شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"لماذا لا نصدّقهم؟"... حين يصرخ أهل غزة نحن بشر عاديّون

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

"والله نحن بشر نحب الحياة ولسنا من جلمود الصخر، بل من طين وماء والكثير من الكرامة".

جملة صرخ بها الكاتب الغزاوي محمود جودة عن أهل غزة عبر صفحته على فيسبوك، مستنكراً من خلالها كل المحاولات التي يقوم بها البعض لإلصاق صفات البطولة بهم وجعلهم يبدون كما لو كانوا بشراً غير عاديين ويستطيعون التحمل إلى ما لا نهاية، والأهم نزع الصفات الإنسانية العادية عنهم.

كلمات محمود وغيره من أهل غزة جعلتني أراجع كل الأفكار التي دخلت عقلي بشكل خاطئ خلال الفترة الماضية، البعض يحاول أن يروج لتلك الأفكار ليثبتها بكل الطرق، يوثقها بقصص من التاريخ عن كفاح أهل غزة ومواجهتهم للظلم ووقوفهم أمام الطغيان في العديد من المرات خلال السنوات الماضية. يظهرهم وكأنهم أساطير لا بشر، يستطيعون تلقي شتى أنواع الظلم دون يأس، وبجلد لا نظير له.

خطاب أناني

لا أتذكر بالضبط متى بدأت أسمع هذا الكلام من حولي، حتى بدأت أصدقه أنا أيضاً. كل ما أدركه جيداً أنه بات يتكرر بكثرة من عدد كبير من المحيطين بي. سمعتهم يقولون إن أهل غزة غير كل البشر، لقد أهّلهم الله لما نحن لسنا أهلاً له، لقد ولدوا وسط الحرب وهم معتادون على ما يرونه من قتل ودمار. أنظروا إلى أطفالهم ليسوا كأطفالكم. دققوا النظر في نسائهم هل ترونهم مثلكم. 

"والله نحن بشر نحب الحياة ولسنا من صخر"... جملة صرخ بها الكاتب الغزاوي محمود جودة عن أهل غزة عبر صفحته، مستنكراً المحاولات التي يقوم بها البعض  لجعلهم يبدون كما لو كانوا خارقين أو بشراً غير عاديين

كدت أصدق هذا الكلام في البداية أو ربما صدقته بالفعل. فأقنعت نفسي بقدرتهم على تحمل كل شيء وأي شيء. تشربت هذا المعنى بل وبررته دينياً بالحديث النبوي الذي سمعته من بعضهم "اعملوا فكل ميسر لما خلق له".

ثم نظرت حولي فرأيت عدداً من الأصدقاء الكتّاب هناك في غزة، يُقتلون ظلماً تاركين وراءهم العديد من الأحلام والطموحات المقتولة التي لن ترى النور. وقتها فقط فهمت ما كانت تعنيه كلماتهم واستغاثاتهم، إنهم ليسوا أساطير أو أبطالاً خارقين. بل هم بشر من لحم ودم يحلمون. وينتظرون تحقيق هذه الأحلام البسيطة البعيدة.

هذه الكاتبة كانت تنتظر صدور روايتها الجديدة، وهذا الشاب كان ينتظر زفافه، وذلك الطفل كان يشتاق لعيد ميلاده ككل أطفال العالم، وتلك الفتاة كانت تتمنى أن تحب وتتزوج وتصبح أماً. الكثير من الأحلام التي دفنت مع أصحابها في صمت، تاركة أجنحتها تقع على رماد الموتى.

هذه الكاتبة كانت تنتظر صدور روايتها الجديدة، وهذا الشاب كان ينتظر زفافه، وهذا الطفل كان يشتاق لعيد ميلاده ككل أطفال العالم.

من يدقق النظر في هؤلاء لن يرى أحجاراً أو تماثيل أو جبابرة، بل أناساً تموت قلوبهم كل لحظة ولا يملون الدعاء بانتظار وقف إطلاق النار لالتقاط الأنفاس. أناس تبكي قلوبهم على بيوتهم التي قصفت وأهلهم الذين استشهدوا دون أي ذنب. بشر عاديون يبكون كل لحظة وينتظرون ويأملون قائلين "يارب".

لم أسمع أحداً منهم يفتح صدره قائلاً أهلاً بالموت ومرحباً بالقنابل ويعيش الوطن على حساب كل الرقاب والعباد، بل قرأت منشوراً للكاتبة إيمان يوسف عودة على صفحتها على فيسبوك تدعو الله أن يعود الهدوء لغزة لتجد الفرصة لتحقق أحلامها وتصبح ممثلة. تتمنى فقط أن تعود حياتها الطبيعية.

المسكن الأرخص

"هم متعودين على كده، حياتهم كلها حرب وعارفين إنهم ممكن يموتوا طول الوقت". هذه جملة اعتادت زميلة لي أن تكررها أمامي ولكني لم أعد أسكت عندما أسمعها. بدأت أرفض هذا القول، من قال ذلك؟ من قال إنهم لم يحتضنوا الحياة بكل قوتهم. هذه الجمل تتكرر حتى أصبحت أشعر أنها المسكن الأرخص الذي يستند إليه البعض ليريح ضميره من كل تقصير في حق فلسطين.

هكذا يشعر قائلوها ولو في الخفاء، فبدلاً من أن يفكروا في اتخاذ موقف ما أو القيام بأي رد فعل قد يساعدهم ولو معنوياً يختارون الراحة بتكرار هذه الجمل الرنانة التي انتشرت بسرعة وصدقها الكثير منا مع الوقت وبتنا نصدق حقاً أن أهل غزة الصخور سيتحملون كل شيء وسيستطيعون المقاومة دون أي شيء.

ما كتبه الصحافي الغزاوي محمود جودة في منشوره لخص تقريباً كل شيء فقال: "كل خطاب بيحول الغزي لأسطورة هو خطاب أناني عاجز يجردنا من إنسانيتنا لأن الأسطورة أصلاً غير موجودة وتم اختراعها من قبل العجزة ليلقوا عليها الحمل كله لأنها أسطورة وقادرة على فعل الصمود والانتصار دون أي مقومات، لا أساطير في غزة، نحن بشر ونبحث الآن عن الخبز والماء والوقود وساعات نوم وحمام ومكان نغسل فيه الثياب، ووقت نحزن فيه وندفن آلاف الضحايا: هل رأيتم أسطورة في الدنيا تبحث عما سبق". 

نعم يا محمود أعترف لك أن هذا ما صار يقوله بعضنا كل يوم ليثبتوا لأنفسهم أنهم ليسوا مقصرين في شيء. هذا ما يقوله بعضنا ليبرر لنفسه تخاذله. نجعل منكم أسطورة لا تقهر ثم نقنع أنفسنا بذلك ونقول إنهم بخير ولا يحتاجون إلى أحد، إنهم قادرين على التعامل مع كل الصعاب ويد الله معهم، ولو مات 10 آلاف سيولد غيرهم ولن تموت القضية أبداً. كلمات نغذي بها عقولنا حتى تسكت ونطمئن بها قلوبنا المحترقة حتى تنام وتكف عن البكاء. حجج واهية وليست حقيقية ولكنها ذريعة نريح بها ضمائرنا ولو كذباً. 

"همّ متعودين على كده"... هذه جملة زميلتي في العمل، لكن من يدقق النظر في هؤلاء لن يرى حجارة، بل أناساً تموت قلوبهم كل لحظة ولا يملون من الدعاء بانتظار وقف إطلاق النار لالتقاط أنفاسهم قائلين "يارب"

بينما الحقيقة التي يقولها أهل غزة كل يوم ونعجز عن سماعها هي أنهم لم ولن يعتادوا صوت الصواريخ، فقلوبهم تهتز لها خوفاً، ويموتون من الرعب بسبب الأحزمة النارية ويقومون كل دقيقة في المساء والصباح بتفقد أطفالهم ومراقبتهم في خوف من أن لا يروهم مرة ثانية يركضون بحرية.

أهل غزة بشر عاديون لهم أحلام وطموح يريدون العيش سنين طويلة من أجل تحقيقها يحلمون برؤية أطفالهم يكبرون ويتزوجون لا يموتون وينزحون. ينتظرون رؤية أحفادهم وأن يشيخوا مع أحبتهم يوماً فيوماً، كما هو حال كل عائلات العالم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image