يتصل أبي بنا ويخبرنا أنه مريض وأنه كان طيلة الليل في المستشفى، ويجب أن نذهب إليه حالاً، فنذهب إلى بيته، ننادي باسمه، نقف على الباب، نطرق أكثر من مرة. تفتح ابنته بنظرات ساهمة وعيون متفحصة. تخبرنا أن ننتظر قليلاً لتستأذنهم. يسقط الزمن على وجهي. توارب الباب. أدخل إلى أبي في الغرفة الرمادية. يفترش الأرض الواسعة وحوله جمع من الناس. تمد الغرابة السوداء عنقها من التراب، تنفض عنها الطين الملتصق بجلبابها الوسخ، وتغسل يديها بالصابون المعطر برائحة تشبه الصديد. تثني جذعها وتقترب من أبي. تلحفه ببطانية حمراء، وتدعك بأصابعها الطويلة كتفيه وصدره، ثم قدميه، وهي تقول: الدم جري منه. لونه شاحب يا حرام"، بينما تضع البنت الغرابة (بناتها من رجل آخر لا يريدهم، فقرر أبي الطيب العطوف أن يأخذهم) محلولاً في عروقه، وتناوله الأخرى كوباً من الشاي وبقسماط.
يميل برأسه إلى أعلى، ويطلب من أي من البنات أن تضع البقسماط في فمه. تدنو بنت الغرابة من أبي. تطعمه وهي تضحك وتتغنج، مرسلة بصرها إلى رجل يجلس على الكرسي القريب من الباب. توشوش أختي أبي سائلة عن هذا الرجل، فيقول إنه "هيصبح خطيب البنت، قرأنا الفاتحة أمس". أفكر في أن أدعس رأسه بأي شيء: "يا بجاحتك يا أخي، ده وقت خطوبة؟".
تسألني البنت الغريبة إذا كنت أريد شاياً، فتخبرها أختي بأننا أصحاب البيت، وأننا سنتدبر أمرنا إذا أردنا شيئاً، فتردّ البنت بابتسامه لئيمة، وعيون زائغة ويد تشوح في الفراغ: "أنا عارفة إنت مين على فكرة، إنت بنت بابا طبعاً". أبلع ريقي وأحاول أن أخذ نفساً عميقاً، تنسكب الكلمات من لساني، تنزلق إلى جوفي، وأشعر بسخونة النار التي تشتعل في قلبي. تلسعني حرارتها، وأكتم صرختي. أقول لنفسي بينما أشعر بأسناني تصطك: "بابا مين يا بنت الكلب انت، أمشي من بيتي، شوفي أبوكي فين؟".
تسألني البنت الغريبة إذا كنت أريد شاياً، فتخبرها أختي بأننا أصحاب البيت، وأننا سنتدبر أمرنا إذا أردنا شيئاً، فتردّ البنت بابتسامه لئيمة، وعيون زائغة ويد تشوح في الفراغ: "أنا عارفة إنت مين على فكرة، إنت بنت بابا طبعاً"... مجاز
وأستغرب من ذاتي التي أرادت أن تنسب نفسها لهذا الرجل في هذه اللحظة بالتحديد ،حتى لو لم يردني هو في حياته منذ زمن. أليس ما أسرده هو نمط في غاية الوضوح للعلاقات السامة؟ كيف تستأصل عضواً مسرطناً من جسدك دون أن تتلف مثله؟
أشتم البنت الغريبة بهمس، وأقول لنفسي إن ده بيتي، و أنا أعرف أنني أخدع نفسي وأن هذا البيت لم يعد لنا ( الحقيبة التي أضعها على ظهري ولم أخلعها بعد تعرف هذ ا أيضاً)، وأنني لا أستطيع أن أدلف داخل أرجاء البيت دون تربّص من العيون المتصيدة، وأنني لا أستطيع الصعود إلى أعلى السلالم الرخامية بلا إذن، ولا يمكن أن أدخل شقتنا في الطابق الثاني، (التي لم آلفها بعدْ، ولم أعتد دفئ حجراتها، ولا النوم قريرة الأعين على أسرتها بلا خوف) بلا محايلة من أبي، ولن أفعل، لكي يمنحني المفتاح الذي أعرف بأنه يتركه للغريبة، كما يترك لها حتى أنفاسه وكتفه المتعبة.
أعرف على وجه التحديد وعيد أبي لنا بأن يكسر أقدامنا إذا دلفنا إلى بيتنا هذا في وقت آخر. إذا حاولنا الخروج من الجحر. إذا حاولنا أن نمتلك صوتاً أو أن نعصى أوامره. أحفظ طبقة صوته عند غضبه وعروقه النافرة، بينما يغلق الباب خلفه، نازلاً من بيتنا الآخر، قائلاً: "اللي هيفكر يجي هناك؛ هكسر رجله".
ينادي أبي على البنت الغريبة، التي تهرول ناحيته في كل مرة كما لو كانت في سباق مع خيالها، ولا تكف عن قول "يا بابا، يا بابا"، وفي كل مرة تخرج الكلمات من لسانها الحاد كنصل سكين تنغرس في صدري.
يستمر المشهد الهزلي في الدوران، ولا تتوقف عقارب الساعة عن الحركة.
"حياة عبثية، مثيرة للغثيان": أردّد بيني وبين نفسي.
يرتجف جسد أبي، تهم الغرابة بلفّه بالبطانية ثانية، قائلة: "شوية وحتروق، ده تأثير المحلول"، لأن أبي يبدو حانقاً بالفعل، وتنظر إلى الرجل الذي سيخطب ابنتها، قائلة: "تشرب قهوة؟ أعملك إنت كمان يا لولاّ؟". أود أن أبصق عليها، ولا أفعل.
يخبرها أبي أن تذهب لتحضر العلاج، فتسأل الرجل الذي سيخطب ابنتها بأن يذهب معها، وتبدو أنها تمنحه أمراً، وأنه يمشي كما تريد. فينظر الرجل إلى ما بين يديه قائلاً باستسلام إنه "هيشرب الشوية دول ويقوم طبعاً"، ويذهبان بالفعل كنعجتين.
أجلس في زاوية صغيرة على الأريكة الجديدة. أنشغل بمشاهدة التليفزيون وأتظاهر بأنني أعرف ترتيب القنوات، وبأنني أحب ما يعرض، وبأنني أنتمي لهذا المكان. ينظر إلي أبي وكلانا يعلم أن وجودي هنا غير مرحّب به، وأن تعاطفي مزيّف، وأن علاقتنا، التي تطفو على السطح بين الحين والآخر ثم تدفن في التراب ثانية، مزيفة وبلا معنى هي الأخرى، وأن كل ما نفعله يشبه محاولة إنعاش جثة هامدة.
كلانا يعرف بأنه منذ زمن بعيد استُبدلنا بآخرين، وأن الأخرين ينظرون إليّ الآن كما لو أنني حيوان مقيد داخل قفص حديدي لا يسعه، يشاهدونه وفي أياديهم الخَشِنة أطباق فشار، ويرشقون هذا الحيوان السمين بفتات الطعام، ويلتهمونه إذا جاعوا. يحشرونه في أفواههم الكبيرة حد الاختناق، ثم يستفرغون.
تلتف البنات الصغيرات حول الأب، يلعبن الغميضة، يختبئن في زوايا البيت، وخلف الأسوار العالية، ثم يظهرن. يعددن على الأصابع في انتظار خروجنا في أي لحظة، كما رأيننا نخرج من هنا من قبل، بعد أن رددن كجوقة ملتهبة بأن هذا البيت ليس لنا.
تدنو قطة برتقالية من قدمي، تتشبّث بحضني، أربّت على رأسها المدفون في جسدي، أقول لنفسي: حتى أنت تهربين منهم إلي؟ بينما أشعر بغليان في قلبي، وعقلي يوشك على الانفجار. يقول أبي لبناته بأن يبقين بجانبه طيلة اللّيل، وأنه "عايز النهاردة الكل يفضل معاه)، فيرددن كالببغاوات في نفس اللحظة: "طبعاً إحنا معاك".
