فيديو التقطته لك يوماً ما وأنت تغني "كيفك إنت"... أعيد مشاهدته الآن للمرة التي لا أعرف رقمها.
يسألونني عنك: كيف إبراهيم؟
ولا أملك إجابة.
كيفك إنت؟
حسناً. في 18 من نوفمبر، كان علي أن أصيغ الخبر بنفسي.
أن أكتب بشكل مختصر ودقيق عن اقتحام جيش الاحتلال الإسرائيلي، صباح يوم السبت، لمنزل عائلتي الكائن في بلدة بيرزيت، شمال رام الله، بعد تفجير باب المنزل الرئيسي واعتقال شقيقيَّ، إبراهيم ومحمد، بعد الاعتداء عليهما بالضرب المبرح.
كتبتُ الخبر ووثّقته بالصور وبشهادات أفراد أسرتي الذين هُدِّدوا بالقتل، وبدموع أختي فرح التي سمعتْ صراخ محمد ولم تعد تستطيع النوم منذ ذلك التاريخ.
أما شقيقي الصغير أو طفلنا الكبير "حمودة"، فقدْ أصبح فجأة، أي في صياغة هذا الخبر: "الشاب محمد الزهيري، البالغ من العمر 22 عاماً".
وكان عليّ أيضاً أن أنتبه لبقايا طعام الفطور المنثورة على حائط المطبخ، بعد تكسير محتوياته على رأس إبراهيم.
الخبر جاهز: إرسال.
أكتب بشكل مختصر ودقيق عن اقتحام جيش الاحتلال الإسرائيلي، لمنزل عائلتي الكائن في بلدة بيرزيت، شمال رام الله. كتبتُ الخبر ووثّقته بالصور وبشهادات أفراد أسرتي الذين هُدِّدوا بالقتل، وبدموع أختي فرح التي سمعتْ صراخ محمد، ولم تعد تستطيع النوم منذ ذلك التاريخ
أعمل في مجال الصحافة منذ العام 2010، لكن هذه هي المرة الأولى التي تكون فيها عائلتي هي الخبر!
تخصّصت في تغطية تجارب الحركة الأسيرة منذ العام 2018، واستذكر الآن تجارب ضيوفي من الأسرى المحرّرين وشهاداتهم القاسية عن فترة التحقيق، وأفكّر في شقيقيَّ، وبتمديد فترة التحقيق معهما 12 يوماً إضافياً، بعد ثمانية أيام لم نعرف فيها شيئاً بسبب منعهما حتى من لقاء المحامي.
8+ 12 وقلق لا ينتهي.
أستمد قوتي من أبي. هذا الجبل الصابر الذي قال: "معلش، زيهم زي هالشباب. هذه ضريبة نحن جاهزون لدفعها"، وأخجل من لحظة حزن قد تبدو عليّ أمامه، وأخجل من لحظة مماثلة أمام حبيبة أخي محمد، التي جاءت تحمل دموعها وخوفها لتلقي بهما في حضني.
بالأمس، تابعنا تحرير الأسيرات والأسرى الأشبال من السجون الإسرائيلية، ضمن اتفاق هدنة مؤقتة لأربعة أيام قابلة للتمديد، برعاية قطرية، مصرية وأمريكية؛ ورأيت والدي ينسحب من غرفة الجلوس على مهل، بعدما أفاد هؤلاء بشهادات تؤكّد أن الأسرى جياع ويشعرون بالبرد.
سار أبي نحْو باب المنزل. فتح الباب ونظر إلى الخارج وتنهّد طويلاً. رأيته. لم أعلّق ولم يعلّق.
ثمانية أيام... وما أطول الأيام يا إبراهيم! وما أصعب رنة الهاتف، وما أصعب الأخبار العاجلة وما أصعب الليل!
في ذات يوم اعتقالكما مساءً؛ أعلنت هيئة شؤون الأسرى والمحرّرين عن استشهاد أحد الأسرى خلف القضبان، وهو السادس الذي يسقط منذ بدء الحرب على غزة.
أستمد قوتي من أبي. هذا الجبل الصابر الذي قال: "معلش، زيهم زي هالشباب. هذه ضريبة نحن جاهزون لدفعها"، وأخجل من لحظة حزن قد تبدو عليّ أمامه، وأخجل من لحظة مماثلة أمام حبيبة أخي محمد، التي جاءت تحمل دموعها وخوفها لتلقي بهما في حضني
تشنّجت يدي التي تمسك بالهاتف، وقبّلته لاحقاً عندما أُعلن اسم الشهيد. ثم غرقت في نوبة بكاء على هذه المعادلة الحقيرة التي يفرضها علينا هذا الاحتلال المجرم، وتأسّفت في سرّي لعائلة الشهيد.
"بانك أتاك"، أتخيّلك تبتسم وتكرّرها بنوع من السخرية، ثم تنادي على حمودة سريعاً، وتبدآن موجة تهكّم، بطلتها أنا والـ "بانيك أتاك" خاصتي. حسناً؛ إنها نوبة هلع أصاب بها كلما حلّ الليل. أسمع دقات قلبي عاليةً وسريعةً، وأهرب من نفسي إلى نفسي، وأنام غارقةً في دموعي كل يوم. لو أننا نعلم فقط أنكما بصحّة جيدة!
ثم كيف أصبحتما فجأة تشبهان كل الشباب الذين ألمحهم في الشارع؟
لو أن الوقت يرجع قليلاً إلى الوراء؛ حيث كان أقصى جدال بيننا ينتهي بأنك مهمل، كثير التدخين والسهر، وأنني لن أصدّق وعودك المتكرّرة بالتغيير!
عتابٌ كثير بيننا، وأغان طلبت مني أن أسمعها وسمعتها فعلاً، لكنني لم أخبرك بذلك.
حديثٌ طويلٌ بيننا يا إبراهيم...
وإلى ذلك الحين: سأشاهد الفيديو كثيراً وأغني: كيفك إنت؟!
بالسلامة حبيبي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...