شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
هانيبال ليكتر الألماني... الجنرال هابرماس في المتاهة

هانيبال ليكتر الألماني... الجنرال هابرماس في المتاهة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

الفيلم الأمريكي "صمت الحملان" لم يشر إلى جذور هانيبال ليكتر، ولا أستبعد أن يكون ألماني الأصل. طبيب أنيق، قوي البنية، شديد الذكاء، يرسم ويتذوق الموسيقى. ويستطيع قتل حارسيْن، ويسلخ وجه أحدهما، وتتناثر الدماء على وجهه وثيابه، ويتمايل منتشياً على أنغام موسيقى من جهاز بالزنزانة. مشهد يكاد يكون منقولاً من سلوك جنود النازي، وهم يقتلون الضحايا على أنغام الموسيقى. نموذج متكرر لعبادة القوة والتفوق، وازدراء الضعفاء. الْتهم الهولوكوست مرضى ميؤوساً منهم، وجنوداً جرحى من الألمان. وقبل نيتشه وهتلر أشاد الفيلسوف الألماني هيغل بالجنرال نابليون وغزواته التي شملت ألمانيا. استبشر هيغل، وقال إنه رأى "روح العالم، يمتطي جواده، وتمتد يده لتطور العالم".

شهدتُ تجربة مخيبة للآمال لألماني ذكّرني بهذا النموذج المعرفي. أقام معهد جوته بالقاهرة، في كانون الثاني/يناير 2007، ندوة تحدث فيها الدكتور عبد الوهاب المسيري والباحث الألماني ميشائيل لودرز. الأخير، على الرغم من تخصصه نظرياً في العلوم الإسلامية وعملياً في شؤون الشرق الأوسط، بدا وفيًّاً لتراث الاستشراق الفكري والعسكري معاً. الندوة فكرية عن مستقبل الحوار بين الشرق والغرب، لكنه أرادها منصة للهجوم على إيران وسلاحها النووي، وإنكار أحمدي نجاد للهولوكوست. ردّ المسيري بأن الغرب يتغاضى عن السلاح النووي في إسرائيل. ولم يعلق الرجل. ليت معهد جوته ينشر تسجيلاً للندوة التي سألتُه فيها عن تعريفه لمصطلح "إسرائيل"، دين أم دولة؟ دينية أو مدنية؟

بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، لا نحن نحن، ولا العالم هو العالم. عنصر جديد غيّر كيمياء الدم، وفي أقل التقديرات ارتفع منسوب عنصر كامن. شيء لا أستطيع تعريفه، ولا أجيد القبض عليه، وإن طغت تجلياته وحضرت آثاره بقوة

قبل أن تنشئ قوى الاستعمار القديم "دولة" إسرائيل، كان مصطلح "إسرائيلي"، في مصر، يعني اليهودي. ذلك تاريخ، وإسرائيل تنسف التاريخ، وتستغني عنه بالقوة، وبها صارت "دولة". سألتُ ميشائيل لودرز: إذا كانت دولة دينية، فكيف تفسر استمرار دعم الغرب العلماني الحداثي وما بعد الحداثي لها، إضافة إلى ابتزازها الدائم لألمانيا؟ وإذا كانت دولة علمانية، فلماذا لا تسمح بحق المواطنة الكاملة لكل من يقيم فيها من يهود فلسطين التاريخية قبل الاحتلال والمسيحيين والمسلمين واللادينيين؟ ألا يحقق حل الدولة العلمانية الواحدة عدم التمييز المبني على ديانة المواطنين؟ سكت ثم قال إنه ليس مسؤولاً سياسياً: "أنا رجل متوازن، وفي الشرق الأوسط رجال ممتلئون بالأيديولوجياً".

سؤالي محدد، وإجابته مرواغة. أضاف أن إسرائيل "تطرح بوصفها سبباً لكل المشكلات، وهذه المشكلة لا تحل في هذه الأمسية. إسرائيل ليست الشرير الوحيد في هذه المنطقة. والمسؤولية الألمانية تجاه إسرائيل، في هذا النزاع، مسؤولية تاريخية. لننتظر حتى ترينا حماس ما الذي تستطيع أن تفعله". انتظرتُ إجابة، وليس حلاً لمشكلة. لكن الألماني، وهو بعيد عن إكراهات المنصب السياسي، يخضع لذنب ارتكبه آخرون قبل عقود، وربما لجهالة العمى؛ فيهرب من سؤال بسيط إلى تهويمات تشبه خناقات الردّاحات في الحواري: "إسرائيل ليست الشرير الوحيد في هذه المنطقة". هرب ميشائيل لودرز من الحقيقة، ولا أدري أين هو الآن، ليشهد الإجابة عن سؤاله الخاص بحماس.

فبعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، لا نحن نحن، ولا العالم هو العالم. عنصر جديد غيّر كيمياء الدم، وفي أقل التقديرات ارتفع منسوب عنصر كامن. شيء لا أستطيع تعريفه، ولا أجيد القبض عليه، وإن طغت تجلياته وحضرت آثاره بقوة. سحرٌ يشمل الأعمار والشرائح الاجتماعية، عابر للقارات، امتد إلى يهود في الغرب، وأوساط "الشعب الإسرائيلي" في فلسطين المحتلة. خمر طوفان الأقصى تذكّرني بنهاية رباعية صلاح جاهين: "صاحبت ناس م الخمرة ترجع وحوش. وصاحبت ناس م الخمرة ترجع بشر". خمرٌ ردّت الشعوب إلى بشريتها. صحوة الضمير انتظرت زلزالاٌ يفكّك قشرة صلدة ثبتت هشاشتها. الإفاقة أخطات الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (94 عاماً)، فتلبسته روح وحش.

دعْم هابرماس الأعمى لإسرائيل، كأنه نيجاتيف لسلوك هتلري يمجد القوة. لعله تأثير رواد مدرسة فرانكفورت، من دون تذكّر اجتهاداتهم في فهم تراجيديا الهولوكوست.

رماد البنايات المنسوفة وأدخنة قصف المستشفيات والمدارس أعمت بصيرة هابرماس، فأصدر "مبادئ التضامن" مع ثلاثة متخصصين في الفلسفة والعلوم السياسية والقانون. أربعة عميان لا يلزمهم ما يحكم السياسيين من قيود تاريخية موروثة، وموازين للقوى لا يملكون تغييرها. خيال المبدعين يتخطى الظروف المحدودة إلى آفاق العدل الإنساني، والفلاسفة ينشدون الحقيقة، ولا يليق بهم تسويغ مواقف الساسة.

في أيار/مايو 2021 استرد هابرماس وعيه، وتراجع عن قبوله جائزة الشيخ زايد للكتاب؛ لأن "النظام في الإمارات يقوم على انعدام الحرية وعلى قمع منهجي للمطالب الديمقراطية. المعارضون ينتهي بهم الأمر بسهولة في السجن. لا توجد انتخابات... تعيش النخبة الحاكمة في عالم من الامتيازات والحقوق الخاصة".

أوضح هابرماس آنذاك أن إعلانه عن استعداده لقبول جائزة شخصية العام الثقافية، لعام 2021، كان "قراراً خاطئاً، وأنا الآن أصححه". وبعد شهر من استمرار الإبادة لغزة، قريبة الشبه بنسف الحلفاء لمدينة درسدن الألمانية، كان يكفيه الصمت، متحصناً بطعنه في السن. لكنه وفيّ لعقلية ألمانية تنجو منها استثناءات تؤكد قاعدة تفوق نيتشوي بلغ ذروته مع المدّ النازي. نجا إريش فريد (1921 ـ 1988) بشعره، ومنه ديوان "اسمعي يا إسرائيل" (1974). أراد أن يكون يهودياً "خارج الفهم المتعصب لليهودية، وخارج الشوفينية الإسرائيلية... يدفعون بجموع اليهود إلى وضع كارثي في دولة إسرائيل الحالية". ونجا جونتر جراس، وأبرأ ذمته بقصيدة "ما ينبغي أن يقال".

ملصق إعلان يورغن هابرماس شخصية العام الثقافية من جانب جائزة شيخ زايد

نشر جراس قصيدته عام 2012، فأغضب إسرائيل وأنصارها الألمان. قال هابرماس إن جراس "غير واع وغير متوازن واستفزازي. ولا أرى أي سبب معقول لنشره مثل هذه القصيدة... جراس ليس معادياً للسامية، ولكن هناك أشياء لا ينبغي على الألمان من جيلنا قولها". هابرماس امتداد لمؤسسي مدرسة فرانكفورت: ماكس هوركهايمر (1895 ـ 1973)، هربرت ماركوزه (1898 ـ 1979)، تيودور أدورنو (1903 ـ 1969). انحازوا إلى إسرائيل، اصطفافاً وتأييداً لممارساتها. أدورنو وصف معارضي سياسيات إسرائيل بالفاشيين. هوركهايمر سوّغ احتلال سيناء، في عدوان حزيران/يونيو 1967، حقاٌ لإسرائيل لحماية نفسها "بشكل وقائي". هابرماس، في "مبادئ التضامن"، يرى عدوان إسرائيل على غزة 2023 دفاعاً عن النفس.

سقوط أخلاقي مجاني لفيلسوف حاضر الذاكرة. استلاب لا يليق بمثقف أكبر عمراً من الكيان الصهيوني، ومن النظام النازي أيضاً. لا يتمتع هابرماس بشجاعة أرنولد توينبي في رؤيته لأمريكا وإسرائيل كقوتين "استعماريتين خبيثتين... هما أخطر دولتين". يسجل آرثر هيرمان في كتابه "فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي" قول توينبي عام 1969: "لو كانتا خسرتا بعض الحروب بدلاً من الانتصار فيها باستمرار، فلربما كان ذلك أفضل بالنسبة لروحيهما... احتلال إسرائيل للأراضي العربية يمثل عملاً شريراً وغير إنساني، مثل احتلال ألمانيا لتشيكوسلوفاكيا وبولندا... الإسرائيليون المحدثون أسوأ من النازيين". ويعتبر المزاعم بأنهم شعب الله المختار شجعت غطرسة غربية إزاء الثقافات الأخرى، وأنها "الأصل الحقيقي للهولوكوست".

