شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
أنا التي قتلت الصبار...

أنا التي قتلت الصبار...

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الأحد 12 نوفمبر 202305:30 م

15،  هو عدد المنازل التي أقمت فيها في ألمانيا بين مدينتين، وعدة أحياءٍ في برلين...

15 غرفة جديدة مررت بها لكنّها لم تمر بي...

لا أحمل رائحةً مخزّنة لمعظمها، ولم يكن يعنيني شكل غالبيتها ولا حتى طريقة ترتيبها، بل ربما أعتقد أني أوقعت عدداً منها عندما حصرتها بـ العدد 15.

نعم هكذا قررت ألا أصنع ذاكرة مع منفاي عندما وصلت، وخلقت تعريفاً واضحاً في رأسي... كلّ مكانٍ نظيف فوقه سقف كان بيتي، وبسخرية كنت أضيف: "وأعرف كلمة مرور الإنترنت فيه"...

لم أرد إقامة علاقة حقيقية مع أي مكان، فذلك سيجعل الرحيل أسهل، لا حنين ولا وجع...

لقد صرفت كلّ ما أملكه على دمشق، قتلني حنينها وخنقني لدرجةٍ أني لم أعد قادرة على حنين آخر.

استغرقت حياتي كسائحة في بلدي الجديد أكثر من 5 سنواتٍ من عمري، لم أقتنع خلالها بأنني غادرت دمشق، وأن برلين مدينتي الجديدة التي سأكتب عنها وأحنّ إليها...

كنت أصرّ دائماً على استئجار منزلٍ مفروش، أحدهم وضع أغراضه فيه على ذوقه بطريقةٍ تعنيه ولا تعني لي. لم أكن أريد أيّ تدخل، أيّ تفصيلٍ أو زيادة من قبلي سوى الأشياء الضرورية، مايكرويف مثلاً أو مرآة للحمام، لا أدري لِمَ يحملها الألمان معهم عندما ينتقلون من منزلٍ إلى آخر.

في منازلي المختلفة لم أعلق صورةً لوالدي، حتى أني لا أملكها أساساً، ولا صورة للحظاتي الجيدة هنا أو هناك، كانت غرفي ومنازلي السابقة أشبه بغرف سكنٍ جامعي أو فندق على أحسن تقدير. تمنحني دائماً شعوراً بأن الإقامة فيها مؤقتة، وتذكرني بأن موعد الرحيل قد حان، قبل أن أتعلق بأي شيء يشدني من بنطالي عندما أقرر الهروب.

بنيت حياةً في العاصمة الألمانية برلين كان عمرها سنة ونصف عندما ببساطة هدمتها لأبني أخرى في مدينة بون الألمانية، حيث اضطررت للانتقال دون أن أحزن على شيءٍ تركته خلفي سوى بعض الأشخاص الذين أرغب الآن لو لم التقهم البتة.

حملت الطوبة الأولى لبناء حياتي في بون، وكالعادة رسمت حولي شكلًا يشبه الحياة، لكنني لم أفكر للحظة عندما اضطررت مجدداً أن أهدمها وأعود إلى برلين بعد عام واحد. 

هكذا... حقيبة ملابسي وأنا، ننتقل عبر قطارات هذه البلاد دون أي شعورٍ ثقيلٍ بالحنين أو الانتماء.

كنت بمحض الصدفة أو ربما باللاوعي أقيم في أمكنةٍ بيضاء باردة. سريرٌ أبيض، خزانةٌ بيضاء، وسجادة رمادية.

أخلصت للبرودة بغرفي جميعها، خفت من حرارة الخشب ودفء اللون الأحمر، خفت أن يخلق إلفة مع المكان، وأن يجعلني أفكر مرتين قبل أن أغادره، أو ألا يسمح للمكان بمغادرتي!

كانت هذه آليتي الدفاعية لحماية نفسي، لقد فعلتها بدمشق كذلك بعد الخسارات التي تعرضت لها هناك. فبقيت لسنواتٍ أبيت في غرفة الجلوس رافضةً دخول غرفتي، كي لا أشعر أن لدي مكان لا يمكنني مغادرته عندما كنت أنتظر الرحيل.

لطالما أعلنت كرهي للكتل الإسمنتية السوفيتية التي تركها البعث واشتراكيته في سوريا، كرهت الأبنية الرمادية المتسخة للمقرات الحكومية هناك، وحتى ما تغنت به دمشق من أبنيةٍ لفنادق فخمة. كرهتها كلها...

كانت بشعة، وفزعت عندما وجدت مثيلاتها في برلين، كذلك كرهت غرف الفنادق ورتابتها غالباً، رغم ذلك حافظت على شكلها في بيوتي، وتعلمت كيف يمكنني تغيير ذلك عبر كلمةٍ سحرية: "عرق أخضر".

سمعت هذا التعليق من كافة زواري: "عليكِ إدخال الحياة إلى منزلك، عليكِ شراء نباتات". 

علمت ذلك لكني استصعبت الأمر، فهذا يعني مشاركتي هواء الغرفة نفسها مع كائنٍ حيٍّ آخر، وما يعني أنني يجب أن اعتني بها، أن أتعلم طرق سقايتها، وأوقات تقليمها، والأدوية التي يجب أن أزودها بها، وكيف يجب أن أحتال على غياب الشمس هنا لأقاوم موتها.

كل هذا قرأته بطريقةٍ واحدة، مسؤوليةٌ جديدة...

لم يكن من حولي يعون ما الذي يعينه إضافة هذا إلى عالمي، يعني ساعاتٍ أخرى من الـOverthinking "التفكير الزائد" والـAnxiety "نوبات القلق"...

ساعاتٌ من التفكير بمن سيرعاها بغيابي؟ من سيسقيها بحال سافرت؟ هل يجب أن أحملها معي؟ هل ستبقى على قيد الحياة؟ ماذا لو لم أستطع حمايتها؟ ماذا لو لم تتحمل البرد الشديد؟ هل ستحب منزلي؟ هل سأحبها؟ هل ستموت يوماً ويبقى مكانها فارغاً؟

أسئلةٌ قد تبدو تافهة لكنها كانت حاضرة بكل مرة أقف أمام النباتات في محلات النباتات وينتهي بي الأمر بشراء نباتاتٍ اصطناعية تعطيني اللون لتجميل حياتي لكن لا مشاعر تجاهها، ولا تحتاج لرعاية، والأهم لن تتركني.

 استغرقت حياتي كسائحة في بلدي الجديد أكثر من 5 سنواتٍ من عمري، لم أقتنع خلالها بأنني غادرت دمشق، وأن برلين مدينتي الجديدة التي سأكتب عنها وأحنّ إليها... بقيت أخشى أن أحبها كي لا تغادرني كما فعل جميع من أحببت من مدنٍ وأشخاص، وأخذت أصبح أكثر استعداداً للحظة التي ستخذلني فيها، رسمتها وكررتها برأسي عشرات المرات، حتى إني بكيت سلفاً عليها كأنها حدثت بالفعل.

إلى أن حانت لحظة انهيار العالم، ووضعنا تحت الإقامة الجبرية في منازلنا خلال الجائحة... لم يكن أمامي من مفر، جميع طرقي لأهرب من بناءٍ عالمٍ حولي لم تعد صالحة. كان عليّ أن أمارس أكثر من النوم في منزلي، كان عليّ أن أطبخ وآكل وأعمل وأن أبحث عن التسلية في غرفةٍ لا تتجاوز مساحتها الـ30 متراً، كان عليّ أن أواجه أكبر مخاوفي، الاعتراف بالاستقرار والتوقف عن الهرب من عالمي الجديد. لم يكن علي أن أبني عالماً صالحاً للعيش فقط، بل أن أحبه، وأعتاد عليه رغم عدم حتمية رحيله.

بدأت ببناء عالمي الجديد، لم يكن ينقصه سكاكين أوملاعق أومعدات الطبخ فقط، بل كان ينقصه أن يكون منزلاً، كانت تنقصه الحياة.

اكتشفت أن لا ستائر لدي، ولا ذكرياتٌ معلقة. 

جلبت لوحاتي من دمشق، أرسلتها أمي مع آخر رحلةٍ وصلت إلى أوروبا قبل إغلاق المطارات، غيرت ديكور المنزل، جعلت منه مكتباً وبيتاً ومكاناً لصنع ذكرياتٍ جديدة.

زاد من حماستي وقتها دقات قلبي التي بدأت تعلو، فشغلتني بضجيجها عن صمت الجائحة، رحت أستسلم للتفاصيل أكثر، ولفكرة بناء عالمٍ راسخٍ، شعرت بأن لدي عائلة، وبدأت بالفعل البحث عن مكانٍ أكبر.

فزعت من قدرتي الهائلة على خلق نوبات قلقٍ في حياتي. تعيدها ورقةٌ خفيفة كتب عليها "to do list"

عن سابق إصرارٍ وتصميم، لم اختره بارداً،  ورغم أني أميل للذوق الحديث بالأثاث، جعلته أقرب للكلاسيك بخشبٍ بني دافئ. حرصت على أن يكون لمنزلنا الجديد، الذي تبين أنه منزلي فقط، شرفة واسعة، لأضع فيها زائراً جديداً... نباتاتي.  إذ قررت أن الوقت حان لأدخل مسؤوليةً جديدة في حياتي، فلم أعد وحدي.

توجهت إلى السوق واشتريت 5 نباتات صبار صغيرة، أردت اختبار نفسي وتدريبها على العناية بأقل النباتات حاجةً للعناية، كان لصباراتي الخمس زهراتٌ ملونة، وضعتهن في أصيصٍ خشبي أمام النافذة. 

أول شهر، حرصت عل سقايتهن كل أسبوع، بعدها ومع انفصال مدوي ومشاكل لحق بي ذلك الشتاء وجعل حياتي تهتز من حولي، أصبح أمر سقاية الصبارات مهمة إضافية  لأم محمود، التي تساعدني بتنظيف المنزل، وفي كل المرات التي تزورني بها والتي تتباعد أكثر من أسبوعين أحياناً، كانت تمسك الصبارات اللواتي أهملتهن، تضعهن بالحوض، تسقيهن، وتوجه كلماتها إليّ قائلةً: "الناس بتجيب صبارة لأنو ما بتعطش، إنتِ عطشتِ الصبارة!!.. يا ويلك من الله".

غابت أم محمود لأكثر من شهر، بينما ماتت صباراتي بمفردهن في زاوية الشباك.

حتى أني لم أكلف نفسي عناء إزالة رفاتهن، وانتظرت زيارتها البعيدة.

قد قتلت الصبارة... هكذا عن سابق إصرارٍ وتصميم، تخليت عن مسؤوليتي وقررت أن أكون أسوء أمٍ بالعالم. لكن كلمات أم محمود لم تمر مرور الكرام عليّ، جعلتني أشعر بأني ارتكبت جريمةً لا تغتفر. لم تشفع لي عندها كآبتي التي تراني أنثرها حولي، وإهمالي لمنزلي لدرجةٍ جعلتني أحتاج مساعدتها، وبختني كثيراً على عطش صباراتي في وقتٍ لم أقو على القيام من السرير لأروي عطشي أنا.

جعلتني أم محمود أراجع قراراتي بحزم. وأتشبث بخياراتي التي لم أكن أعرف مصدرها.

بدأت أقتنع أكثر بأني لا أريد أن أكون أمًّا، أقتنعت أني لا أصلح كأمٍ لأحد.

لكني فزعت من قدرتي الهائلة على خلق "نوبات قلقٍ" في حياتي. تعيدها ورقةٌ خفيفة كتب عليها "to do list".

في البداية خجلت أن أسأل معالجتي النفسية عن كل هذا، بل خجلت أن أصيغ السؤال هكذا: "لماذا قتلت صباراتي؟".

بعد عشرات الجلسات، ومئات القصص مع معالجتي النفسية، اكتشفت أنني أعاني من "اضطراب الشخصية الاعتمادية"...
أنا، بكل ما أتمتع به من استقلالية مزعجة، لدي شخصية اعتمادية؟

تجرأت وسألت السؤال الذي أوصلني بعد عشرات الجلسات، ومئات القصص التي استُحضرت فيها، لأكتشف الإجابة... أنا أعاني من "اضطراب الشخصية الاعتمادية".

صعقت عندما سمعت التشخيص...

أنا، بكل ما أتمتع به من استقلالية مزعجة، لدي شخصية اعتمادية؟

لم أطلب العون من أحد مادياً أو معنوياً، حتى قبل مغادرتي دمشق لم أسأل أهلي لمساعدتي حتى بمصروفي عندما كنت طالبة، اعتمدت على نفسي بكل شيء... حملت صديقاتي إلى منازلهن سكارى بينما بقيت يقظة بعد معظم الحفلات كي لا أحتاج أحداً، اشتريت سيارتي الأولى بمفردي، أخذت قرارات حياتي كلها لوحدي، حتى أكثرها مخاطرةً، عشت في غربتي لوحدي ولم يكن بجانبي سوى نفسي.

أخبرتني معالجتي أن هذه الاستقلالية عبارة عن شخصيةٍ طورتها على مدار السنوات، لأحارب بها حاجتي للآخرين، لكنها كلفتني كل ما أملك من طاقة لازمة لمتابعة يومي.

جعلني هذا التفسير أكثر ارتياحاً مع نفسي، إذ علمت سبب عدم تعلقي بمنازلي، ولماذا كنت أجعلها غرف فنادق لا أكثر.

فأحد أعراض اضطرابي هو الهرب خوفاً من الفقد، وتوصلت لتحليلٍ مفاده أن ما تبقى لدي من اعتمادية هو من كان مسؤولاً عن خياراتي الخاطئة بانتقاء الأشخاص الذين أدخلهم إلى حياتي.

إذ لم أدخل من كانوا قادرين على الاعتناء بي بالشكل الصحيح، أو إرشادي لفعل ذلك على الأقل، كلهم زادوا مشاكلي، وحملوني ما لا طاقة لي به.

عندها فقط حللت لغز القلق الذي حملته الصبارات. وسامحت نفسي عندما عرفت أني قتلت الصبارة عن غير قصد...


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image