لا تكتفي إسرائيل بعقاب الفلسطينيين الأحياء، بل تمدّ يد التنكيل والعقاب الجماعي، الذي لا تنقصه الخسّة، إلى الموتى، فبحسب دراسة نشرتها الباحثة فيروز سلامة على موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، في صيف 2022، فإن "إسرائيل تنتهج، منذ أمد بعيد، سياسة عقاب الشهداء الفلسطينيين وذويهم من خلال احتجاز الجثامين، إمّا في مقبرة الأرقام، وإمّا في ثلاجات الموتى".
وحسب أهالي الشهداء والتقرير الرسمي الذي نشرته وزارة الإعلام الفلسطينية، في 18 نيسان/ أبريل 2022، فإن الاحتلال الإسرائيلي يحتجز "جثمان 104 شهداء في الثلاجات، و256 شهيداً في مقابر الأرقام، إضافة إلى احتجاز جثامين 13 شهيداً منذ مطلع العام 2022.
المسألة معروفة، ما عدا للغالبية التي أمثّلها، ربما، والتي عليها أن تشعر بذنب حقيقي لا هوادة فيه. إنها تفيق الآن، بعد حرب السابع من أكتوبر وارتكاب الإبادة الجماعية والمجازر تجاه الأبرياء على الهواء مباشرة، على ما قرّرنا بمحض إرادتنا ألا نتابعه وألا نعرفه، كأن التاريخ لم يكن تاريخاً، بل حاضراً مروعاً، يكتب الآن حيث لا نملك إلا التحديق مذهولين في الشاشات ومنصّات الأخبار، مجبرين بكامل إرادتنا المسلوبة تلك المرة، على التحديق في وجه الحقيقة التي يعيشها الفلسطينيون يوماً بعد يوم، علّنا نغسل شيئاً من عار عدم الفهم، قبل عار العجز اليومي.
لا تكتفي إسرائيل بعقاب الفلسطينيين الأحياء، بل تمدّ يد التنكيل والعقاب الجماعي، الذي لا تنقصه الخسّة، إلى الموتى، وإن "إسرائيل تنتهج، منذ أمد بعيد، سياسة عقاب الشهداء الفلسطينيين وذويهم من خلال احتجاز الجثامين، إمّا في مقبرة الأرقام، وإمّا في ثلاجات الموتى"
فأنا لم أسمع بمسألة ثلاجات الموتى لشهداء فلسطين، الممارسة المكرّسة منذ عقود، إلا عبر مداخلة باللغة الإنجليزية قام بها مصطفى البرغوثي، أمين عام المبادرة الفلسطينية، على قناة تليفزيونية، وهو يحاول أن يشرح للعالم مع مئات غيره، ألف باء الإنسانية، كي يتوقف عن الإشاحة بوجهه، وكأن المآسي بلا قاع، وتكشف كل يوم وجهاً جديداً للخزي والانحطاط.
وفي دراسة أخرى للباحثة غزل الناطور، بعنوان "سرقة أعضاء جثامين الشهداء المحتجزة"، نشرها المركز الفلسطيني "مسارات"، يتخذ الاحتلالُ الاحتجاز وسيلةً لمعاقبة أهالي الشهداء والضغط عليهم، ومحاسبتهم على فعل أبنائهم، في إطار "سياسة العقاب الجماعي"، من خلال التنكيل بهم، وهدم بيوتهم، واعتقال أقاربهم، وإبعادهم عن مكان سكنهم، والتشديد على أفراد عائلتهم أمنياً لردع الآخرين، وإيصال رسالة تحذيرية لمن يفكر في القيام بعملية جديدة.
كما يستخدم الاحتلالُ سياسة الاحتجاز بوصفها ورقة تفاوضية لأي صفقات تبادل للأسرى محتملة مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، التي يوجد لديها أسرى إسرائيليون، كما حدث مرات عدة سابقاً في إطار المفاوضات السياسية مع السلطة الفلسطينية.
كأن دورة العنف والقمع التي يعيشها الأسير الفلسطيني، منذ اعتقاله والتنكيل به ومروره بزمن العذاب اليومي داخل الأسر، عليها أن تستمرّ حتى بعد استشهاده، ومنعه من الحصول على حقه في الحرية ولو كجثمان.
ما يضاعف من أسى جهلي بالمسألة هو أن إسرائيل تتبع سياسة احتجاز جثامين الشهداء، بل وسرقة أعضائهم بشكل ممنهج يتيح لهم سرقة المزيد من الأعضاء. منذ عام 1948، استمرّت بذلك في حرب عام 1967، والانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية، حيث استخدمت إسرائيل، التي تصنّف بحسب صحيفة هآرتس نفسها، كمركز عالمي لتجارة الأعضاء البشرية، هذه الجثامين في عمليات المساومة والتفاوض.
