"أرفض استلام الجائزة"؛ كلمة تدوي مثل مقذوف غير متوقع، وتصيب مانحي الجوائز بالصمت والقلق والحزن، وتثير انتباه الجمهور بطريقة لافتة ومضمونة. وعلى الرغم من تكرار حالات رفض الجوائز من الأدباء والمفكرين والفلاسفة، إلا أن الأسباب والخلفيات تتباين بشدة، فبعد كل موقف رافض تثور موجة هادرة من الأسئلة أو الاتهامات أو التبريرات.
صور مختلفة تقف خلف كل حالة رفض، أبرزها الاحتجاج السياسي ضد أنظمة غير ديمقراطية أو توجهات القوى العالمية المؤثرة سلباً، بينما لا تغيب صور أخرى من الرفض، يمكن التعرف عليها بتتبع ملامحها في مواقف أصحابها، ومنها مثلاً عدّ الجائزة في ذاتها مشهداً تمثيلياً مصطنعاً، أو تواضع المفكر وإيمانه بأنه لم يفعل ما يستحق جائزةً، أو الارتياب من الخلفيات المجهولة.
منح جائزة ما يقابله سحبها، وهو انزلاق من الجهة المانحة أو المنظمة إلى إظهار موقفها وانحيازها بشكل مباشر، وهذا ما حدث مع الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي، تشرين الأول/أكتوبر الماضي، عندما ألغى معرض فرانكفورت للكتاب حفل تكريمها دعماً لإسرائيل، وهو موقف استباقي لجأت إليه الجهة المنظمة للتكريم، وعادةً ما يأتي بنتيجة عكسية. إلا أن الأصوات الرافضة للجوائز هي الأقوى في التعبير عن موقفها، والأقوى في التأثير.
احتجاج سياسي
في نيسان/أبريل 2021، أعلنت جائزة الشيخ زايد للكتاب، فوز الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، بلقب شخصية العام الثقافية، بوصفه وفق بيان الجائزة "واحداً من أكثر الفلاسفة تأثيراً في العالم"، لكنه بعد أن وافق على قبولها، عاد وأعلن تراجعه عنها، عادّاً ذلك خطأً كان من الواجب تصحيحه.
على الرغم من تكرار حالات رفض الجوائز من الأدباء والمفكرين والفلاسفة، إلا أن الأسباب والخلفيات تتباين بشدة، فبعد كل موقف رافض تثور موجة هادرة من الأسئلة أو الاتهامات أو التبريرات
ووفقاً لما ذكرته الجائزة، فإن هابرماس قدّم مساهمات نوعيةً وعميقةً في حقل الفلسفة على نحو أثرى العديد من التخصصات، كدراسات التواصل والثقافة، والنظرية الأخلاقية، واللغويات، والنظرية الأدبية، والعلوم السياسية، والدراسات الدينية، واللاهوت، وعلم الاجتماع.
بالرغم من تقدير الجائزة لدور هابرماس وتأثيره، إلا أنه تراجع عن قبولها، شارحاً أن السبب في قبولها أولاً يرجع إلى أنه استقى معلوماته عنها من الألماني يورغن بوس، مدير معرض فرانكفورت وعضو اللجنة العلمية لجائزة الشيخ زايد، وفقاً لتقرير في موقع DW الألماني.
ولأسباب متعلقة بغياب الحرية والديمقراطية في الإمارات، رفض هابرماس الجائزة، وبحسب تقرير "دوتش فيله" المشار إليه، الذي نقل تصريحات الفيلسوف التي أدلى بها لموقع "شبيغل أونلاين"، فإنه قال: "لم أفهم بشكل كافٍ الصلة الوثيقة جداً بين المؤسسة التي تمنح هذه الجوائز في أبو ظبي والنظام السياسي القائم هناك"؛ وأن "الغربيين الذين يزورون الإمارات يلاحظون بالكاد ذلك، حيث ينبهرون بروح التسامح والجمال المعماري وبالثقافة الرائعة"، وكل هذا في نظر الفيلسوف "جزء من الدعاية".
من المفارقات، أن يورغن بوس، أعطى معلومات لابن موطنه هابرماس حول جائزة الشيخ زايد للكتاب، ساعدته على إعلان قبوله للجائزة، ما يوحي بأنها معلومات مضللة لأنها أفضت إلى قرار احتاج الفيلسوف إلى تصحيحه.
"المؤسف فعلاً سماع هذا القرار"؛ هكذا عبّر مدير المعرض عن موقفه من رفض هابرماس الجائزة، مضيفاً أن منح الجائزة "من شأنه أن يكون مناسبةً للتعريف بنتاجه المهم وبمواقفه تعريفاً أفضل في المجال الثقافي العربي"؛ نقلاً عن تقرير لصحيفة النهار العربي 4 أيار/مايو 2021.
لاكتمال الصورة المزدوجة، فإن بوس الذي استاء من رفض هابرماس لجائزة الإمارات، لم يجد غضاضةً من إلغاء تكريم الكاتبة الفلسطينية عدنية شلبي، من أجل أن تكون "الأصوات اليهودية والإسرائيلية مرئيةً بشكل خاص في معرض فرانكفورت للكتاب"، وفقاً لتقرير "مونت كارلو الدولية"، في 14 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
التمثيلية العائلية
عام 1925، رفض الكاتب الإيرلندي جورج برنارد شو، جائزة نوبل، وكان أول من رفضها، ويعود السبب إلى أنه "في غنى عنها لأنه وصل إلى برّ الأمان، فلا حاجة به إلى عوامة النجاة"، ومن التفسيرات أنه "أراد ردّ الصاع للقائمين على منح الجائزة الذين تخطّوه حين منحوا الجائزة لسنوات طويلة لأدباء مغمورين وأقل منه أهميةً"؛ وفقاً لما ذكره محمود قاسم في كتابه "موسوعة جائزة نوبل".
بعد نحو أربعة عقود تقريباً، تكرر الموقف الأبرز في الاستهانة بالجائزة مع الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر. ففي عام 1964، رفض سارتر جائزة نوبل في الآداب، متسقاً مع أفكاره المؤمنة بقيمة حياة الإنسان وحريته في الفعل ومسؤوليته عنه، ومتجاوباً مع إحساسه القلبي بأن "المؤلفين الكبار يمتون إلى الفرسان الجائلين بأن هؤلاء وأولئك يثيرون الشواهد المفعمة بعرفان الجميل"؛ بحسب سيرته الذاتية التي أصدرها في العام نفسه بعنوان "الكلمات".
آمن سارتر بأن المصير النهائي للكتّاب الذين يشبهون الفرسان والنبلاء يكاد يكون واحداً ومتكرراً، معلناً رفضه لهذا المصير المصطنع، ووفقاً لسيرته المشار إليها فإن الكاتب "إذا حدث وطال به العمر، ينتهي به الأمر حتماً إلى أن يتسلم خطاباً من مجهول يشكره، ومنذ هذه اللحظة لا ينقطع سيل خطابات الشكر، وتتراكم على مكتبه، وتزحم شقته، ويجتاز بعض الأجانب البحار ليحيوه، وبعد موته يكتب مواطنوه ليشيدوا له نصباً تذكارياً في المدينة التي وُلد فيها، وأحياناً في عاصمة بلده تحمل اسمه بعض الشوارع. إن هذا التكريم لم يكن يهمني في ذاته، إنه يذكرني كثيراً بالتمثيلية العائلية"؛ هذه التمثيلة ظلت مرفوضةً من سارتر، وعبّر عنها بوضوح موقفه من جائزة نوبل للآداب.
