انتهيت في المقال السابق عند تساؤل، ما الذي علينا كفلسطينيين فعله أمام هذا السعار والإجرام الذي تقوم به إسرائيل بحقنا، وهل نستطيع أن نحصل على حقوقنا كاملة في ظل ما يتم تخطيطه للمنطقة. وهل أن القوة العسكرية التي تتمتع بها إسرائيل، على مستوى المنطقة، هي قدرٌ علينا أن نتعامل معه ونتلقاه صاغرين، وهل هذه القوة مطلقة، وتستطيع فرض تصورات أصحابها عن شكل التوزيعة الجغرافية، والديموغرافية لحصتنا من هذه الأرض، وما عليها من سكان، هم نحن أولاً وأخيراً.
الإجابة عن الأسئلة السابقة يمكنها أن تكون بالنفي إن استطعنا أن نمتلك الشجاعة الكافية لمراجعة أنفسنا، وتصويب أخطائنا. وهذه المراجعة يجب أن تكون بجدية وقسوة تتناسبان مع القسوة التي نشاهدها يومياً عبر الشاشات لما نتعرض له. والمقصود بما نتعرض له ليس فقط هذه الإبادة التي تحدث الآن، أو لنقل ما نتج عن السابع من أكتوبر، بل وقبل ذلك التاريخ بسنوات طويلة، وفي مناطق متعددة للوجود الفلسطيني. إذ لم يعد مقبولاً بعد كل هذا التاريخ من المعاناة ودفع الدم أن نتعامل وكأن شيئاً لم يحدث، أو أن أمورنا بخير وطريقنا سالكة وهدفنا قريب. هذه المراجعة ضرورية بغض النظر عن كل الاعتقادات الجدية، أو المفتعلة عن نوايا أو طبيعة أو تاريخ عدونا. فلقد ملّ الشعب الفلسطيني من تشخيص قادته والمسؤولين عنه لهذا العدو وطبيعته، وهو ينتظر الإجابة عن سؤال "وبعدين؟".
ليس من المعقول أن يظل الميكروفون، في أيدي نفس الأشخاص ثلاثين أو أربعين عاماً، دون مراجعة ودون حساب، وليس من المعقول أن يضع فصيل ما هدفاً سياسياً ولا يحقق منه شيئاً، طوال ثلاثين عاماً، دون أن يتعرّض لمساءلة شعبية
وهذه المراجعة يجب أن تكون بعقول باردة بعيدة عن الانفعال والعواطف، والآمال أو التوقعات غير المبنية على استعداد حقيقي. ورغم أن ما يجري حالياً لا يترك مجالاً لا لبرودة ولا لعقول من أساسه، إلا أن قضية كقضيتنا، ومهمة كهذه المهمة، وبهذا الحجم لا يجب ان يتم تركها لهواة الفيسبوك، أو لأشخاص تنقصهم المعرفة والفكر، ولم يمتحنوا لا الحرب ولا النضال، ويفتقرون لأدنى مقومات ومهارات العمل السياسي.
أول نقاط هذه المراجعة يجب أن تتركز على الهدف الذي يريده الشعب الفلسطيني من نضاله. بمعنى يجب أن نحدد ما الذي نريده من هذا النضال كحل نهائي يرضينا، أو نقبل به، أو نستطيع تحقيقه. إذ لا يمكن وليس من المعقول أن يكون لدى منظمة التحرير مثلاً، كممثل "شرعي ووحيد" للشعب الفلسطيني، برنامج سياسي مستند على رؤية حل دولتين لشعبين، ويكون برنامج بعض فصائلها ينادي بدولة من النهر إلى البحر. كما لا يعقل أن تبدأ حماس كحركة مقاومة ترفض الحل السلمي المستند على رؤية الدولتين، وتنادي بإنهاء إسرائيل، ثم تطالب "بفتح أفق سياسي" مستند على مفاوضات مع الدولة المنوي إنهاؤها. ناهيك عن البرامج التي يشتغل عليها ويتبناها مثقفون وسياسون ينتمون إلى هذا الطرف أو ذاك، والتي تطالب بحل الدولة الديمقراطية الواحدة.
المراجعة الثانية يجب أن تحفر عميقاً في خطابنا الموجه إلى الإقليم والعالم. وفي هذه المراجعة يتحتم علينا أن نجيب على السؤال الجوهري: هل نحن جزء من هذا العالم ويعنينا رأيه بنا؟ وهل نراهن عليه ام لا؟ هل تعنينا قيمه وقوانينه أم يجب أن نتصرف بعيداً عنه وعنها، باعتباره عدواً، أو على الأقل ظالماً، ولن يقف في صفنا مهما فعلنا؟
إن قررنا أن نستغني عن هذا العالم، وأن ندير شؤون نضالنا بعيداً عنه فلنفعل ذلك، أما إن أردنا أن نلجأ إليه، فليس من المنطق أن نتذكره في محنتنا فقط، بينما نهاجمه ونهاجم قيمه في أوقات قوتنا أو راحتنا. وإن قررنا اللجوء إليه فيجب أن نختار خطاباً واضحاً ومفهوماً من قِبل المستمع الذي نخاطبه، وبعيداً عن التناقض في بث الرسال أو المراوغة المفضوحة، والتي لا تمتُّ للتكتيكات السياسية بصلة. أو أن نفرض عليه الطريقة والتوقيت الذي نراه نحن فقط. وكما أن المبالغة مرفوضة في أي خطاب، فالاستكانة مرفوضة أيضاً. لا يجب أن تمثل نضال الفلسطينيين ولا تاريخهم ولا حقوقهم جملة مثل "اعتبرونا حيوانات واحمونا" كما لا يجب أن تمثل قيم الفلسطينيين وحضارتهم وتنوعهم وأخلاقيات قضيتهم جملة من قبيل "أولاد القردة والخنازير" خاصة حين تكون في معرض مناشدة لأحرار العالم. أي أحرار عالم يمكن أن يتقبلوا صيغة دينية لمخاطبتهم، أو حتى أن يفهموها.
المراجعة الثالثة وهي الأهم على كل حال، فتخص الرافعة التي نعول عليها للقيام بما سبق. أعني بذلك القيادة التي على الشعب الفلسطيني أن يفرزها، وذلك بمساعدة من نخبهِ الثقافية وسياسييه ومناضليه. علينا أن نعيد النظر بجرأة ودون تحفظات بمنظومة الفصائل والقيادات الحالية، وأن نتحلى بروح إيثار العام على الخاص والضيق من مصالحنا. ليس من المعقول أن يظل الميكروفون، وهذه كلمة مجازية، في أيدي نفس الأشخاص ثلاثين، أو أربعين عاماً، دون مراجعة ودون حساب. وليس من المعقول أن يضع فصيلٌ ما هدفاً سياسياً ولا يحقق منه شيئاً، طوال ثلاثين عاماً، دون أن يتعرض لمساءلة شعبية، أو حتى مساءلة من أعضائه ومنتسبيه وجمهوره إن كان له جمهور.
لقد شاخت هذه الفصائل وشاخ قادتها، وفشلت في تحقيق ما وعدت به، وعليها أن تعلم أن لا أحد أمضى لها شيكاً على بياض لمدة ليس لها نهاية.
لا يجب أن تمثل نضال الفلسطينيين ولا تاريخهم ولا حقوقهم جملة مثل "اعتبرونا حيوانات واحمونا"، كما لا يجب أن تمثل قيم الفلسطينيين وحضارتهم وتنوعهم وأخلاقيات قضيتهم جملة من قبيل "أولاد القردة والخنازير"
وإذا أرادت هذه القيادات أن يذكرها التاريخ بشيء جيد، فعليها الآن أن تعيد النظر في كامل هذه المنظومة، بأن تجلس كخطوة أولى للمصالحة دون شروط، ثم أن تقدم لشعبها بياناً اعتذارياً متضمناً استقالاتها، وتقديم وجوه جديدة غير ملوثة بكل هذه الانحيازات الضيقة، والمصالح الحزبية، والارتباطات الخارجية. وأن تعيد انبعاث منظمة التحرير كشرعية جامعة للكل الفلسطيني، وكممثل حاز على اعتراف عالمي لا يمكن تجاوزه أو التضحية به.
قد يبدو هذا الكلام طوباوياً غير قابل للتحقيق، وقد يبدو كلاماً مرسلاً لا يصنع حلاً، لكن ما أنا متأكد منه، وما تؤكده الوقائع كل يوم وكل ساعة، هو أن حالنا يتجاوز الخيال بكثير. لا أريد القول إن من يعجز عن البدء بهكذا تغيير ويعتبره غير ممكن، لا يحق له أن يتصور، ثم يصور لنا أن تحرير فلسطين أكثر سهولة. ومن يعجز عن الحل هو من لا يعترف أن لديه مشكلة أصلاً، ولكي نرى المشكلة علينا بالضرورة أن نكف عن الكذب على أنفسنا وعلى شعبنا. فلا تشخيص دون استخدام صادق للمسميات، ودون تحديد علمي للمصطلحات ومدلولاتها. فالتقدم له معايير علمية، والتراجع له مقاييس يمكن دراستها بالأرقام، والنصر يلمع ولا خلاف عليه، والهزيمة لها صوت مدوي يمكن سماعه في صراخ الضحايا.
يكفي أن نخجل قليلاً من التاريخ أو من هذه الدماء المسفوحة والجثث المبعثرة في الشوارع، ونسمي الأشياء بمسمياتها لننفض عنا الغبار وننطلق من جديد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...