دعْم هابرماس الأعمى لإسرائيل، كأنه نيغاتيف لسلوك هتلري يمجد القوة. لعله تأثير رواد مدرسة فرانكفورت، من دون تذكّر اجتهاداتهم في فهم تراجيديا الهولوكوست. يذكر مؤلف "فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي" قول ماركوزه عن السادية النازية: "لم يكن عالم معسكرات الاعتقال مجتمعاً وحشياً استثنائياً، ما رأيناه هناك... مثال على مجتمع الجحيم الذي نغوص فيه كل يوم"؛ فالهولوكوست جزء من التقليد الغربي، منذ إبادة الهنود الحمر، وصولاً إلى العدوان على غزة 2023. ويرى أدورنو أنه مع إبادة الملايين "بإجراء إداري، اتخذ الموت شكلاً جديداً لم نكن نعرفه من قبل، وقد كانت هذه النكبة بمثابة نهاية تاريخ العقل". ألا يهين العقلَ تأييد الفاشيات؟

كتاب "أشعار ضد إسرائيل" لـ إريش فريد

في كتابه "النقد الأدبي الأمريكي... من الثلاثينيات إلى الثمانينيات"، نيويورك عام 1988، يقول تأليف الكاتب الأمريكي فنسنت ب. ليتش إن جماعة مثقفي نيويورك الليبراليين منذ نهايات ثلاثينيات القرن العشرين، هم أول "إنتليجنسيا" في تاريخ الأدب الأمريكي، عارضوا النزعة التجارية، وحملت مدرستهم اسم النقد الاجتماعي، ومشروعهم للنقد الثقافي يعتبر الأدب "ظاهرة ثقافية مفتوحة للتحليل"، فالنصوص نتاج تفاعلات الاقتصاد والبنى الاجتماعية والقيم الأخلاقية والمعتقدات الدينية. وانتقد بعضهم، عام 1949، منح جائزة بولينغن إلى إزرا باوند. لم يناقشوا جماليات شعره، "وإنما رفضوا منح الجائزة لفاشي". فقدَ إزرا باوند شرفه الإنساني بتأييده لفاشية موسوليني. راهن إزرا باوند على الديكتاتور الصريع، وغيره صفق لوحشية المنتصر.

رماد البنايات المنسوفة وأدخنة قصف المستشفيات والمدارس أعمت بصيرة هابرماس، فأصدر "مبادئ التضامن" مع ثلاثة متخصصين في الفلسفة والعلوم السياسية والقانون. أربعة عميان لا يلزمهم ما يحكم السياسيين من قيود تاريخية موروثة، وموازين للقوى لا يملكون تغييرها

جون شتاينبك، مثلاً، رافق طياراً أمريكياً في غارة جوية على فيتنام، وشبّه عملية قصف المدنيين بالموسيقى. كتب الروائي الطاعن عن الطيار القاتل: "كانت أصابع المقاتل الجوي تضغط على مفاتيح إسقاط القنابل مثل أصابع عازف البيانو الماهر". فيتنام هولوكوست آخر لا يملك ضحاياه سطوة الآلة الإعلامية الصهيونية. في فصل عنوانه "النصر المستحيل" يذكر هوارد زن في كتابه "التاريخ الشعبي للولايات المتحدة" أن الجنود أحاطوا، في 16 آذار/مارس 1968، بسكان قرية ماي لاي، وفيهم العجائز والرضع. أمروهم بالنزول إلى خندق كبير، وقتلوهم. ثم قال الجندي جيمس دوسي في شهادته أثناء المحاكمة: "كان الناس يغطسون تحت بعضهم البعض، وكانت الأمهات تحاولن حماية أطفالهن".

وسرعان ما تحققت أمنية توينبي. أمريكا خسرت حرب فيتنام. ومن دون الجيوش النظامية تتوالى خسائر إسرائيل بضربات المقاومة في العمق، عسكرياً بصواريخ تضرب المدن من الشمال والجنوب، وديموجرافياً بهجرة عكسية، وتعاطف "عقلاء" من اليهود مع الحق الفلسطيني. بقي انتظار تحقق نبوءة توينبي بأن عمر إسرائيل لن يزيد على مئة سنة. يعجّل بتحقق هذه النبوءة حماقات إسرائيل وحدها، وكم تمنيت أن يتضافر مع هذه الرعونة إيمان عربي بتأسيس "الدولة" العربية، وقدسية المواطن الحر الذي لن ينتصر على عدو في الخارج وهو مستضعَف في بلده، يعاني الفقر والاستبداد والحرمان من حقوق الإنسان الأساسية، وفي مقدمتها الصحة والتعليم. الاستبداد العربي يطيل عمر إسرائيل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image