"ملايين الأوروبيين المصدومين الآن كانوا يظنون أننا (أوروبا) أفضل من ذلك، لكن الأهم مما سبق، أن أمم العالم لن تقبل منّا بعد الآن إلقاء المحاضرات حول الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان": تقول كلير دايلي، النائبة الايرلندية بالبرلمان الأوروبي، وواحدة من الأصوات البارزة، وغير المؤثرة في القرار السياسي رغم ذلك، التي تطالب بوقف الإبادة الجماعية في غزة.
لكن الواقع أنه حتى قبل العدوان الحالي على غزة (ربما تعلم كلير ذلك أو لا تعلم) لم تكن "أمم العالم" تحمل مصداقية كبيرة لـ "محاضرات أوروبا" حول حقوق الإنسان والديمقراطية. إن مفاهيم مثل "ازدواج المعايير" رائجة حول العالم منذ زمن طويل، ربما إذن تُسقط النائبة الشجاعة مشاعر الصدمة الأوروبية على بقية شعوب العالم، مفترضة أن الشعور هو نفسه، وأن "المفاجأة" هي نفسها.
ثمة "صدمة" غير أوروبية رغم ذلك، فنحن ربما أمام أول إبادة جماعية مركّزة يتم تغطيتها على هذا النحو الواسع في زمن وسائل التواصل الاجتماعي. الصور واللقطات المروّعة للطفل الفلسطيني الشهيد، أو المصاب الذي فقد كل أهله، لم تعد حصراً على المطبوعات و(بعض) الشاشات العربية، لقد صارت الآن، بفضل تيك توك وتويتر- إكس، تُعرض على هاتف كل مراهق في العالم، الأمر الذي انعكس في تظاهرات هائلة حتى في بلدان منحازة لإسرائيل تاريخياً، كالولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، تظاهرات تسمّي العدوان باسمه الصحيح كإبادة جماعية وتطالب بوقف إطلاق النار، وتتصدرها العديد من الأصوات اليهودية الشابة.
على الرغم من الرفض الشعبي الأممي للإبادة، إلا أن تأييد العدوان الإسرائيلي، على مستوى الحكومات الغربية الرئيسية، كان كاسحاً، لم يوقفه قصف المخيمات ولا اقتحام المستشفيات ولا قنابل الفوسفور على المدارس
رغم كل ذلك، لم يتغيّر الانحياز الحكومي الأعمى إلا على مستوى بعض الكلمات وبعد 40 يوما من الإبادة، أما الانحياز السياسي والعسكري والمالي فلا يزال قائماً.
يختلف ذلك عما جرى إبان غزو العراق قبل 20 عاماً، لقد ملأت التظاهرات الشعبية العالم أيضاً آنذاك، لكن الانقسام السياسي كان رأسياً أيضاً لا أفقياً فحسب، وقفت "أوروبا القديمة" كما وصفتها الدبلوماسية الأمريكية آنذاك، تتصدّرها ألمانيا وفرنسا ضد الغزو، واستحال على الأمريكيين والبريطانيين انتزاع قرار لصالحهما في مجلس الأمن، فشنّا الحرب خارج شرعية الأمم المتحدة، وقد جعلهما ذلك تبدوان في صفة "المارق"، وجعل بقية العالم (حكوماته وشعوبه معاً) تبدو في شكل المغلوب على أمرها.
الأمر مختلف الآن؛ فعلى الرغم من الرفض الشعبي الأممي للإبادة، الذي حدا بالرئيس الأسبق دونالد ترامب، للقول إن "إسرائيل خسرت معركة الرأي العام"، إلا أن تأييد العدوان الإسرائيلي، على مستوى الحكومات الغربية الرئيسية، كان كاسحاً، لم يوقفه قصف المخيمات ولا اقتحام المستشفيات ولا قنابل الفوسفور على المدارس، وهو ما لن يتوقف أثره على توازنات السياسة الآنية، وإنما سيرتد إلى مستويات عميقة في الوعي العام، وتنقلات جذرية بين المعسكرات، بعضها سيكون إيجابياً لكن أكثرها قد يكون خطيراً، ولا تقتصر الأسباب على خيبة الأمل من "النفاق الغربي"، بل ستمتد إلى النظر إلى العالم في شروطه الأصلية السابقة على "التحضر"، حيث القوة هي كل شيء، وليس بالسرّ أن ذلك لن يصب إلا في مصلحة اليمين والقوى الراديكالية.
على الرغم من أن فكرة الفصل بين القيم المادية والروحية، أو "التكنولوجيا" و"التحضر"، ليست بالفكرة الجديدة، وهي رائجة في العالم الثالث (ربما لافتقاره إلى القوة المادية، انظر لقاء يوسف شاهين مع صحفي أجنبي)، إلا أن التاريخ نادراً ما عرف هذا الفصل بين القيمتين.
إذا كانت هتافات نشطاء أوروبا ويهود نيويورك وجماهير جنوب أفريقيا أعادت بعض الأمل في الإنسانية، فهل يكفي ذلك في ظل تدهور الحضارة؟
تستند الفرضية الأساسية لكتاب جيمس هنري بريستد المرجعي في علم المصريات "فجر الضمير"، على أن "الأخلاق والمبادئ وقيمة العدل" كانت الحجر الأساسي في بناء الحضارة المصرية القديمة، وليس مجهولاً أن "قوانين حمورابي" هي أهم ما وصلنا من الحضارة البابلية الضاربة في القدم، ينطبق الأمر نفسه بلا شك على "فلسفة ومنطق" اليونان القديمة، التي تعد أباً شرعياً للحضارة الحديثة، التي اكتسبت نهضتها واحترامها من قبل العالم، من بين قوسين أولهما مبادئ الثورة الفرنسية عن الحرية والإخاء والمساواة، وآخرهما الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، مروراً بإلغاء العبودية خلال القرن التاسع عشر.
من المفترض إذن، في سياق تطور حقوق الإنسان، ما سمح بانطلاق مجال "النشطاء" إلى قضايا التغير المناخي والتخلص من البلاستيك وإنقاذ الأشجار والحيوانات النادرة، أن يكون من البديهي ألا يتفرج العالم، بل يدعم بالمال والسلاح عملية إبادة جماعية قحة على النمط الهمجي القديم، حيث يبدو قصف مستشفى أو مدرسة خبراً يومياً، يجرى نفيه وتزويره في المرات الأولى، ثم تبريره في المرات التالية، ودعمه عملياً في كل الأحوال.
بهذا المعنى، يبرز الفصل بين الإنسانية (بمعنى التضامن البشري الواسع) والحضارة، بمعنى القرارات التي تتخذها قوى العالم المؤثرة، المنتجة للعلوم والتكنولوجيا والسلاح. فإذا كانت هتافات نشطاء أوروبا ويهود نيويورك وجماهير جنوب أفريقيا أعادت بعض الأمل في الإنسانية، فهل يكفي ذلك في ظل تدهور الحضارة؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...