تتبعثر كلمات كثيرة في الهواء، لا تدخل إلى أذني. أضيع داخل عقلي، وأتساءل أين تذهب الكلمات، لماذا لا أسمع ما يدور حولي؟ أقع في فقاعة، أسبح بداخلها، أطفو إلى أعلى، وأرتطم بالسطح العالي، ولا أسقط. أشاهد المنظر من بعيد، أنهش بأظافري الطلاء الأبيض، أغرس يديّ داخل طبقاته، وأصوب بصري إلى أسفل. أتبصر روحاً تزحف إلى الخارج، أمسك بذيلها وأخرج برفقتها، وأظل هناك، هنا.
أسمع صوتاً يسألني: "عقلك راح فين يا بنت؟ فوقي".
ألمّ طرفي من السجادة، أضمّ جسدي إلى بعضه، وأرغب في أن أختفي، أو أن ينطبق البيت على رأسي ، وتصعد من رئتي أنفاسي المختنقة إلى السماء السابعة. تتسارع ضربات قلبي، أشعر بها تزحف على عيني، ورأسي، وتحيلني إلى خردة صدئة .
أقول إن ما أعيشه مجرد حلم وسينتهي، نحن متنا، وهؤلاء الجالسون أمامي، يمصمصون شفاههم، ويبصقون دماً زَنخِاً في الأكواب، هم أشباح أرواحنا التي تطوف في المكان.
جاءوا إلى هنا، ذبحونا في الليل، نخروا في باطن الأرض، أهالوا علينا التراب، ردموا الحفرة، وأشعلوا الشموع، وجلسوا يبكون موتنا، ويترحمون على أرواحنا، ثم ينامون على قبورنا.
نهبوا صوتي القوي، فتنت به إحداهن، سلبته من حنجرتي، وراحت تصيح به كالديك مع كل شروق شمس وغروبها. وأخرى أحبت شعري الأسود، قصته في الليل، ومع النور ألصقته برأسها، وثالثة غرست يدها في صدري ،وأخذت قلبي... وهكذا، حتى لم يبق مني شيء.
تكالبوا على أمي في ظلمة الليل، مصوا دماءها، رسموا على جسمها الأبيض بالوشم، استأصلوا جزءاً من الروح، وجزوا شعرها الأسود الطويل، وصيروها امرأة تشبهها، تمنح الحياة لبناتها في الصباح، وفي الليل تبكي وحيدة.
لم أصدق بعد -ليس كمن يلتبس عليه الرؤية لكن كمن يخيط جرحه- معنى أن يحرّم علينا بيته، بيتنا -حتى لو كان لنا بيت آخر- ويأتي بامرأة، تلتصق به كجيفة، ترافقه أينما حل، تنطق بكلماته على لسانها، تتصرّف باسمه، تخيط قميصه بجلبابها، تهمس له بأن يفعل هذا ويخاصم ذاك، يصبّ جم غضبه عليها أحياناً و يطردها، ثم يتوسل إليها، والدمع في مقلتيه، بأن تعود ثانية، فيقبّل يديها، ويقول إنه لا يستطيع أن يعيش دونها، ولا يستطيع أن يتحرك قيد أنملة، وأن كلامها يمشي على الكلّ.
تنجب المرأة ذو الجسد المتين والروح الشيطانية -بعد أن كانت تجزم جهلاً بأنها ستأتي بالولد له- بناتاً لا يشبهوننا في شيء أبداً، يخطئن في أشكالنا وأسمائنا، ويلفظن حروفنا على نحو خاطئ، ويخطين بأقدامهن الصغيرة على الأرض التي لنا، ويتعلقن برقبة أبي، ويلثمنه بالقبلات، وينتسبن إلى اسمه، ويجلسن معه بدلاً منا، ويأخذن منه المصروف، ويشاركنه الأطعمة الشهية ومشاهدة القناة الإخبارية التي يحب، ويعرفن -حتى البنات الغريبات - الرقم السري لهاتفه المحمول، وأسماء أصحابه، ويركبن سيارته، ويذهبن إلى المحلات لشراء الملابس والأحذية، وإلى مدارسهن، والمناسبات السعيدة، وإلى محلات الذهب لتختار البنت الغريبة شبكتها، وتملأ الأم جعبتها.
يدبّ الأب، أبي الغائب، بعصاه التي -لحسن الحظ أو لسوئه- لن تتحول إلى ثعبان يلتهمه، يخبط بها الأرض، يشقها إلى نصفين ويقولها هنا بناتي العزيزات الصغيرات، و هؤلاء... يصمت، يشخص بصره إلى عيوننا... آه، لا أعرفهن، ثم يذهب.
الصورة ربما ضبابية، لذا إذا أردت أن ترى المشهد بعينيك عن قرب، فها هنا شارع عليه لافتة باسم أبي، تقول إن هذ الشارع مِلك له، شارع السيد المدير: "ص. ع. ل" هو رجل يافع، طويل القامة، يمتلك بيتين، وعائلتين، وحياتين متناقضتين تماماً، وشخصيتين لا تتقاطع إحداهما مع الأخرى. نعرف عنه الكثير ولا نعرفه. ورث عن أبيه صوته الأجش، قامته، بشرته القمحاوية، وأراضي واسعة، تتزلزل من تحت قدميه. و رّث بناته شيئاً من ملامحه، لون العيون، الجبهة العريضة، الابتسامة، النغزة التي تشق الوجه وطباعه العصبية والعنيدة.
أستغرب من ذاتي التي أرادت أن تنسب نفسها لهذا الرجل في هذه اللحظة بالتحديد ،حتى لو لم يردني هو في حياته منذ زمن. أليس ما أسرده هو نمط في غاية الوضوح للعلاقات السامة؟ كيف تستأصل عضواً مسرطناً من جسدك دون أن تتلف مثله؟... مجاز
إذا أسقطت عينيك من على اللوحة، سترى بوابة صغيرة سوداء، لا تدخلها، بعدها بوابة أخرى حديدية، ضخمة، خضراء اللون. نصعد درجات السلم، وندخل من البوابة، نسير في البهو العملاق لنرى سلالم أخرى. نمشي ببصرنا ناحية اليمين، إلى الشقة التي تسكنها العائلة الطفيلية (parasite).
تتجمع العائلة في مشهد درامي في الصالة، الأب مريض ، يبدو أنه أكل شيئاً مسموماً، أو أمراً من هذا القبيل. تنكفئ الغرابة عليه، تمرضه. بناتها من هذا الرجل، صغيرات، يجلسن، ويلعبن على الأرض، أكبرهن تتحرّك مثل أمها تماماً، تنظر إليّ أنا وأختي بحذر، بينما يوشك فكاها على التصدع، وبجوارهما تتسابق الأختان الغريبتان على طاعة السيد المدير، بينما يضحكن من عين، وبالأخرى يبكين، ويتشحتفن من أجل رضا السيد.
في الليلة الماضية، اجتمعت نفس العائلة، مع نفس الرجل، العريس، بدوني أنا وأختي بالطبع، وقرأوا الفاتحة، وتناولوا الجاتوه والمشروبات الغازية، وضحكوا وتسامروا حتى منتصف الليل.
وبعد يومين، سيأتي الأب إلى بيت عائلتي، ليدعوا العمات والأعمام والبنات، ليحضروا خطبة هذه البنت التي أراد أن يصطفيها دوناً عن سواها، لتصبح ابنته، ويحتفل بها. يقول للأخ الذي ينام على فراش المرض، بأنه ينتظره هو وابنه، فلا يرد. تشاكسه عمتي وهي يملأها الغضب قائلة: "يعني خلاص دي بقت بنتك وجاي تعزمنا؟ بتعزمنا على بنت من الشارع؟"، فلا يستحمل أبي كلام عمتي بالتأكيد، ويخرج من البيت.
وعلى ضوء القمر، في الحيز الصغير من العالم الذي أحب، تجلس العروس ذات الفستان المنفوش، المزركش، ممسكة بيد عريسها، وحولهما المعازيم يرقصون ويتغنون ويهلهلون ويقدمون التباريك للأسرة السعيدة، وللعروس الصغيرة، وللأب الجديد المبتهج، بينما ينظر بعينيه الدامعتين ويلتقط صورة لها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...