ألا يظل وحيداً يندبهم ويتألم عليهم، وأجمعنا أننا كلنا نشعر بالعجز والقهر والظلم، لا نستطيع عمل شيء لهؤلاء العزل الأبرياء، 2000 قتيل منهم وأكثر من 700 طفل، هل لأحد أن يتخيل أن: "قصف إسرائيل لغزة خلال أقل من أسبوع كان أكثر مما قصفته أمريكا في أفغانستان في عام؟".
هل لأحد أن يتخيل أن: "قصف إسرائيل لغزة خلال أقل من أسبوع كان أكثر مما قصفته أمريكا في أفغانستان في عام؟".
الإعلام والعالم أدار ظهره للفلسطينيين، نحاول وهو أضعف الإيمان أن ننشر ما يحدث بالإسبانية لدحض الأكاذيب الإسرائيلية، التي وخلال الأيام الماضية صنعت من غزة وحشاً إرهابياً يهاجمها، العناوين كلها حرب إسرائيل وحماس... هل نسي العالم أن غزة ليست حماس، غزة هي تلك الأرض المكتظة بالبشر بالأبرياء بالأحلام بالحب، أهل غزة يحبون الفرح يحبون البحر والسهر، لديهم أمنياتهم، وأحبتهم هم ككل البشر يعشقون الحياة بتفاصيلها الجميلة لديهم أطفالهم يحبونهم ويخافون عليهم، ويعملون بجد لتلبية احتياجاتهم وصنع أفضل مستقبل لهم، غزة ليست حماس غزة هي الناس.
غزة ليست حماس غزة هي الناس.
خلال النقاشات، بعض الإسبان هاجموني ووضعوني في نفس الخانة مع حماس، وأصبحتُ في لحظة أمام خيارين لا ثالث لهما إما تجريم حماس وإما التبرير لها. لا أريد الحديث في السياسية فالموضوع ليس أيدولوجياً، الموضوع إنساني ووجودي، أنا لا أكترث لشيء سوى هؤلاء البشر الذي يقصفون بالطائرات والصواريخ والأسلحة المحرمة دولياً، وأعود لأكرر لهم: "غزة ليست حماس". وحماس ليست غزة، وقد فاض بنا المطاف من ازدواجية معاييرهم الغربية.
أن تكون فلسطينياً في أوروبا، يعني أن ترى الظلم في عينك لأبناء شعبك المنكوب في الإعلام وفي السياسة الأوروبية وتسكت، يعني أن تكون عاجزاً عن تقديم أي عون وأي كلمة تقولها تحسب عليك، ربما تطرد من عملك، أو يحظر عليك التظاهر كما يحدث في ألمانيا. ممنوع عليك حتى أن تشعر بالتعاطف... عليك أن تكون فلسطينياً بصمت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه