تغيّرت، صار لي قلب جديد يدعى غزة، هذا كل ما أعرفه. غزة التي صارت اختباراً ومحكّاً لما يدعى الإنسانية، أكفر بمعناها القديم الذي يسقط أمام عيني، ويتفتّت إلى غبار ودم، ينبت ذلك المعنى من جديد، كعنقاء من رماد، لأعيد فهمه.
أَعرِّفُ بذلك المعنى من جديد أصدقائي، وأحدّد تلك الكلمة واضحة وحادة كنصل سكين: أعدائي، نعم أعدائي. يا لطلاوة الكلمة، تنطلق فصيحة من قلبي وتجري بيسر على لساني، دون لعثمة أو تردّد أو تأتأة، أمام الذين تردّدوا أمام الإبادة في غزة، الذين تلعثموا وأطلقوا قنابل دخان كلامية من التأتأة.
أعدائي ليس من بينهم الذين أنكروا الحق الواضح، فهؤلاء لا مكان لهم لا في المحبة ولا في العداوة، فالعداوة تحمل مشاعر ندية واعترافاً ومكاناً بغيضاً في القلب، وهؤلاء لا شيء فيهم يشبهني أو يخالفني لأحبه أو أعاديه. لا شيء يجمعنا مع الوحوش، شركاء الجريمة، ومروّجيها ودعاتها، هؤلاء الذين استخدموا معنى الإنسانية نفسها بكل خسّة، كحصن يتوارون خلفه وهم يوزعون الموت والإبادة بالكلمات الناعمة نفسها التي أدانوا بها الموت والإبادة وجرائم الحرب في أي مكان في العالم عدا غزة.
رأينا الدول الديمقراطية وهي تتجاهل أصوات شعوبها وإرادتهم، رأينا الواشنطن بوست والبي بي سي والجارديان والسي إن إن، وغيرها من صحف وقنوات العالم، التي طالما تباهت أمامنا بالمهنية الصحفية وحرية الصحافة ودرّبتنا على معاييرها، ولم نر منها سوى النسخة الأكثر بشاعة
ولست وحدي الذي تغيّرت وصار لي قلب جديد، بل يبدو أن العالم بأسره يعيد تعريف معنى الإنسانية التي سقطت أسفل أقدامنا جميعاً جثة هامدة، وصارت غزة هي قلب وضمير ذلك العالم، في عالم بلا قلب ولا ضمير.
تتواتر التدوينات المكلومة أمامي على حسابات التواصل الاجتماعي، التي تتحدّث عن التغيير في القلوب والأفكار، الأمر ليس مجرّد فورات مشاعر ساخنة يحركها الغضب، فلا يمكن لشخص يملك ذرة من الإنسانية ألا يدفعه ذلك الحدث الفاصل في التاريخ، واحد من الحوادث النادرة التي تعيد تعريف ما بعدها، حيث تكالبت دول العالم – الذي يسمّي نفسه متقدماً- ودولنا العربية بخذلان واضح على حصار وإبادة 2 مليون مدني في أكبر سجن بالعالم.
رأينا الدول الديمقراطية، وهي تتجاهل أصوات شعوبها وإرادتهم، رأينا الواشنطن بوست والبي بي سي والجارديان والسي إن إن، وغيرها من صحف وقنوات العالم، التي طالما تباهت أمامنا بالمهنية الصحفية وحرية الصحافة ودرّبتنا على معاييرها، ولم نر منها سوى النسخة الأكثر بشاعة حتى من إعلام دولنا الفج. خطاب لا يبدو حتى مستلهماً من تراث الاستبداد الشرقي، بل من مخيال ديستوبي قاتم، كان مخفياً خلف اللغة الإنسانية البراقة، صاعداً من دعاية جوبلز نفسه، وزير الدعاية النازية، كأن النازية والمحرقة والإبادة النووية هي الفكرة الكامنة وراء كل هذا البهاء الناصع للغرب.
ندرك في لحظة الحقيقة أننا في نظر ذلك الأبيض المتفوّق – جميعنا كعرب وليس غزة فقط– مجرد "حيوانات بشرية" أو على الأقل في مرتبة أدنى، فما يسري على أهل فلسطين، هو بروفة لما يمكن أن يحدث لنا نحن، فالغرب لا تحرّك فيه دماؤنا شعرة، إلا إذا كان لذلك مصلحة مباشرة له، فعندما جاء الاختبار الحق لمعانيه، كان أول من سقط. أما حكوماتنا المرتعشة، فقد طلب منها رئيس الوزراء الإسرائيلي، رأس حربة الكراهية المقدّسة نحونا، بكل صلف ووقاحة أن يلتزموا الصمت.
الحكومات غير الشعوب، صرنا نعرف ذلك، وصارت الشعوب في العالم كله تعرف، لا فارق في ذلك بين شرق وغرب، ليست المسألة في العروبة أو الإسلام، هذا نطاق ضيق، القضية هي إنسانية في المقام الأول، إذ تشعر أن الرابطة بينك وبين هذا العالم، إذا ما اتفقنا أن قلب تلك الرابطة هي غزة، هم الأحرار في هذا العالم.
لست وحدي الذي تغيّرت وصار لي قلب جديد، بل يبدو أن العالم بأسره يعيد تعريف معنى الإنسانية التي سقطت أسفل أقدامنا جميعاً جثة هامدة، وصارت غزة هي قلب وضمير ذلك العالم، في عالم بلا قلب ولا ضمير
ربما لم نتبيّن مدى هذا التغيير بعد، ولا أثره، ولا السبل الحقيقية لإنجازه، وإن كان كل منا- إذا ما قست على نفسي- يتلمّس الآن الطريق، عبر أن تصير غزة بوصلتي للفهم، للقياس، للتحليل، أقرأ ما يرتبط بهذا القلب، بحثاً عن المعنى الجديد الذي يعيد إيماني بالإنسانية، ويعيد لي ثقتي بذاتي على أرضية أخرى غير متواطئة أو منتظرة لقبول الرجل الأبيض، وفهمه الاستعماري الضيق والجاهل للعالم.
في مقدمة كتابه "الثورة بلا قيادات" لكارين روس، يذكر أنه في مظاهرات الربيع العربي في مصر، سأل أحد شبابها عن النتائج التي يرجونها من الثورة، فأجابه: "تحقيق الديمقراطية.. لكن ليس على النمط الغربي الذي تتحكم فيه الشركات العالمية متعدّدة الجنسيات". أدهشت روس إجابة الشاب، بما فيها من وعي متقدم عما كان يظنه، وهو ما أثبتته الأيام، ديمقراطية تبدو في لحظة كتلك كالوجه المقلوب الناعم للديكتاتورية، تتجاهل إرادة شعوبها.
غزة هي ما يحدث في الكونغو، هي ما يحدث في السودان من إبادة، هي ما حدث في سوريا على يد حاكمها الذي يستنكر بوقاحة مجزرة غزة، رغم أن استسهاله لإبادة شعبه هو ما مهّد لإسرائيل الأرض أن ترى في إبادة أهل غزة أمراً طبيعياً.
سيتغيّر العالم وستعيش غزة، فهي نبضه الصادق والأخير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين