شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
يوميات من غزة (5)...

يوميات من غزة (5)... "ألو يابا، إحنا طيبين"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمشرّدون

الخميس 9 نوفمبر 202309:47 ص

"خرجنا تحت القصف بالصواريخ والأحزمة النارية وقنابل الفسفور الأبيض التي أمطرنا بها الطيران الحربي الإسرائيلي، خرجنا راكضين دون أي شيء، مارين على الجثث والأشلاء، بينما النيران تحجب عنا السماء بكتل دخانية ضخمة". 

هكذا جلس أبو بلال الشارد الذهن يسرد قصة خروجه من أبراج الكرامة شمال مدينة غزة، إلى أن وصل واجتمع مع أسرته التي فقدت بيتها وحفيدتين حيث استقروا في مأوى في مدينة خان يونس. 

وين البنات؟ 

يكمل الرجل الستيني كلامه عن يوم الهروب: "خرجنا من بيوتنا بهذا الشكل، فاقدين لقدرة تحديد الاتجاهات حتى في المناطق التي نحفظها عن ظهر قلب، على أكتافنا أطفالنا وتركض بجانبنا نساؤنا، تقدمنا ما استطعنا في كل الاتجاهات، وكنا كلما تقدمنا أمتاراً وتلفتنا وراءنا رأينا الجنون والهستيريا تلاحقنا".

حين ابتعدت العائلة ما يقارب الكيلومتراً، بدأوا بتفقد بعضهم بعضاً، وبعد أن استجمعوا شتاتهم تنبهوا أن عددهم كان ناقصاً، وليس أي نقصان، الإبنة والإبن البكر.

يقول أبو بلال: "بعد نصف ساعة، ظهر ابني، سألته عن ابنتيه، وكان الرد في عينيه، واضحاً في انهمار الدموع، اقترحت على إبني الأوسط، أن يتقدم مع العائلة، قلت له خذهم إلى أبعد مكان ممكن، إلى أماكن الإيواء جنوب وادي غزة، وعُدت أنا وابني البكر إلى حيث البيت الذي سقط نصفه، فيما ظلّ النصف الآخر معلقاً في الهواء. وهناك بحثنا عن حفيدتيّ، كانت الجثث كثيرة في المكان، والإصابات التي تنزف دماً أكثر، ولم تكن سيارات الإسعاف قد وصلت إلى ذلك المكان بعد".

أبو بلال: "خرجنا من بيوتنا فاقدين لقدرة تحديد الاتجاهات في المناطق التي نحفظها عن ظهر قلب، وكنا كلما تقدمنا أمتاراً وتلفتنا وراءنا رأينا الجنون والهستيريا تلاحقنا"

هذه القصة هي واحدة آلاف وليست قصة عائلة أبو بلال وحده، تتغير الأسماء وتتشابه الأحداث والروايات عن يوم الهروب في غزة، فما من عائلة إلاّ ونقصت بعض أفرادها منذ بداية الحرب، وبعض العائلات اختفت كلها ولم يعد من شاهد ليروي قصتها. 

دفننا البنتين وأكملنا الهرب 

يكمل: "وجدنا البنتين، غارقتين في دمائهما، حملتُ الأولى، وأبوها حمل الثانية، وسرنا بين الجرحى النازفين والبيوت التي تكومت على نفسها، وعلى سكانها، مشينا ما يقارب كيلومترين قبل أن نجد سيارة لتذهب بنا إلى المستشفى، لم يكن الوضع أفضل هناك، كان المستشفى مزدحماً بالهاربين من الموت وبالضحايا وبالمصابين، وأخيراً وصلنا إلى غرفة الطوارئ، لكن بعد فوات الأوان".

كان الأمر عبثياً كما يصفه الرجل، فقد أكد الأطباء أن البنتين فارقتا الحياة، وأمر بنقل الجثمانين إلى المشرحة، التي أخذت بيانات البنتين وكفنتهما، يقول: "صلّينا على البنتين بمن تفضل معنا من الناس الموجودين في المستشفى، ثم انتقلنا بهنّ في سيارة الموتى إلى المقبرة القريبة، وواريناهما الثرى هناك". 

أكد الأطباء أن البنتين فارقتا الحياة، صلّينا عليهما بمن تفضل معنا من الناس الموجودين في المستشفى، وأكملنا الهرب

عن تلك اللحظة التي يعتبر التوقف للحزن فيها خطيراً ومُعطلاً للهروب يقول: "هكذا بسرعة خاطفة دون وقت لذرف حتى دمعة واحدة أو تنهيدة دفننا الصغيرتين، فقد حدث كل هذا الأمر تحت أزيز طائرات الاستطلاع، وبين القصف والقصف المستمر هنا وهناك وفي كل مكان". 

إحنا بخير يابا 

لمعت الدموع في عيني أبو بلال، الذي تجاوز الستين من عمره وغطى رأسه شيب جميل زاده وقاراً إلى وقاره، فيما هو يتنهد تنهيدة هزت بدني قبل أن يكمل حديثه. 

يقول: "في تلك اللحظة لم أكن أعرف أين عائلتي، أو من تبقى منهم، ولم أعرف إلى أين أذهب، اتكأت على ابني الذي كان يحتاج لمن يتكئ هو عليه، فلقد دفن ابنتيه للتو".

حاول أبو بلال مراراً الاتصال مع ابنه الأوسط الذي تركه برفقة العائلة حتى يعرف أين وصلوا وكيف يلتحق بهم، فلا أقارب ولا معارف لهم في الجنوب، يقول: "لم أكن أعرف حينها إن كانوا قد تحركوا إلى الجنوب فعلاً أم اختاروا وجهة أخرى، فجلست على الرصيف، منتظراً اتصالاً أو رداً، وبعد ساعتين جاءت المكالمة التي ردت فيّ بعض الروح":

- ألو يابا، إحنا طيبين، هينا في مأوى الهلال الأحمر الفلسطيني في خان يونس.
- الحمد لله يابا... جايينكم.

يقول أبو بلال: "أغلقت الهاتف دون أن أفسح مجالاً للحديث عن البنتين. المهمة الصعبة التي كانت تواجهنا حينها هي إيجاد سيارة توصلنا من غزة إلى خان يونس وسط القصف وتقطع الطرق، حاولت مع كل سيارة عابرة، وكنا نتقدم على أقدامنا ونسأل، نتقدم ونرجوا، نتقدم ونعرض مبلغاً مضاعفاً من المال، حتى جاء سائق ابن حلال، ووافق".

سائق مجنون أوصلنا إلى الجنوب 

لم تكن الطريق سهلة كما يصفها أبو بلال، فالكثير من الشوارع تقطعت وتدمرت بسبب القصف، وبعد ساعة  من الخروج من مدينة غزة وصل الرجل وابنه إلى طريق صلاح الدين باتجاه الجنوب. 

- ألو يابا... إحنا طيبين، هينا في مأوى الهلال الأحمر الفلسطيني في خان يونس
- الحمد لله يابا... جايينكم

كل ما كانت تحتاجه العائلة في تلك اللحظات هو مكان للأمان، ما يكفي منه للسماح للحزن بأن يخرج ولبعض البكاء، وما يكفي منه لعدّ أفراد الأسرة ومعرفة من عاش ومن نقص. 

يقول الرجل: "كان السائق حذراً ومجنوناً في نفس الوقت، وكنا نحن للتو خارجين من الجنون ذاته، ونريد أن نصل إلى أي مكان بحثاً عن القليل من الأمن والراحة ومحاولة استيعاب ما حصل. فكل ما أتذكره أننا كنا في أمان الله في البيت نتجهز لوجبة الافطار، التي بدأنا بها قبل أن يبدأ كل هذا الجنون".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image