"كنت أعرف من أكون عندما استيقظت هذا الصباح، ولكن أعتقد أنني قد تغيرت عدة مرات منذ ذلك الحين"؛" أليس في بلاد العجائب".
من خلال جحر صغير، تدخل أليس إلى عالم غريب ومدهش في الوقت ذاته، عالم يتغير حجمها فيه مرات عدة، فتارةً يكبر وتارة يتقلص، بينما تتجول بين مجموعة من المخلوقات العجيبة التي صوّرها الكاتب البريطاني لويس كارول، في روايته الشهيرة "أليس في بلاد العجائب"، الصادرة عام 1865، وتناولتها أعمال فنية عدة.
من المثير أن ما رأته أليس في الرواية الخيالية له وجود أيضاً في الأدبيات الطبية؛ فهناك حالة عصبية نادرة يعاني المصابون/ ات بها من هلوسات سمعية، وبصرية وحسية، تشبه تلك التي رأتها أليس في الرواية، وتُعرف بمتلازمة "أليس في بلاد العجائب" نسبةً إليها.
فما هي قصة هذه المتلازمة؟ وكيف تبدو أعراضها؟ ما أسبابها؟ وما طرائق تشخيصها؟ وهل من علاج لها؟
البداية بعد صدور الرواية
بعد نحو 40 عاماً من نشر الرواية للمرة الأولى، بدأت بعض أعراض الهلوسة المشابهة لتلك التي وصفها لويس كارول، في روايته، بالظهور في الأدبيات الطبية.
ففي العام 1904، لاحظ ويليام سبراتلينغ، أحد علماء الصرع الأمريكيين الأوائل، حالات عدة لمرضى بدا كل شيء بالنسبة لهم أكبر حجماً، قبل تعرّضهم مباشرةً لنوبات الصرع.
وبعد ثلاث سنوات، أبلغ أيضاً ويليام جاورز، طبيب الأعصاب البريطاني، عن عدد من مرضى الصرع الذين تصوّروا أن الأشياء تبدو ضعف حجمها خلال الفترة التي تسبق نوباتهم.
من المثير أن ما رأته أليس في الرواية الخيالية له وجود أيضاً في الأدبيات الطبية؛ فهناك حالة عصبية نادرة يعاني المصابون/ ات بها من هلوسات سمعية، وبصرية وحسية، تشبه تلك التي رأتها أليس في الرواية، وتُعرف بمتلازمة "أليس في بلاد العجائب" نسبةً إليها
وفي العام 1913، قابل هيرمان أوبنهايم، طبيب الأعصاب الألماني، حالةً تعاني من نوبات عنيفة من الصداع النصفي التي يصاحبها شعور بانفصال جزء أو طرف من الجسم. ثم في العام 1952 لاحظ كارو ليبمان، طبيب الأعصاب الأمريكي، خلال بحث نُشر في مجلة الأمراض العصبية والعقلية، وجود تنوّع كبير في الهلوسات التي تحدث خلال الفترة التي تسبق نوبة الصداع النصفي لدى المرضى الذين كان يُنظر إليهم في الكثير من الأحيان على أنهم موهومون.
ولاحظ ليبمان تشابه تجاربهم مع تجربة أليس في الرواية، قائلاً: "سوف أتردد في الإبلاغ عن هذه الهلوسات التي سجلتها في ملاحظاتي عن الصداع النصفي، والتي وصفها كاتب شهير في رواية خيالية خالدة قبل أكثر من 80 عاماً".
وكتب في ختام ورقته البحثية: "تحتوي رواية 'أليس في بلاد العجائب' على سجل لهذه الهلوسات، والعديد من هلوسات الصداع النصفي الأخرى".
ورجّح ليبمان أن يكون لويس كارول، مؤلف الرواية نفسه، يعاني من الصداع النصفي الكلاسيكي. لاحقاً، في العام 1955، لاحظ جون تود، الطبيب النفسي الإنكليزي، وجود تشابه بين الاضطرابات الغريبة في إدراك صورة الجسم لدى مرضى الصرع ومرضى الصداع النصفي، واقترح وصف تلك الأعراض بمتلازمة "أليس في بلاد العجائب"، والتي تُعرف أيضاً بـ"متلازمة تود"، نسبةً إلى جون تود.
أعراض غريبة وأسباب غامضة
"يبدو جسدي كما لو أن أحداً رسم خطاً رأسياً يفصل بين نصفيه، ويبلغ النصف الأيمن ضعف حجم النصف الأيسر"؛ "أليس في بلاد العجائب".
تؤثر متلازمة "أليس في بلاد العجائب"، على الطريقة التي ينظر بها الأشخاص إلى العالم من حولهم، ويمكن أن تشوّه الطريقة التي يدركون بها أجسادهم والمساحة التي يشغلونها.
يتحدث بعض المرضى عن رؤيتهم لأجزاء مختلفة من الجسم تضاف إلى الأشخاص الذين أمامهم، مثل رؤية ذراع قصيرة ملتصقة بوجه الشخص الجالس أمامهم، أو رؤية الأشخاص أو الأشياء تتحرك ببطء، أو بسرعة غير طبيعية، أو لا تتحرك على الإطلاق.
وقد أبلغوا أيضاً عن رؤية أشياء أو أجزاء من أجسادهم تتقلص أو تكبر أمام أعينهم؛ ما يجعلهم يشعرون بأنهم يتغيرون من حيث الحجم.
في حديث خاص مع رصيف22، يوضح الدكتور مصطفى عوض، استشاري المخ والأعصاب في بريطانيا، أن أبرز أعراض متلازمة أليس في بلاد العجائب تتمثل في: كبر البصر macropsia أو صغر البصر micropsia أي أن يرى الشخص المصاب الأشياء أكبر أو أصغر بكثير من حجمها الطبيعي، بالإضافة إلى ما يعرف بالـ pelopsia والتي تعني رؤية الأشياء قريبة جداً أو على العكس الـ teleopsia أي أن تبدو الأشياء أبعد مما هي عليه.
ويُعدّ التغيّر في إدراك صورة الجسم من أهم أعراض المتلازمة، وفيه يرى الشخص الحجم الطبيعي لأجزاء الجسم بصورة مغلوطة، كأن يبدو الرأس واليدان غير متناسقين.
وبالإضافة إلى هذه الأعراض البصرية، هناك أيضاً أعراض سمعية؛ فيمكن أن يسمع المرضى الأشخاص يتحدثون ببطء غريب أو بسرعة كبيرة. هذا إلى جانب أعراض أخرى تتعلق بالوقت، إذ يفقد المصاب الإحساس بالوقت، ويبدو له أن الوقت يمر إما بسرعة السلحفاة أو يمر بسرعة كبيرة.
وتُعدّ متلازمة "أليس في بلاد العجائب"، نادرة الحدوث، إذ لم يُنشر وصف لها في الأدبيات الطبية، باستثناء أقل من 200 حالة، منذ أن أطلق عليها جون تود هذا الاسم في العام 1955. وتنتشر الغالبية العظمى من هذه الحالات في الأطفال، البالغ متوسط أعمارهم تسعة أعوام.
في هذا السياق، يكشف الدكتور مصطفى أنه خلال عمله يرى نحو ثلاثة إلى أربعة حالات في العام الواحد، ويصفها بأنها حالة ليست غير شائعة، ولكنها ليست خطيرة، مشيراً إلى أن غالبية المرضى الذين قابلهم كانوا من البالغين/ات الذين/اللواتي يعانون/ين من الصداع النصفي، وبنسبة أقل بكثير من المصابين/ات بالصرع.
أما عن الأسباب الكامنة خلف متلازمة "أليس في بلاد العجائب"، فما زال يكتنفها الغموض، ولكن جرى اقتراح مجموعة واسعة من الأسباب المحتملة في حالات كلّ من الأطفال والبالغين/ات.
تعليقاً على هذه النقطة، يقول الدكتور مصطفى أن الصداع النصفي من أبرز الأسباب التي تؤدي إلى "متلازمة أليس في بلاد العجائب"، وقد تصاحب أيضاً بعض أورام الدماغ خاصة تلك التي تصيب الشق الكلسي في المخ، بالاضافة إلى السكتات الدماغية ونوع من الصرع يعرف بالصرع العرضي والذي ينتج من إصابة الجهاز العصبي المركزي.
ووفقاً لبعض الدراسات، غالباً ما ترتبط الإصابة لدى الأطفال بالتهاب الدماغ الناجم عن الإصابة بفيروس "إبشتاين بار"؛ أما عند البالغين/ات، فيُعدّ الصداع النصفي السبب الأكثر شيوعاً، إذ تحدث المتلازمة عند نحو 15% من المصابين بالصداع النصفي.
وتشمل الأسباب الأخرى أورام الدماغ، نزيف الدماغ، الحمى القرمزية، السكتة الدماغية، وبعض الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب والفصام.
وارتبطت أيضاً ببعض أنواع العدوى الفيروسية، مثل مرض لايم، وأنفلونزا (H1N1)، وفيروس كوكساكي B1. كذلك، ربطت إحدى الدراسات المتلازمة بأنها مظهر من مظاهر مرض كروتزفيلد جاكوب (CJD)، وهو اضطراب تنكسي عصبي سريع التطور ومميت في كثير من الأحيان.
وبينما تتعدد الأسباب المحتملة والنظريات التي تجتهد في تفسير أسباب الحالة وأعراضها، فلا شك أن سعي الباحثين/ات إلى فهم هذه الحالة الغريبة، قد يوفر لنا فهماً أوضح للطريقة التي تترجم أدمغتنا بها معطيات العالم من حولنا.
التشخيص والعلاج
قد لا تُعدّ متلازمة "أليس في بلاد العجائب"، معروفةً لدى الكثير من الأطباء؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى تأخر تشخيصها وعلاجها على نحو صحيح.
لذلك، يؤكد جان ديرك بلوم، أستاذ علم النفس السريري في جامعة ليدن في هولندا، والذي كرّس نفسه لدراسة هذه المتلازمة، على ضرورة أن يأخذ الأطباء المرضى الذين يصفون هذه الأعراض على محمل الجد.
ويضيف بلوم أن تشخيص المتلازمة والتعرف عليها لم يتحسنا إلا خلال العقود القليلة الماضية.
وعن طرق التشخيص، لا يوجد فحص موحد يقوم بتشخيص المتلازمة، بل يحاول الأطباء إجراء التشخيص عن طريق استبعاد الأسباب أو التفسيرات المحتملة الأخرى.
يتحدث بعض المرضى عن رؤيتهم لأجزاء مختلفة من الجسم تضاف إلى الأشخاص الذين أمامهم، مثل رؤية ذراع قصيرة ملتصقة بوجه الشخص الجالس أمامهم، أو رؤية الأشخاص أو الأشياء تتحرك ببطء، أو بسرعة غير طبيعية، أو لا تتحرك على الإطلاق
ومن الفحوصات المساعدة في تشخيص المتلازمة: التصوير بالرنين المغناطيسي الذي يُنتج صوراً تفصيلية للدماغ، والتخطيط الكهربائي للدماغ والمعروف أيضاً برسم المخ، والذي يمكنه قياس النشاط الكهربائي للدماغ، بالإضافة إلى بعض تحاليل الدم التي قد يطلبها الطبيب/ ة لاستبعاد أو تشخيص حالات العدوى الفيروسية التي قد تسبب المتلازمة مثل فيروس "إبشتاين بار" وغيره.
ونظراً إلى تعدد المسببات، فليس لدى متلازمة "أليس في بلاد العجائب"، علاج واحد فعال، ولكن تُطبّق برامج العلاج الخاصة بالأسباب المحتملة وفقاً لطبيعة الحالة ونوع المسبب؛ للتخفيف من حدة الأعراض. على سبيل المثال، إذا كان الصداع النفسي المسبب الرئيس، تتألف خطة العلاج من إعطاء أدوية وقائية للصداع النصفي، ومضادات الاكتئاب، وغيرها، إلى جانب اتّباع نظام غذائي خاص بالصداع النصفي. وبالمثل، إذا كانت العدوى السبب فإن علاجها يمكن أن يساعد في وقف الأعراض.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...