وفي تقرير نشره موقع فايس، فإن مقابر الأرقام هي مقابر سرية، تدفن فيها الجثامين بشكل غير منظم وبعمق لا يتجاوز الـ 50 سنتمتراً، وتحمل لوحة معدنية تحمل رقماً لكل جثمان. تلك القبور كانت عرضة للكشف بسبب العوامل الجوية أو نبشها من قبل الكلاب الضالة، ولم تعلن إسرائيل عنها سوى بعد صدور أمر عسكري عام 1976، وتعلّق بتعريف الجثث، نزع الوثائق والأغراض من على الجثث، وترقيم الجثث والقبور.
وكشفت مصادر صحفية إسرائيلية وأجنبية، النقاب عن أربع مقابر أرقام في السنوات التي تلت توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، وهي مقبرة أرقام تقع في منطقة عسكرية بين الحدود الإسرائيلية السورية اللبنانية، وفيها ما يقارب 500 قبر تعود إلى فلسطينيين ولبنانيين غالبيتهم سقطوا في حرب 1982، ومقبرة ثانية موجودة في منطقة عسكرية مغلقة بين أريحا وجسر دامية في غور الأردن، وفيها أكثر من مائة قبر، تحمل أرقاماً من 5003 –5107، "ولا يُعرف إن كانت أرقام متسلسلة لمقابر أخرى أم أنها مجرد إشارات ورموز إدارية".
كما اكتشفت مقبرة "ريفيديم" في غور الأردن، ومقبرة "شحيطة" في قرية وادي الحمام شمال مدينة طبريا، غالبية الجثامين فيها دُفنت بين عامي 1965 – 1975. وفي الجهة الشمالية لتلك المقبرة ينتشر نحو 30 من الأضرحة في صفين طويلين، فيما ينتشر في وسطها نحو 20 ضريحاً.
لا يوجد أساس أو مبرّر قانوني لاحتجاز الجثامين، وإنما مسوّغات ومبررات سياسية، والهدف هو الضغط على الفلسطينيين كعقوبة جماعية، وعلى عائلة الشهيد، والحيلولة دون تحويل الشهيد إلى رمز نضالي. إن احتجاز الجثامين بات أداة ضغط سياسية بعد أسر الجندي جلعاد شاليط، إذ أصبح هذا الاحتجاز أداة ضغط للتفاوض من أجل تبادل/استرداد الجنود الإسرائيليين في غزة، وهذا التبرير هو المستخدم رسمياً.
لا يوجد أساس أو مبرّر قانوني لاحتجاز الجثامين، وإنما مسوّغات ومبررات سياسية، والهدف هو الضغط على الفلسطينيين كعقوبة جماعية، وعلى عائلة الشهيد، والحيلولة دون تحويل الشهيد إلى رمز نضالي
في سنة 2019، أصدرت الهيئة الموسعة للمحكمة العليا الإسرائيلية بأغلبية 4 قضاة ضد 3، قراراً في ملف احتجاز الجثامين، ينصّ على أن للقائد العسكري صلاحية احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين ودفنهم مؤقتاً لأغراض استعمالهم كأوراق تفاوض مستقبلية، وعلى الرغم أن من المفترض أن تكون المنظومة القضائية الإسرائيلية مستقلة عن السلطة السياسية، لكن هذا قد يصحّ في قضايا متعلقة بإسرائيليين، أمّا عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين، بحسب دراسة غزل الناطور، فإنها تعمل لمصلحة المؤسستين السياسية والأمنية، إذ تجد مبرّرات قانونية للفعل السياسي الذي يحكم حياة الأسرى الفلسطينيين وموتهم.
وتمثل قضية احتجاز جثامين الشهداء الأسرى انعكاساً لعمل منظومة استعمارية كاملة (التشريعية، التنفيذية والقضائية) تسعى لتحويل موت الأسرى داخل السجون إلى موت مستمر، عبر استمرار احتجازهم في الثلاجات أو في مقابر الأرقام، وذلك للاقتصاص من الموتى بعد موتهم، وتعذيب أهلهم عبر حرمانهم من اللقاء الأخير.
وفي أواخر العام 2021، أُقرّت سياسة عدم تسليم جثامين منفذي العمليات الفدائية من قبل بيني غانتس، وزير الحرب الإسرائيلي، ليستغل الكنيست الموقف، ويضغط باتجاه تشريع قانون "يخوّل شرطة الاحتلال احتجاز جثامين الشهداء".
ومن قبل، اعترف يهودا هس، المدير السابق لمعهد "أبو كبير" للطب الشرعي في إسرائيل، بسرقة أعضاء الفلسطينيين في فترات مختلفة، بين فترتي الانتفاضتين الأولى والثانية، بموافقة القانون وحمايته، ووجهت صحيفة "أفتونبلاديت" السويدية، في مقال لها، اتهامات لمعهد "أبو كبير" بتل أبيب بسرقة الأعضاء والاتجار بها، ضمن شركات دولية غير شرعية، كما أكد تقرير لشبكة "سي إن إن" الأميركية، في العام 2008، تورّط إسرائيل في جرائم اختطاف وقتل للفلسطينيين لسرقة أعضائهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع