أسبوع مرّ على عودتي إلى عملي من إجازة الزواج، حين تلقيت خبر وفاة والد زميلتي. تملكتنا الصدمة جميعاً، نحن زملاءها في العمل، واتخذنا قراراً لحظياً بالذهاب إليها وتأدية واجب العزاء على الفور.
في الطريق، تلقيت اتصالاً من زوجي. سألني بلطف: "وينك، ما عم تردي بالمكتب"، فأجبت باسم المدينة التي كنت فيها. فجأة انقلب مزاجه وخرج صوته من السماعة غاضباً "ليش ما خبرتيني؟"، فأجبت: "ليش لخبرك، واجب وصار فجأة ومارح أتأخر، أنا مو متعوّدة خبر أحد"، فأغلق السماعة في وجهي، وتركني أغوص في المقعد هرباً من نظرات زميلاتي اللاتي رحن يحشين رأسي بعبارات متناقضة عن قواعد التعامل مع الأزواج.
في المنزل، دار جدال طويل عن واجبي بإخباره عن تحركاتي قبل أن أهمّ بها‑ أنا التي لم أعتد ذلك في بيت أهلي‑ أقنعني أخيراً أنه من حقه معرفة إن كان عليه النهوض للبحث عني في حال سماعه انفجاراً في منطقة ما، اتفقنا يومها أن يخبر أحدنا الآخر بتحركاته من باب الطمأنينة لا الإذن.
كان هذا اتفاقنا الثاني، أما الأول فقد نصّ على أن لا تفاصيل حياتية مشتركة محصنة ضد النقاش بيننا، جميعها مستباحة على طاولة الحوار مهما كانت شائكة وحساسة، وما لا يمكن الإقناع بأسبابه لا يقبل فرضه عنوة.
الأزواج بشر وليسوا من سلالة الملائكة. يستيقظون برائحة فم كريهة، يتركون شعر لحاهم في المغسلة، يشخرون، ينمو الشعر على أجسادهم، يتجشؤون، يهملون، يبعثرون، يخطؤون، يتعرّقون، ينسون إعادة قوارير الماء البارد إلى الثلاجة، ولكن هذه الأجزاء منهم قد لا تكون مرئية قبل تقاسم السقف المشترك
هل توجد حياة زوجية سعيدة؟
لا يمكن لأي حياة أن تكون سعيدة بالمطلق، لا الزوجية ولا العزوبية، السعادة لحظات نجتهد في صناعتها مهما كان وضعنا، فلماذا نحب إنكار وجودها بعد الزواج، أو إقرانها بالأطفال ومناسباتهم؟ كم مرة سمعنا تندّر الرجال المتزوجون على شاب عاشق، أو مقبل على الزواج، فقالوا له: "انفد بريشك"؟، وكم من امرأة متزوجة شكت لصديقاتها أن "كل الرجال متل بعض، نكدين وما بيلبقلهم شي"؟ أين ذهبوا بأيام الخطوبة الملتهبة وأحلام الحب الرومنسية وشهور العسل؟ حتى دوستويفسكي ذاته قال إن "أسهل طريقة لنسيان امرأة تحبها هي أن تتزوجها، غير ذلك ستبقى تحبها"!
في الحقيقة إن جميع هذه الحالات تدل على واحد من احتمالين: الأول أننا كنا نحب الصورة التي رسمناها للآخر في مخيلاتنا، الصورة المثالية للشكل والمضمون، وكأن الآخر شخصية ورقية مسطحة وببعد واحد، والثاني أننا نعجز عن إيجاد لغة الحب التي يفهمها الشريك، وهي واحدة من بين لغات خمس "الهدايا، الكلمات المحبة والداعمة، التلامس الجسدي، تخصيص الوقت النوعي وتقديم الخدمات"، وصّفها غاري تشابمان في كتابه "لغات الحب الخمس".
الأزواج بشر وليسوا من سلالة الملائكة! يستيقظون برائحة فم كريهة، يتركون شعر لحاهم في المغسلة، يشخرون، ينمو الشعر على أجسادهم، يتجشؤون، يهملون، يبعثرون، يخطؤون، يتعرّقون، ينسون إعادة قوارير الماء البارد إلى الثلاجة، ولكن هذه الأجزاء منهم قد لا تكون مرئية قبل تقاسم السقف المشترك، فهل يصحّ نكران صفاتهم الجميلة على حساب هفواتهم البشرية؟
إن مفتاح الحياة الزوجية السعيدة يكمن في التقبّل، ولا شيء آخر سوى التقبّل والتعاطف وتبادل الأدوار، ثم محاولة مد الجسور بين الصفات المتناقضة، بدون اجتهادات شخصية في تغيير الآخر وقولبته على مقاس أحلامنا وخيالاتنا، لا أحد أصلاً يملك الحق في فرض التغيير على الآخر، وكل التغييرات القسرية مؤقتة بلا شك.
بعد سنوات سبع، توقف زوجي عن انتظار الصبيحة التي سأستيقظ فيها باكراً، وتوقّفت عن انتظار نبرة صوت مختلفة عندما يكون غاضباً لأجلي، عنها عندما يكون غاضباً مني.
لربما تقوم قيامة بعض المتطرّفات هنا، سينعتنني بالخانعة، سيتبرأن مني، لكن الأمر برمته مجرد تكيّف مع وجود شخص آخر اخترنا أن نتقاسم معه الطريق، ووعدنا أن نبذل في سبيل ذلك كلّ ما من شأنه أن يضيف المتعة والهناء والراحة للرحلة. لماذا يكون تكيفنا مع طبائع والدينا وأطفالنا وزبائننا ومدرائنا وزملائنا وأصدقائنا مرونة، وعندما يصل الأمر إلى التكيف مع طباع الشريك يصبح خضوعاً؟ أفكّر أحياناً أن الزواج بمعنى التزاوج هو ما قد يكون فطرياً وغريزياً، أما الزواج بمعنى المشاركة، فهو ما يحتاج تهذيباً كبيراً للأنا في سبيل إنجاحه.
بين الحب والتعلق
أنا امرأة مستقلّة، لدي عملي الخاص وذمتي المالية المنفصلة. أحب نفسي أولاً والعالم بأسره تالياً. لا أشعر بأنني أقل شأناً من شريكي، ولست معه اليوم فقط لأنني لا أستطيع العيش بدونه. أعي أن الزواج إضافة لحياتي وليس مستقرّها. أنا معه بقراري واختياري، وهذا ما يجعلني أغدق عليه حباً غير مشروط. إن الفرق بين الحب والتعلق هو الفرق بين القوة والضعف، بين الاستقلال والتبعية، بين الاختيار والفرض. لم أر في حياتي رجلاً يحب امرأة اختصرت حياتها فيه، ولا امرأة تحب رجلاً يحبها أكثر من نفسه. الزواج لا يعني إفناء نفسك في سبيل الآخر، ولا أن تذوب فيه، ولا أن يتملكك وتصبح نسخة متطابقة عنه. إنه نقطة التقاء، قبضتان متشابكتان وقبضتان حرّتان، خط أفق بين بحر وسماء، لكل منهما امتداده الحر المنطلق من الجهة المقابلة.
الامتنان عصا سحرية
أحد الذين تقدموا لخطبتي كان بخيلاً، لم يبذل في سبيلي قرشاً قبل أن يضمن كلمة "موافقة". حدثني كثيراً عن اليوم الأسود والقرش الأبيض والأشياء الاستهلاكية وغير الضرورية بينما نمر أمام محل الورد. أتذكّر هذه التجربة في كل مرة يدخل فيها زوجي المنزل وفي جعبته عشرات الأشياء التي تفنى خلال دقائق، وتُبقي على ضحكتي لساعات، فأهطل عليه امتناناً وشكراً بكل اللغات التي أعرفها.
هو الآخر تلتمع عيناه عندما أقدم له قراءة لنص كتبه، ربما يتذكّر حبيبة سابقة لا جلد لديها لقراءة شيء غير الفناجين. إنه يجيد شكري على المائدة أمام أطفالنا على تحضير الغداء، كما أجيد شكره على القيام بأشياء كثرة مدرجة أوتوماتيكياً في قائمة واجباته، ولا يفترض أننا ننتظر الشكر على واجباتنا، إلا أننا لا ننكر بأننا نفرح به كثيراً، فأفكر بأن مبتكر عبارة "لا شكر على واجب"، شخص متملّق.
الامتنان والشكر اللذان يخطئ البعض بإسقاطهما من التعامل بدافع العشرة، وبأنهما نوع من الرسمية في العلاقة، يذكر الآخر بمحاسنه، ويحافظ على شعلة العلاقة متقدة، ويعيد التوازن لها بعد الانتقادات التي لا بد ستكثر بعد أن يجد العاشقان نفسيهما وحيدين في القفص الذهبي الذي ابتلع القط مفتاحه.
الجميع يجزم بأن الزواج بطيخة مقفلة، إما أن تكون حمراء أو بيضاء، وسيحدّد لونها شكل الحياة الزوجية إلى الأبد
هل الزواج بطيخة حقاً؟
الجميع يجزم بأن الزواج بطيخة مقفلة، إما أن تكون حمراء أو بيضاء، وسيحدّد لونها شكل الحياة الزوجية إلى الأبد، وهذا ما لا يوافق عليه جون جوتمان، الذي وضع كتاباً مهماً أسماه "المبادئ السبعة الأساسية لجعل الزواج يعمل"، فدلّ المتزوجين والمقبلين على الزواج على الطريقة الصحيحة في تلوين بطيختهم بالأحمر، أو اختيار واحدة حمراء.
وقد يكون مجاز "الزواج بطيخة" كناية عن الحياة الزوجية مجهولة، والتي ستكون كذلك بالطبع مادام كل من الشريكين جاهلاً بنفسه وبالآخر، لهذا السبب فإن جوتمان قد جعل المبدأ الأول من بين مبادئه السبعة المفضية إلى حياة زوجية هانئة، هو معرفة خرائط الآخر، وقصد بذلك أغنياته المفضلة وسبب تفضيله لها، الأحداث التي أثّرت عليه في حياته، الأشياء التي تستفزّه، مخاوفه، أحلامه وتطلعاته، وغيرها من التفاصيل التي تعطي حقاً خريطة واضحة للطرق الواجب سلكها والواجب تجنبها تجاه الشريك.
وقبل معرفة الآخر يتوجّب على الفرد أن يعرف نفسه، لأن عبارة "لو بتحبني كنت عرفت لحالك"، لا وجود لها على الإطلاق في الواقع، بل وإن الدكتورة ساندرين عطالله، المختصة في العلاج النفسي الجنسي ‑هذا الجانب الذي لا يمكن للزواج أن يتنصل منه‑ تستبدلها بعبارة "اكتشف نفسك واسمح للآخر أن يكتشفك".
على طاولة المطبخ في بيت أهلي، جلست أراقبه يحضر نوعاً من المقبلات بشغف، بعيداً عن بروتوكولات الخاطبين وبريستيجهم المصطنع: شاعر وطبّاخ، مزيج ساحر لإيقاعي في الحب. كنت أعلم أن الزواج سلسلة لا منتهية من الأفعال وردود الأفعال، فقرّرت منذ تلك اللحظة أنني أريد أعيش معه حياة زوجية سعيدة. السعادة قرار يلاقي انعكاساً في الآخر، ويتطلب جهداً معيناً لتحقيقه لكنه في النتيجة يستحق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 4 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...