مشهد تمثيلي
رافضاً بقاء السفيرين الأمريكي والإسرائيلي في مصر، برغم ما يحدث في العراق وفلسطين، ورافضاً سياسة نظام الرئيس الراحل حسني مبارك، تجاه قمع الحريات وحماية الفساد، أعلن الروائي المصري صنع الله إبراهيم، في تشرين الأول/أكتوبر 2003، رفضه استلام جائزة ملتقى القاهرة للرواية العربية، لأنها تأتي، وفق كلمته، "في الوقت اللي بتتفرج فيه الحكومات العربية على المجازر التي تحدث في العراق وفلسطين ولا تصنع حيالها شيئاً، أرفض قبول هذه الجائزة لأنها صادرة عن حكومة غير قادرة على منحها"؛ وفقاً لما ذكره موقع صحيفة "الشرق الأوسط".
صاغ صنع الله تصوراً مثالياً عن علاقته بالجوائز، فهو مستعد لقبول الجوائز الممنوحة من الشخصيات المستقلة تماماً، ومن جهات بريئة من الارتباط برجال أعمال أو أحزاب، وبحسب حديث له مع مجلة "الجديد"، بتاريخ 1 تموز/يوليو 2018، فإن "الفائز لن يكون مديناً لجهاز من أجهزة الدولة أو لصاحب شركة ما أو لدولة أجنبية".
قبل 10 سنوات، وتحديداً في العام 1993، استلم صنع الله إبراهيم جائزة مؤسسة العويس الثقافية، التي أشادت بأعماله كونها "تتيح قراءة جوانب من تطور الشكل الروائي في تحققه العربي الحديث، كما تسمح بقراءة صراعات المجتمع المصري في سبيل دعم قيم التقدم والوعي النقدي، كما أن أعماله بما تميزت به من حرص على التجديد وتنوع مستويات السرد والأصوات وتعدد اللغات المتحاورة تجعل الرواية أداة معرفة ومجابهة للأسئلة الراهنة، ما يمكن اعتباره إضافةً للفن الروائي في الوطن العربي"؛ وفقاً لموقع الجائزة، وهو مشهد استحضره البعض متسائلاً: هل رفضه للجائزة المصرية متناسق مع قبوله لجائزة الإمارات؟
غادر صنع الله إبراهيم المسرح، وعدّ فاروق حسني وزير الثقافة آنذاك، أن الموقف "مشهد تمثيلي باهت"، بحسب مذكراته "فاروق حسني يتذكر... زمن من الثقافة".
كواليس الجائزة، سردها حسني في مذكراته، وذكر أن "د. جابر عصفور قد أخبرني قبل الحفل بثلاثة أيام بفوز الأديب صنع الله إبراهيم، فقلت له: لا تخبره حرصاً على عنصر المفاجأة الضروري لأي جائزة، إلا أنه قد أخبره بالفعل لذا كان لديه الوقت ليرتب هذا الشو"؛ لكن هذا لم يحدث، وأخبره عصفور بالفوز.
"لم يرهبني الموقف برمته"؛ هكذا تحدث حسني، مضيفاً: "استوعبت الموقف بسرعة ولم أشعر بالحرج ولا بالأسى وأمسكت بالميكرفون وقلت: إن رفض صنع الله إبراهيم للجائزة يُعدّ شهادةً للحكومة المصرية، ومناخ الحرية الذي تعيشه مصر، وإن فوزه دليل ينفي ما قاله"؛ في إشارة منه إلى دحض وإضعاف هجوم صنع الله إبراهيم على نظام الرئيس مبارك في ملف الحريات.
الطريف أن فاروق حسني كانت تشغله وقت إلقاء كلمة صنع الله إبراهيم، فكرة أخرى وهي تطوع أي شخص بفعل يزيد الموقف تعقيداً، فذكر أنه "في أثناء إلقاء كلمته، كنت أخشى أن يتطوع أحدهم ويقطع الصوت، أو ينزل ستار المسرح عليه، لأنه لو حدث سيعكس خوفنا مما يقوله، وبالتأكيد سيعتبرها بعضهم تعليمات الوزير".
