شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
يوميات من غزة (10)...

يوميات من غزة (10)... "أصوات الشجار على طابور الماء أعلى من صوت القصف"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

عندِك حبة ملح؟ 

حبيبتي لمار هذه الرسالة الثالثة لكِ

سأحدثك عن الأصوات، لا سبيل هنا لتفادي الأصوات ولا التحايل عليها، أصوات الناس نحل يمشي في الأذنين ويطنّ بها، قنوات متعددة من الأصوات تنطلق في نفس اللحظة في ردهات النزوح، النساء تتشابك أصواتهن، وهن يتبادلن وصفات عدة تتمحور غالباً حول الأكل، وإمكانية العجن والخبز في غرفة مستترة من غرف المستشفى بينما القصف في الخلفية لا يتوقف.

أمر عادي جداً هنا رؤية رجل يحمل كيساً من الدقيق يتبعه ابنه بمنخل وشوبك للرق وطنجرة كهربائية شائعة الاستخدام في غزة من أجل الخَبز.

"عندك يختي حبة ملح؟"

"عندك يختي شوية زعتر؟"

"طب شوية ميرمية؟"

هذه أكثر الجمل شيوعاً بين النساء، فالإقبال على المناقيش مع كأس الشاي بالميرمية أكثر من الإقبال على أكل الأندومي، وتحديداً مناقيش الزعتر والجبنة بالفلفل الأحمر، لكنها ليست جبنة "كي" الهولندية التي تذوقتيها فقط في غزة أثناء زيارتك الأخيرة لها يا لمار. 

تدبر النساء -بأقل القليل- وجبات للأفواه الكثيرة، في الحرب تنشط غرائز عدة لكن غريزة الجوع تفتح فاهها على اتساعه طوال الوقت مثل ثقب أسود لا يمتلئ

أثواب الصلاة تروح وتجيء في فحيح لا تخطئه أذناي، يتقاطع معه فحيح الصنادل المتماثلة التي تسحب البلاط معها في سباق مع طلبات الرجال والأطفال، تدبر النساء -بأقل القليل- وجبات للأفواه الكثيرة التي تنفتح فجأة حولهن كأبواب الجحيم. في الحرب تنشط غرائز عدة لكن غريزة الجوع تفتح فاهها على اتساعه طوال الوقت مثل ثقب أسود لا يمتلئ.

لهجات غزاوية 

هنا تسمعين من خلال أصوات النساء وصفاً شمولياً لديمغرافية غزة، إيقاع أصواتهن، المطّ في الكلام الذي قد يشير إلى أصل يافاوي، الضمة فوق الكلمات التي تفلت من أفواه بعضهن مثل "بَحُبُه" تخبرك بأنها غزاوية قح، وأغلب الظن ان النساء هن حافظات اللهجات الأصلية وحارساتها. 

أنظر بدهشة مفاجئة عندما أسمع امرأة تصرخ على ابنها: "الله يفدهك". أفكر كثيراً في الأصل اللغوي -إن وجد- لهذه الكلمة "فده". الإنترنت على جهازي لا يدعم فتح صفحة غوغل، ناهيك بالبحث عن الأصل المعجمي لكلمة لطشت أذني في ممر الطابق الرابع من مستشفى القدس الذي صار بيتاً للجميع.

عرفت أنها لعنة يكثر استخدامها في بعض المناطق الشعبية من قبل الأمهات على أولادهن الذين لا يعرفون سبيلاً للسكون، لكن "أم قرص تطقك" تفوقت على أية لعنة سمعتها هنا، سألت أكثر من امرأة عن معنى "أم قرص" لكن الإجابة دائماً ابتسامة ساخرة تعقبها ضحكة تختبئ خلف غطاء رأس الصلاة، والحق يقال أنني حاولت العثور على أم قرص تلك فلم أجد لها عنواناً، ما علينا.

تتشابك أصوات النساء في الردهات وهن يتبادلن وصفات عدة تتمحور غالباً حول الأكل، وإمكانية العجن والخبز في غرفة مستترة من غرف المستشفى بينما القصف في الخلفية لا يتوقف

لا توقف أصوات الانفجارات أياً من سلاسل الحديث اللامتناهي بين الناس هنا، صوت انفجارات في الخارج والناس تتشاجر على الدور في دخول الحمام، على دور الماء، على مكان النوم، صوت الشجار يغطي في كثير من الوقت على صوت القذائف مهما علت، اللهم إلا إذا كان القصف قريباً جداً، حينها يصمت الشجار لثوان مع خلخلة المبنى ورقصه على إيقاع القذيفة، ثم يعودون للشجار ثانية أو للنقاش.

الرجال تعلو أصواتهم عادة في النقاش حول آخر مستجدات الوضع، عن خطاب أبو عبيدة الأخير مثلاً، أو عن تهديد المستشفى بالقصف، وهو صار يثير السخرية بدلاً من الهلع، تصلنا أصوات الرجال أيضاً حينما يتشاجرون أثناء جلب الماء من أمام المستشفى بعد الاصطفاف في طابور لساعات، لا يمكنك وأنت تقف بالساعات في مكان واحد وطابور واحد إلا أن تصنع الأصدقاء أو الأعداء أو كليهما معاً. 

الرجال دائماً ينتصرون في تحليلاتهم 

تتمحور نقاشات الرجال -وهم ليسوا أكثرية- في طابقنا حول السياسة، حيث الكل محلل سياسي يمكن أن يضع "الدويري" جانباً لو خدمه الحظ فقط، وكل منهم لديه رأي يستند إلى نتف يسمعها من هنا أو هناك، فنحن يا حبيبتي شبه مقطوعين عن العالم، أكثر الشباب هنا يكتفون بإطلاق التحليلات الحاسمة، "سوف يدخلون" أو "دمرنا قوتهم وسيستسلمون" وعادة ما تأتي التعليقات هذه من جهل واستعلاء ذكوري طنّان، وهناك قلة لا تسمعي لهم ضجيجاً يكتفون بالقول: ربنا يسلم. 

أكثر الشباب هنا يكتفون بإطلاق التحليلات الحاسمة، "سوف يدخلون" أو "دمرنا قوتهم وسيستسلمون" وعادة ما تأتي التعليقات هذه من جهل واستعلاء ذكوري طنّان. 

ما زالت أصوات القذائف حولنا لا تتوقف، أحياناً بمعدل قذيفتين أو أكثر في الدقيقة الواحدة، كنت قد وصفت لك سابقاً صوت القذائف التي تسقط حولنا، ربما لم يكف الوصف لوضعك في صورة الأمر حيث ستكونين محامية ذات يوم كما ترغبين وستكون هذه وثائق تعينك على إثبات ما نعيشه تحت وقع هذه الحرب، لذا لن أجمل الأمر بمحسّنات لغوية، وسأكتبها مجردة كما أعايشها، ولو كنت أكتب على ورق بخط يدي لكان سيكون أشبه بتخطيط للدماغ من توالي الارتجاج الذي يسببه القصف، فهو لا يأتي صوتا مجرداً، بل يأتي مع هزهزة لمبنى المستشفى ورأسي معاً، ضربات مزدوجة، صرت أعرف أن هناك قصفاً قادماً في غضون ثوان من صوت الصاروخ حينما ينطلق، بت أغلق أذنيّ بقوة لحظة القصف كي أخفف من وقعه على رأسي، رأسي أصبح بيضة فاسدة تهتز كلما تحركت يميناً أو شمالاً. 

الليلة الأخيرة قبل النزوح

في الليلة الأخيرة لنا في البيت سهرنا كعادتنا على ضوء الكشافات، صوت القذائف كان بعيداً والأحاديث شيقة ينتابها الكثير من الضحك، كان قد مرّ على الحرب ثلاثة عشر يوماً حينها، كنت أجتمع كل ليلة مع أبناء وبنات عمومتك في بيت العائلة، في محاولة لتعويض غياب السنين الطوال التي سقطت مني بلعب الورق سوياً، علّمتهم "بدرو" يا لمار وأحبوا اللعبة جداً.

جهاد ابن عمك كان أكثر من يحمل روحاً تنافسية في اللعب ولا يحتمل الخسارة على الرغم من كونه رياضياً، استفزازه كل مرة والفوز عليه فيها جعلاني أتلذذ بالتآمر عليه مع أبناء عمه الآخرين.

ناديت جدتك للسهر معنا في الليلة الأخيرة قبل النزوح، وفتحت لها باب ذاكرتها فامتد الخط على استقامته وظلت تروي لأحفادها عن ذكريات النكبة التي عايشتها، جدتك يا لمار أكبر من النكبة بأربع سنوات ونيف، هكذا تذكر هي، تَحلّق أحفادها حولها وهي تقص عليهم كيف سلمها أبوها ورق طابو أراضينا وبيت العائلة في الكوفخة، لقد أريتك أين تقع على خريطة فلسطين المعلقة على جدار الصالون لديّ في بيتي البعيد، هناك في أوروبا. 

لا توقِف أصوات الانفجارات سلاسل الحديث اللامتناهي بين الناس، فالناس تتشاجر على الدور في دخول الحمام، وعلى دور الماء، ومكان النوم، اللهم إلا إذا كان القصف قريباً جداً، حينها يصمتون لثوان مع خلخلة المبنى ثم يعودون للشجار أو للنقاش من جديد

كانت جدتك تروي لهم تاريخ الأرض مثل حكاءة متمرسة، لا تقلقي، قمت بتسجيل فيديو لأغلب القصص من أجلك حينما أعود إليك، لم أكن أعرف ان تلك كانت ليلتنا الأخيرة في البيت قبل أن يبدأ النزوح ونتفرق بين مدينة وأخرى وبين منزل ومدرسة ومستشفى، ما أعرفه أننا حين خرجنا كان القصف قد صار بالقرب منا، واضحاً ولا يحتمل أية إشارة أخرى، مرعباً كان يا لمار، متوالياً وله فحيح متواصل حاد ومفاجئ تليه ضربة قوية "ددددب" كأنك ترمين مئات السقوف الإسبستية من السماء مرة واحدة، أو كأنهم يغلقون بوابات إسمنتية ببالغ العنف مرة بعد مرة ويتركونها تسقط من السماء فوق رؤوسنا، "دِددب".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard