شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
ماذا لو لم أمتلك حذاءً مثالياً للنزوح؟ عن ألم القدمين حين يطغى على ألم القلب

ماذا لو لم أمتلك حذاءً مثالياً للنزوح؟ عن ألم القدمين حين يطغى على ألم القلب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والمشرّدون

الثلاثاء 28 نوفمبر 202305:39 م

ماذا لو لم أمتلك حذاءً مثالياً للنزوح؟ عن ألم القدمين حين يطغى على ألم القلب

استمع-ـي إلى المقال هنا
Read in English:

Barefoot exodus: Does the perfect shoe (for fleeing Gaza on foot) exist?

5 دقائق فقط، هي المهلة الزمنية التي أعطاها ضابط الاحتلال الإسرائيلي لأهالي أحد المباني السكنية في حي الصبرة شرق قطاع غزة للهروب، تمهيداً لقصفه، دون اهتمام من سيموت تحت الغارات أو من سينجو بنفسه، كانت هذه المهلة، كفيلة لتحول المشهد إلى يوم القيامة.  

لدى الهروب لا نفكر بانتعال الحذاء المناسب الذي سيحملنا إلى مكان آمن، لا نفكر بالكيلومترات التي سنقطعها مشياً على الأقدام ونحن نحمل متاعنا وأطفالنا مع همومنا وقلوبنا الثقيلة، لا نفكر إلا بالنجاة، لكن بعد بضعة كيلومترات من المشي قد يطغى ألم القدمين على ألم القلب.

فمن الطفل الذي تقطع حذاءه خلال الهروب واختار أن لا يتوقف ليصلحه خوفاً من استهدافه، إلى الطفلة ذات العامين التي تسلخ جلد قدمها في النزوح، إلى الآباء والأمهات الذين حملو أطفالهم من شدة الخوف مع صراخ الإخلاء ونسوا أن يرتدوا أحذيتهم، يظل السؤال ماذا لو لم نمتلك حذاءً مثالياً للنزوح؟ أو بالأحرى... هل هناك حذاء مثالي للهروب من الموت؟  

إخلاء إخلاء إخلاء 

الجميع بدأ يصرخ بـ كلمة إخلاء، إخلاء، إخلاء... خرجوا بملابسهم دون أن يأخذوا معهم أي شيء، النساء منهارات والأطفال يبكون، أما الرجال فكان عليهم حمل أبنائهم والهروب فوراً، لكن مهلاً ماذا سينتعل الهاربون من الموت في أقدامهم؟ هذه قصصهم تروى نقلاً عن ألسنتهم. 

لدى الهروب لا نفكر بالحذاء المناسب الذي سيحملنا إلى مكان آمن، أو بالكيلومترات التي سنقطعها على الأقدام ونحن نحمل متاعنا وأطفالنا، لكن بعد المشي الطويل قد يطغى ألم القدمين على ألم القلب، فماذا لو لم نمتلك حذاءً مثالياً للهروب؟ 

محمد راضي الثلاثيني وعائلته المكونة من 3 أفراد كانوا من سكان العمارة الذين نجوا، وآخرون لم يسعفهم الوقت للهروب إذ تم قصفهم وظلوا تحت الركام، يروي تفاصيل نجاته من الموت لرصيف22: "سمعت أحد سكان العمارة يقول راح يقصفوا إخلوا بسرعة، كنا نتناول حينها طعام الغداء، تركنا كل شيء على حاله، وهرعت لاحتضان أطفالي والهرب بهم، فيما حملت زوجتي حقيبتها التي تضم أوراقنا الثبوتية وبدأنا بالنزول من الطابق السادس إلى الأسفل سيراً على الأقدام لعدم توافر المصعد نظراً لانقطاع التيار الكهربائي".

يكمل عن لحظة الهرب هذه: "حين وصلت الطابق الرابع أدركت أني لم أنتعل حذاءً، فعدت مرة أخرى كسرعة البرق تناولت الحذاء المخصص للدخول للحمام، مصنوع من الجلد الخفيف يتميز بمساعدتي بالحركة بشكل أسرع، أما زوجتي فانتعلت (شبشب) المنزل وخرجت به مسرعة فلا وقت للبحث عن بدائل".

نزل محمد وعائلته للشارع دون الالتفات للوراء وهم لا يعرفون إلى أين، القصف فوق رؤوسهم والزجاج والحجارة ونيران القذائف المتساقطة بالشارع وشظايا الصواريخ تحت أقدامهم. 

الأحذية تقطعت في النزوح 

وأثناء الهروب تعرض لموقف صعب وفق وصفه، إذ قُطع "شبشب" زوجته فاضطر للوقوف قليلاً لمحاولة لإصلاحه، لكن المهمة فشلت، لتكمل الطريق بقدم واحدة ترتدي حذاء والأخرى دونه، مما تسبب لها بجروح في قدمها  وآلام شديدة، حتى وصلوا منزل أحد أقاربهم في نفس الحي ومكثوا عندهم، لكنها لم تجد وسيلة إسعاف فاستعاضت عن العلاج بتضميد قدمها المجروحة بالقهوة، وحين خف الدم لفتها بقطعة قماش.  

محمد راضي: "حين صرخ الجيران إخلاء إخلاء... حملت أطفالي وهربت، وبعد طابقين تنبهت أني حافي القدمين". 

بالنسبة للغزيين الذين يعيشون الحرب لا تعد فكرة انتعال حذاء مريح مهمة أمام وابل الصواريخ الإسرائيلية والغارات والقصف الذي ينزل على رؤسهم، فالأولى بالنسبة لهم النجاة بالجسد، فماذا يفيد الشاة بعد ذبحها؟ وإن وجد حذاء الهروب المثالي فقد لا يمتلكون فرصة اختيار نوعه أو لونه أو شكله، في تلك اللحظة لا يهم لو انتعل الرجال حذاءً نسائياً أو العكس، وبالنسبة للأطفال يهرب أغلبهم بدونه.  

جهزت الأحذية الرياضية لأطفالي

هربت أم رامي وحيدر حين أجبرها الاحتلال على النزوح قسراً من منطقة الشمال، إلى الوسط، إلى جنوب وادي غزة، حضّرت أغراضهما الشخصية، واختارت لابنيها حذاءين مناسبين لرحلة الهروب من الموت.

ووفق ما وصفت المرأة الأربعينية  لرصيف22 فقد حرصت أن تكون أحذية الأطفال "بدون رباط" حتى لا تعيقهما عن الحركة، وكي يستغنيا عن الانحناء لربطهما في الطريق، ما قد يعرض حياتهما للخطر عبر خط صلاح الدين الذي خصصه الاحتلال للسير نحو من غزة والشمال إلى الجنوب، وتبين أنه أكثر الطرق خطراً.

تقول: "قررنا النزوح بعد أن أجبرنا جيش الاحتلال على الخروج من منازلنا في حي الفالوجا شمال القطاع، بعد ليلة أشبه بالجحيم حيث قام بتفجير أحزمة نارية حولنا، شعرنا بالفزع والخوف الشديد، وعشنا ليلة الموت كان قريباً منا، انتظرت طلوع النهار بفارغ الصبر، حزمت القليل من الأمتعة الخاصة بالطوارئ وجهزت حذائي وأحذية ولديّ".

أما هي فانتعلت جزمة سوداء من الجلد دون كعب بعدما رفعت عنها الغبار.  

حرصت أم رامي وحيدر على  تحضر متاع الهروب خلال الليل، وأن تكون أحذية الأطفال رياضية  وبدون "رباط" حتى لا تعيقهما عن الحركة خلال المشي الطويل، وكي يستغنيا عن الانحناء لربطهما في الطريق، ما قد يعرض حياتهما للخطر 

رحلة شاقة وطريق معبد بالتعب والسير لمسافات طويلة من الشمال إلى منطقة دير البلح، ترويها شارحة "مشينا سيراً على الأقدام أمام مجنزرات الاحتلال لمسافة قرابة ستة كيلومترات، أحياناً كانوا يدعوننا لرفع أيدينا والنزول للأرض، وعدم التحرك، وأحياناً كان يدعوننا لرفع رايات بيضاء وبطاقاتنا الشخصية للأعلى، ورغم أننا أخذنا احتياطنا بانتعال أحذية مناسبة فإن الطريق كانت وعرة جداً حتى تورمت أقدامنا".

وبعد عناء حصلت هذه العائلة على عربة يجرها حيوان، بعد أن قطعت حاجز الاحتلال واقتربت من منطقة النزوح وسط القطاع، ومنذ لحظة وصولها ارتمت أرضاً، ولم تعسفها الأقدام المتعبة على المشي أكثر بعد اهتراء الأحذية من السير طويلاً. 

نزحت حافية 

قصص ومعاناة الغزيين مستمرة ما دامت الحرب مستمرة، نور محسن وهي فتاة عشرينية نزحت من حي الشجاعية شرق غزة، إلى مدينة رفح في الجنوب، وقد غيرت سكنها أكثر من مرة في هذه الأيام هرباً من الموت، بعد أن قصفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي جميع المنازل المجاورة لهم فخرجت هاربة مع 12 فرداً من عائلتها.

تقول نور لرصيف22: "نزحنا أول مرة إلى بيت أقاربنا في حي النصر، ثم خرجنا مسرعين ومن شدة الخوف لم أنتعل حذائي، مشينا إلى منتصف الطريق ومن ثم وجدنا مركبة أكملنا بها طريقنا، وبعد أن قضينا ليلة قصَف الاحتلال في منزل بجوارنا، هربنا مرة أخرى لمنطقة الرمال، حيث أعطتني قريبتي حذاء كانت تنتعله عند ممارستها الرياضة لكنه كان صغيراُ على قدمي، فتألمت كثيراً لكنه يظل أفضل من السير حافية القدمين، لكن يبدو أن الموت يلاحقنا. في يومنا الثالث قامت طائرات الاحتلال بقصف الحي السكني كله ونجونا بأعجوبة، وهربت مرة أخرى وأيضاً دون حذاء".

تضيف: "لم أكترث حينها لانتعال أي حذاء فماذا سيفيدني عندما أموت؟ بالطبع لن يحميني من وابل الصواريخ الملقاة علينا. وعندما أموت سأدفن دون حذاء". 

نور: "خرجنا مسرعين ومن شدة الخوف لم أنتعل حذائي، وحين وصلنا لمنطقة الرمال أعطتني قريبتي حذاء كانت تنتعله للرياضة لكن كان صغيراً على قدمي، تألمت كثيراً لكنه يظل أفضل من السير حافية".   

في السابق، كانت نور تفضل انتعال جزمتها البيضاء ذات الكعب العالي للخروج لمناسباتها لكنها لم تعد بحاجة لها كما توضح، فقد هُدم منزلها، وتلفت جميع أغراضها التي أكلتها النيران.

وتشير نور أخيراً إلى أنها بعد ذهابها لرفح واستقرر عائلتها المؤقت هناك، قامت والدتها بشراء حذاء جلدي "بوط" ملون، كون الشتاء قد حل، والأهم أنه سهل الحركة وخفيف التنقل ويتناسب مع لباسها الذي ترتديه منذ نزوحها وهو بنطال جينز وسترة ملونة. تقول إنها تحب أن تبقى بملابسها لأنها تذكرها بأغراضها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

لعلّ تعريفنا شعوباً ناطقةً بالعربية لم يعد يستقيم من دون الانتباه إلى أننا صرنا شعوباً متفلّتةً من الجغرافيا. الحروب الدائرة في منطقتنا والنزاعات الأهلية والقمع، حوّلتنا إلى مشردين، بين لاجئين ونازحين، وأي تفكير في مستقبلنا لم يعد ممكناً من دون متابعة تفاصيل حياة الجميع، أينما كانوا، وهو ما نحرص عليه في رصيف22. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image