موقف صنع الله إبراهيم كان حدثاً مؤثراً، رحّب به خصوم مبارك كثيراً، لكن فاروق حسني لم ينسَ فعلته، معبّراً عن ذلك في مذكراته بأن صنع الله "أدهشني وأفقد مصداقيته عندي ككاتب كنت أقرأ له وأُعجب به".
تواضع أم ارتياب
نصيب المفكر والسياسي المغربي محمد عابد الجابري واسع من الجوائز المرفوضة، فقد رفض قبول عضوية الأكاديمية الملكية المغربية مرتين، آخرها في العام 2002، ورفض جائزة المغرب للمفكرين والكتاب، وجائزةً عراقيةً من حزب البعث، وجائزةً ليبيةً من العقيد معمر القذافي، والواضح أنه يمكن وصف مواقفه الرافضة للجوائز بالتواضع الشديد، فلم يلجأ إلى الشعارات أو أي نوع من الضجيج والصخب حول مواقفه.
منح جائزة ما يقابله سحبها، وهو انزلاق من الجهة المانحة أو المنظمة إلى إظهار موقفها وانحيازها بشكل مباشر، وهذا ما حدث مع الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي، تشرين الأول/أكتوبر الماضي، عندما ألغى معرض فرانكفورت للكتاب حفل تكريمها دعماً لإسرائيل
عام 1981، استقال الجابري من العمل السياسي في حزب الاتحاد الاشتراكي، متفرغاً للكتابة الفلسفية لمشروعه التنويري الأبرز "نقد العقل العربي"، الذي أطلق من خلاله مصطلح "العقل المستقيل"، على العقل العربي، بمعنى أنه قدّم استقالته من وظيفته النقدية والإبداعية، متوقفاً عن المشاركة في الحضارة الإنسانية، مُعتمداً على مقولات الآخرين كبديل معرفي للعقل والبحث.
في رفضه لجائزة بلاده، اكتفى بأن مانحيه سوف يتفهمون اعتذاره، أما جائزة العراق فقد شرح الجابري في لقاء تلفزيوني له مع قناة "العربية"، عام 2008، مع الإعلامي تركي الدخيل، أسباب عدم قبوله جائزة حزب البعث العراقي أيام الرئيس الراحل صدام حسين، بأن "قيادة الحزب طلبت مني الترشح للجائزة أو أن أوقّع استمارة الترشيح، فانتبهت إلى أنها تخلو من تخصص الفلسفة، فكتبت لهم أن هذه الجائزة لا تنطوي على هذا التخصص وأنا أعتذر". فسأله "الدخيل" عن ردّه عندما أخبروه بأن الجائزة ستضم تخصصه، وأجاب الجابري: "هذه مسألة بدت مصطنعةً، فاعتذرت مرةً ثانيةً".
أما عدم قبوله جائزة القذافي في مجال حقوق الإنسان التي تمنحها ليبيا لشخصيات بارزة، فكان لشعوره أنه دون المستوى، مفصلاً موقفه في مقابلته التلفزيونية المشار إليها، بأنه "إذا كان مانديلا من قبلي، وبن بلة من قبلي مباشرةً قد أخذا هذه الجائزة بنضالهما في حقوق الإنسان، فأنا وجدت نفسي لم أقم بمثلهما في هذا المجال".
حساسيته تجاه الجوائز أظهرت بوضوح تواضعه، فهل كانت مواقفه الصارمة كنتيجة مباشرة لأنها ليست في مجال تخصصه؟ أم أنه شعر بالارتياب، ولم يفصح عن مخاوفه، لا سيما أنه عاد بعد رفض الانضمام إلى الأكاديمية المغربية وبرر موقفه، بأنه كان نتيجة استماع ملك المغرب الحسن الثاني إلى بعض المقربين الذين "نصحوه بترك أعضاء الاتحاد الاشتراكي جانباً" عند تأسيسه للأكاديمية، نقلاً عن تقرير صحيفة الشرق الأوسط 13 كانون الثاني/يناير 2003.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع