شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
لم أعد قادراً على تزييف الحقائق من أجل عملي في ألمانيا

لم أعد قادراً على تزييف الحقائق من أجل عملي في ألمانيا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن وحرية التعبير

الأحد 26 نوفمبر 202311:56 ص


هل سمعتم صوت تكسر الأحلام؟ هل جربتم ألم تزييف الحقيقة؟ وهل تعلمون أن القهر يحمل سكاكين تقطع الأحشاء؟ 

نعم لتكسّر الأحلام صوتٌ لا أقوى على سماعه مجدداً، ولتزييف الحقيقة ألمٌ مرافقٌ أثقل من أن يتحمله أي إنسان لا يزال يحمل القليل من الإنسانية بداخله، بينما للقهر والعجز سكاكين مسلولة تدخل الأحشاء.

كيف؟ سأخبركم ما القصة؟

من أنا... لن أخبركم للأسف لأني لا أزال أخشى على ما تبقى من حياتي التي أحاول منذ نحو عشر سنواتٍ رسمها في ألمانيا، لكني أستطيع أن أخبركم بأنني صحفيٌّ سوري، وما أكثرنا في هذا البلد.

قبل عشر سنوات وصلت إلى ألمانيا عبر أحد مطاراتها، ترافقني ملابسي فقط وبقايا أحلامي الممزقة وما بقي عالقاً بي من الماضي، كذلك رافقني في رحلتي كل ما يتمتع به عربيٌ أو سوريٌّ آخر من تراوما، وآثار ما بعد الصدمة، لكنني، وربما قلةٌ مثلي، حملت معي ما هو أثقل، رغم أنه لم يكن عائقاً عند وزن حقائبي بالمطار، لكنه كان ثقيلاً جداً على صدري.

حملت عقدة الذنب، أو كما تسمى بـ"متلازمة الناجي"، وهو الشعور بالخجل والحزن لأني نجوت من جنون الحروب والحياة هناك، بينما كانت لدي أحلامٌ بتغيير حياتي للأفضل.

خلال حياتي هنا، كنت أهربُ دائماً مما يحدث هناك، لكن عملي يعيدني في كل مرة، وقتها أيقنت أن الوقت حان لأقوم بدوري كصحفيّ يعمل في بلدٍ ديمقراطي يتمتع بمعايير عالية من حرية التعبير، كنت أرفع صوتي بالحديث عن مآسي العرب بشكلٍ عام وظلم حكوماتهم والفساد والقتل، وأفخر بإغضاب حكومات الشرق الأوسط عبر عملي، لكن كلما اقترب الخبر من فلسطين أصبح صوتي أخفت، وأحياناً كثيرة تحوّل إلى همسٍ كي لا يصل إلى الألمان حولي أو العرب الـ"متألمنين" بمزاودة، وفي أحيانٍ أخرى للأسف اختفى تماماً، كمفاضلةٍ بين غيابه أو قول نصف حقيقةٍ فقط.  

خلال حياتي هنا، كنت أهربُ  مما يحدث هناك، لكن عملي كان يعيدني في كل مرة، فأيقنت أن الوقت حان لأقوم بدوري كصحفيّ يعمل في بلدٍ "ديمقراطي" يتمتع بمعايير عالية من حرية التعبير.

لكن هذه المرة لم أعد قادراً على خفض الصوت، كان صوت الموت أعلى، دم الفلسطينيين زكم أنوف العالم، ومجردٌ من الإنسانية كل من شمّه وأنكره.

بدأت اكتشاف صعوبة التعامل مع القهر، وأيقنت أن للقهر سكاكين تقطّع أحشاءنا ونحن نختبئ وراء الشاشات من أصدقائنا الفلسطينيين وحتى من سوريين يبادون حالياً بسوريا.

للقهر أسلحةٌ أبعد عما تكون من أن توصف بيضاء، لأنها تدخل أحشاءنا وتقطعها يومياً، وكلما كانت تفاصيل اليوم المشتتة قادرة على لأمها قليلًا يكفي مشهدٌ واحد ليستلّ سكين القهر مجدداً.

رغم كل هذا... أدخل إلى عملي، أجلس وراء شاشتي، وأكتب روايةً واحدة، روايةً لا تشمل الفلسطينيين، ولا حكاية وطنهم، أغلق إحدى عيني، وأنظر إلى جانبٍ واحد، فبحكم من يدفع لي راتبي نهاية الشهر وعقدة ذنبه، الفلسطينيون غير موجودين، وإذا وجدوا فهم مسؤولون عن موتهم، وإذا لم يقبلوا الموت فهذا ذنبهم.

أهز رأسي كالكلب المطيع، وأعمل كموظفٍ مثاليٍّ، بل أمارس دور مقص الرقيب على زملائي أحياناً، وأكتب ما يمليه عليّ ربُّ عملي.

أقوم بذلك بينما أعطي حبة منومٍ لضميري، ففي كل لحظة تردد، يأتيني صوت الفواتير والمسؤوليات، والأسوء يأتيني صوتٌ يذكرني أنّ لا مكان لي لأعود إليه، إذا ما خالفت معايير الدولة الألمانية التي ذكرتنا بها صحيفة Bild في "مانفستو من خمسين نقطة"، أبرزها أن الفلسطينيين لا صوت لهم في قاموسهم... كما لا وطن لهم في قانونهم... لذلك يحملون لقب "Staatenlose" أو "عديمي الجنسية" أو بالأحرى بلا وطن.

أهز رأسي كالكلب المطيع، وأكتب ما يمليه عليّ ربُّ عملي. بينما أعطي حبة منومٍ لضميري، ففي كل لحظة تردد، يأتيني صوت الفواتير والمسؤوليات، والأسوء يأتيني صوتٌ يذكرني أنّ لا مكان لي لأعود إليه

أحاول تذكير نفسي كما نصحني معالجي النفسي عندما أصارحه بكرهي لعملي بأن "الشغل ليس عيباً"، وأختم يومي بلقاءاتٍ تشتم الألمان ومعاييرهم وحريتهم وإنسانيتهم لأرضي ضميري الذي ينخز عليّ، لأعود إلى منزلي دون أن أفكر بقرارٍ مجنون يتطلبُ موقفاً يوقف كل الألم، لكنه يمسح كل ما فعلته حتى الآن للوصول إلى الهروب الكبير.

فتزييف الحقيقة مؤلم، يبدأ بخدرٍ في الأصابع، ثم يصبح الألم بالبطن، يشتدُّ كثيراً، بعدها يصل الخدر إلى الرأس، وينتهي كلُّ شيء.

تصبح كتابة تقريرٍ عن طرفٍ واحد عاديةً دون ذكر آلام الآخر، ويتحول التعاطف مع جانبٍ واحد مكرراً، ومستهلكاً، ولكن عندما تريد النهوض، لن تقو... فالألم يبقيك في مكانك، يأخذك إلى فيديوهات واستغاثاتِ ودماء ودموع الفلسطنيين، ليذكرك بالنصف الآخر، ليسحق أحشاءك مجدداً، ليعطيك ما لا تستطيع تحمله، عندها تستوعب فقط أن هذا جزاء لك لأنك استسلمت ولم تقاوم التزييف.

تعود إلى المنزل، تحاول التعامل مع الألم بحبتي منوم، لتستيقظ باليوم التالي وتعيد الدوران بنفس الحلقة المفرغة.

أنا لا أدافع عن نفسي هنا، لأني أعلم أنني لا شيء، لا أقوى على تغيير الواقع، ولا حماية الفلسطينيين من الغارات، لا أملك سوى دموعي، وشعوري بالألم والذنب، وبضع يوروهات أتبرع بها.

أحاول الهروب من كل ما سبق بإجازاتٍ مرضية، تجعلني بعيداً عن ممارسة النفاق، يساعدني جسمي على ذلك، فلقد فقدت القدرة على استخدام يدي مؤخراً أو النهوض من السرير بسبب ألامٍ في رقبتي، شخّصها طبيبي بأنها "توتر أو Stress" مما يحدث، لكني لم أستقل من عملي أو أسجل موقفاً، فأنا مثل مئات آلاف العرب الذين يعيشون في ألمانيا حالياً، أريد الحصول على جواز سفري لأهرب من هنا، أريد النجاة الفردية، من حفلة الدم الجماعية بالشرق الأوسط، وحفلة العنصرية هنا، أغضب لأن لا وطن لي ألتجئ إليه لحماية نفسي من القهر والظلم، لا وطن أقدر أن كون حراً فيه، لا وطن لي غير قادرٍ على ظلمي، لا وطن لي يحبني كما أحبه، أختبئ بين ذراعيه من كل هذا، لا وطن يحنو علي.

لدي اعتقاد لا أقوى على البوح به للألمان من حولي، إذ أعتقد أن عليهم أن يستيقظوا قبل فوات الأوان، لا عن طريق مسامحتهم لأنفسهم على ما اقترفه أجدادهم بحق اليهود، لأن الذنب لا يجب أن يورث برأيي، ولا أحد يحاسب على ما اقترفه غيره، خاصةً إذا ما حاولنا الاعتراف بأخطاء الماضي وتصحيحها بالحاضر، عبر عدم إنكار حق اليهود بالوجود، لكن ما أظن على الألمان فعله حالياً، هو الاستيقاظ قبل أن يكبر رصيدُ ذنبٍ آخر سيحملونه لمئات السنين أيضاً، ذنب دماء الفلسطينيين التي تزهق هناك وهم صامتون... متعامون... لا بل مؤيدون لذلك.

أريد النجاة الفردية، من حفلة الدم الجماعية بالشرق الأوسط، وحفلة العنصرية هنا

وأعيد التساؤل اليومي: أين أنا؟ ما هذا العالم القذر الذي نعيش فيه؟ لماذا أنا هنا؟ إلى أين سأهرب؟ هل تستحق أحلامي كل هذا الألم؟ لماذا لا يمكنني الحصول على أبسط حقوقي في أي مكانٍ بالعالم؟ وهنا أبدأ سماع صوت تكسر الأحلام...

أجمع الحطام، أدفنه تحت سجادة يومياتي، لكن الصوت يبقى متكرراً كلما تابعت السير إلى الأمام ودست على أحلامي مجدداً وما تبقى من إنسانيتي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

نرفض تحويلنا إلى كائنات خائفة يسهل حكمها. لذلك كنّا وسنبقى موقعاً يرفع الصوت ضد كل قمع لحرية التعبير ويحتضن كل الأفكار "الممنوعة" و"المحرّمة". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا!/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard