شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
مرتدياً كوفية من ياسر عرفات... ماذا فعل جان جينيه في فلسطين؟

مرتدياً كوفية من ياسر عرفات... ماذا فعل جان جينيه في فلسطين؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثمة أقنعة كثيرة أسقطتها حرب الإبادة الجماعية التي تقترفها إسرائيل ضد قطاع غزة؛ فالغارات المتواصلة، لم تُسقط فقط آلاف القتلى والجرحى، وتُدمر عشرات الأحياء السكنية على رؤوس أصحابها، بل أسقطت قسماً من القيم الغربية التي صُنعت وتَشكلت على مدار سنوات ونتيجة حروب عظيمة،  وصولاً إلى الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة، وغيرها من خلاصات الحضارة الإنسانية.

على الرغم من ذلك،  لا يمكن إطلاق حُكمٍ مطلقٍ  على النخبة الغربية، تحت وطأة الغضب "المُبرر والضروري"؛ فثمة أصوات غربية، كانت مواقفها الداعمة للقضية الفلسطينية بمثابة نقاط مضيئة. 

يأتي جان جينيه، أحد عمالقة الأدب الفرنسي في القرن العشرين، في مقدمة هذه الأصوات، ,وهو لم يكن داعماً للقضية الفلسطينية بكتاباته فقط، بل بحضوره الجسدي بين الفدائيين الفلسطينيين لمدة عامين (1970-1971) في مخيمات الأردن، ولبنان، قبل أن يعود مرة أخرى إلى بيروت في عام 1982، ليكون شاهداً على مجزرة صبرا وشاتيلا، ويُوثق شهادته الدامية عنها في نصٍ خالد بعنوان "أربع ساعات في شاتيلا". حيث كان جينيه من أوائل من دخلوا المخيمات بعد المجزرة، وكان كذلك أوائل من شاهدوا لدبابات الإسرائيلية- عبر منظار من غرفته- وهي زاحفة باتجاه المخيمات.

يأتي اسم جان جينيه في مقدمة الأصوات الغربية الداعمة للقضية الفلسطينية, ليس بكتاباته فقط، بل بحضوره الجسدي بين الفدائيين الفلسطينيين لمدة عامين (1970-1971) في مخيمات الأردن ولبنان 

لم يكن جينيه أحد أهم الناثرين في تاريخ الأدب الفرنسي فقط، بل كان الأكثر عداءً للمركزية الغربية الاستعمارية، ولفرنسا على وجه التحديد؛ البلد التي نبذته، ووسمته بـ "اللقيط"، حيث لم يعترف به الأب، ليُترك الطفل جان في إحدى دور الرعاية الاجتماعية، ثم يُصبح راعياً للبقر في مزرعة إحدى الأسر التي تبنته وهو ما زال صبياً صغيراً. وإزاء حالات السأم التي اختبرها مبكراً، هجر هذه الأسرة، وعاش حياة اللصوصية والتشرد، وكان عادة مطارداً من جانب الشرطة بسبب سرقاته التي لم تتوقف حتى بعد أن حقق شهرة أدبية كبيرة، حيث كان يرى لصوصيته "نضالاً ضد شرور المجتمع" الذي تبرأ منه، ومن خلال تتبع المسيرة الحياتية لصاحب "يوميات لص" نرى أنها كانت بمثابة معاداة شرسة لكل ما يمت للنظام الاجتماعي بصلة.

في ما بعد سيأخذ هذا التمرد لدى جان، شكلاً سياسياً ثورياً عبر انضمامه لبعض الحركات الثورية، وانحيازه الواضح للمجتمعات المنبوذة والمضطهدة من جانب "الإمبريالية العالمية" و"المركزية الغربية"، حيث ناصر الحركة اليسارية الألمانية (بادر ماينهوف)، ثم انضم إلى حزب "الفهود السود" في أمريكا، قبل أن يختتم هذه الرحلة النضالية بانضمامه إلى الفدائيين الفلسطينيين في عام 1970.

كان أول لقاء لجان جينيه بالقضية الفلسطينية عام 1968 في تونس، حين أطلعه نادل الفندق على بعض قصائد الشعر العربي المهداة إلى فدائيي حركة فتح، لكنها لم تُعجبه، فيما بهره جمال الخط العربي. لكن كان لكلمة "فدائي" وقع خاص على أذنه، إذ التمعت هذه الكلمة في خياله، وأصبحت كالغواية التي تسحبه إلى عالمها، حتى وجد نفسه بين الفدائيين الفلسطينيين في مخيمات الأردن في البقعة، الوحدات، الحسين، ومخيمي غزة وإربد.

تلقى جينيه- الذي عُرف ككاتب مناصر لقضايا التحرر- دعوة من رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات للتواجد بين الفدائيين لثمانية أيام، ليجد نفسه وقد أتم عامين بينهم، كانا بالنسبة إليه "أعظم أيام حياته"، فوجوده بين المقاتلين الفلسطينيين- بحسب تعبيره- أعاد إليه إحساسه بالحياة، بعد أن بات يشعر بالسأم، وعلى مستوى أعمق، كان سبباً لتحولات جذرية في حياته، وفي النهاية ساهمت هذه التجربة على اكتشافه لمناطق مجهولة في ذاته لم يكن قد اقترب منها خلال سنوات عمره الـ62.

في الفاصل الأخير من حياته، وتحديداً في الفترة من عام (1984-1986)، عكف جان جينيه على توثيق الشهور الطويلة التي أمضاها في ضيافة الفدائيين الفلسطينيين، وكذلك الجولات التي قام بها في الفترة نفسها أو في فترات لاحقة في: "المغرب ولبنان وسوريا".

كانت الثورة الفلسطينية بالنسبة لجينيه هي تلك النغمة الصحيحة التي تعرفتْ إليها أذنه الموسيقية وميزتها بين ضجيج النغمات الأخرى.

وكانت نتيجة هذه الاستعادة، صدور كتابه "أسير عاشق" الذي يضم رؤيته الخاصة لهذه التجربة، وكذلك رؤية رفاقه من الفدائيين لقضية بلادهم، معتمداً تقنية تعدد الأصوات داخل عمله الشاسع، ومتتبعاً صيرورة التمرد الفلسطيني منذ بدايات توهجه واندفاعه نحو الثورة وتحرير الأرض، مروراً بالمؤامرات والخيانات التي تعرضت لها حركات المقاومة الفلسطينية التي وصلت إلى ذروتها في أحداث أيلول الأسود، حتى خفوتها بل وموتها، حين حل "أطفال الحجارة" محل الفدائيين، الذين تركوا أسلحتهم بعد أن تخلت عنهم الأقطار العربية، ومن ثم تقلصت أحلامهم من تحرير الأرض عبر "الثورة والتمرد" إلى حل الدولتين عبر "المؤسسات وعمليات التفاوض".

تلك التي رآها جان غير ملائمة لشعبٍ طُرد من أرضه، ليحل محله شعب آخر ادعى أن أصله هو الأصل، فجان جينيه لم يكن متوافقاً مع ما سُمي بالقضية الفلسطينية بشكل لا مشروط، إنما كان مُخلصاً للثورة وحركات التمرد أو ما يُعرف بـ"تحرير الأرض"، وبرغم احتفائه بالفدائيين، وبالدور البطولي لحركة فتح، إلا أنه وجه إلى الحركة ومنظمة التحرير انتقادات لاذعة؛ يقول: "عندما عُدت في أيلول/سبتمبر 1971 حول عجلون، كنتُ في البدء أتأمل ببلاهة انهيار المقاومة الفلسطينية، وإذا ما فتشت عن أسباب، فلم أجد سوى التعليمات الصارمة للمقاتلين بأن يكونوا في حالة دفاعية أكثر منها هجومية. وهنا أصبح فعل القتل نائياً وبعيداً ومغلفاً بطقوسية معقدة، كان هدفها يبدو لي متمثلاً في التخفيف من ثقل القتل. وإذا تأملنا أكثر فيمكننا أن نرى أن الطبيعة الحنونة المرهفة للفدائيين الفلسطينيين، لم تكن متسقة، مع مُحتل أسس دولة مدججة بالأسلحة، وتحظى بتأييد جد قوي من جانب أمريكا وأوروبا. عندما عُدت مرة ثانية أو ثالثة لا أتذكر في أثناء مجزرة صبرا وشاتيلا، لم أجد أحداً من أصدقائي الفدائيين؛ كانوا قد ماتوا أو جُرحوا، أو اعتقلوا أو هربوا. فقد كانت حياتهم وأعمارهم خفيفة وقصيرة كعُمر الحركة الذين انتموا إليها. فقد كنتُ أرى ظلال الموت وهي تحوم دائماً فوق رؤوسهم".

ليس بوسعنا انتزاع صورة واضحة للفدائي من بين صفحات الكتاب الضخم، بمعنى الصورة الواضحة، المتجاوزة للوصف الشكلي، إلى عمق فكرة المقاومة والنضال في داخله، وربما يرجع ذلك إلى استغراق جان نفسه في فهم عمق الصراع العربي الإسرائيلي من خلال الغوص في تاريخ المنطقة الشائك والمعقد، وكذلك محاولته الإمساك بروح الثورة الفلسطينية التي رآها حاملةً لرقة كانت تبدو منتمية إلى الماضي البعيد، وربما إلى الغياب، لأن النعوت التي تُحاول وصفها هي: فروسية، هشة، شجاعة، بطولية، رومانسية. وفي أوروبا- بحسب تعبيره-"لا يتحدثون إلا عبر الأرقام. وما كان الفدائيون حتى ليعدوا موتاهم".

كانت الثورة الفلسطينية بالنسبة لجينيه هي تلك النغمة الصحيحة التي تعرفتْ إليها أذنه وميزتها بين ضجيج النغمات الأخرى الشاذة، ويرى أن كل شعب حتى يُبرر تمرده بأقوى حد ممكن، فإنه يروح يبحث عن فرادته في أقصى الزمان، للإمساك بالجذور، بحيث تكون الانتفاضات المنبثقة في كل مكان، شبيهة بعبادة ضخمة للأموات.

كان أول لقاء لجان جينيه بالقضية الفلسطينية عام 1968 في تونس، حين أطلعه نادل الفندق على بعض قصائد الشعر العربي المهداة إلى فدائيي حركة فتح، لكنها لم تُعجبه، فيما بهره جمال الخط العربي

وهنا يطرح على نفسه السؤال التالي: "أكانت الثورة الفلسطينية ستجتذبني بمثل هذه القوة لو لم تنهض ضد الشعب الذي بدا لي هو الشعب الأكثر ظلاماً. هذا الذي يدعي أن أصله هو الأصل. الشعب الذي يزعم أنه كان ويريد أن يظل هو الأصل. والذي يعد نفسه ليل الزمان أي (أسحق عهود التاريخ)؟".

والكاتب إذ يطرح السؤال فهو في الوقت نفسه يُقدم إجابة عليه، حين يقول إن الثورة الفلسطينية كانت تكف عن تشكيل نضال عادي من أجل أرض مغتصبة وتتحول إلى نضال ميتافيزيقي، بسبب ما فرضته إسرائيل على العالم من أساطير دينية مزجتها مع الوقت بالسلطة، لتؤسس دولتها العبرية على الأرض العربية.

رغم ثقل وعمق الأفكار التي يطرحها جان جينيه في كتابه، إلا أنه لا يتخلى عن شاعريته الفريدة، في وصفه للفدائيين، ولحياته بينهم. كان جان يتنقل بين المخيمات الفلسطينية، وفي حوزته التصريحات الأمنية، مرتدياً الكوفيه التي منحها له ياسر عرفات، وكان يحلو له النوم ممدداً خارج الخيمة بين الأشجار، ناظراً إلى المجرة شديدة القرب وراء الأغصان، فيما الحراس المسلحون، يتنقلون في الليل على العشب وأوراق الشجر، لكأن خيالاتهم تريد الامتزاج بجذوع الأشجار. وكانت المجرة تستمد أنوارها من أضواء الجليل، وترسم قوساً يتجاوزه لينتهي متناثراً في الصحراء، ليبدو وهو متمدد وملتحفاً بغطاء، أكثر مساهمة في هذا المشهد من الفدائيين الذين كانت السماء مكانهم الأليف.

إنما، من بين كل صور الفدائيين والمقاتلين في المخيمات، حُفرت صورة الفدائي حمزة وأمه في أعماق جان جينيه، بل يقول إنها كل ما تبقى له من الثورة الفلسطينية، وظلت تطارده لأربعة عشر عاماً، حتى أنه كان يعود إلى إربد كثيراً (حيث التقى بهما)، ليبحث عنهما، فقد كان متشككاً من وجودها ومن حدوث تلك الليلة التي قضاها في سرير حمزة، فيما كانت الأم تُقدم له بحنان بالغ الطعام والشراب، وكأنها تُطعم من بعيد الابن الذي ذهب للدفاع عن أرضه.

ربما كانت هذه الصورة التي أضفى عليها جينيه سماتٍ أسطوريةً دينية، وتُحيل إلى السيدة العذراء والمسيح، تُفجر بداخله شوقاً جارفاً لهذه العاطفة الأمومية التي حُرم منها طوال حياته، وربما كانت تعويضاً له عن هذا الحرمان، جاءته بعد عمرٍ طويل من أمٍ فلسطينية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image