هامبورغ مدينة باردة شتاءً. وككثير من مدن شمال ألمانيا، يغلب عليها اللونان الرمادي والأزرق في هذا الفصل، الذي يصفه البعض بأنه "كئيب للغاية"، و"مصدر للوحشة".
وسط هذه المدينة التي تشتهر بكثرة قنواتها المائية، وهي أكبر ميناء في البلاد، كان من الصعب أن أتخيّل وجود مساحةٍ ملوّنةٍ، مليئةٍ بتفاصيل مغرقة في "دمشقيتها". مساحة تبدأ بباب خشبيّ أبيض ذي نوافذ زجاجية صغيرة، عُلّقت وسطه لوحة دمشقية ترحب بالزوار، وتُفضي إلى غرفةٍ تعبق برائحة "الشام"، وألوانها، وصورها.
"أهلاً بكِ في مرسمي الصغير"، يقول لي الفنّان التشكيلي السوري بطرس المعرّي، بابتسامةٍ مقتضبةٍ. يخبرني بأنه "يعيش هنا، في هامبورغ، منذ نحو عشر سنوات، من دون شفتين، ومن دون عينين، ومن دون فتحتي أنفٍ أيضاً، ومن دون أذنين، كما من دون ذراعين". لعلّه السرّ في قدرته المدهشة على استحضارٍ يوميٍّ ثقيلٍ ومكثّفٍ لمئات التفاصيل من المدينة التي يحبّها، ويشتاق إليها كثيراً، دمشق، والتي يقول عنها في كتابه الأخير "رؤيا الدمشقي – قصص الخوف ورسوماته": "ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله، وخسر الشام؟".
"خميرتي هي دمشق"
في جعبة بطرس المعرّي، المتخرّج من كلية الفنون الجميلة في دمشق عام 1991، باختصاص الحفر والطباعة، تاريخ طويل من اللوحات والرسومات والكتابات، هو الذي اشتهر بأسلوبٍ تشكيليٍّ يمزج التراث والفن الشعبي، والكتابة مع اللوحة، مع الانتقال بينهما بسلاسةٍ، ما يدفع البعض إلى تشبيهه بالـ"حكواتي". إلى جانب عشرات اللوحات، وعددٍ من كتب الأطفال، أصدر في الأعوام الثلاثة الأخيرة كتابَين هما "كيوبيد الدمشقي"، و"رؤيا الدمشقي"، ونقرأ فيهما نصوصاً عن الحبّ والحرب والحنين والحزن، تتداخل بشكلٍ مدهشٍ مع رسومٍ بالأبيض والأسود، ومعاً تعبُر بالقرّاء، بكلّ سلاسةٍ، بين أزقّة الشام وحواريها وحكايات سكانها، أو بالأحرى من بقي منهم.
"ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله، وخسر الشام؟"، يقول بطرس المعرّي، ملخصاً حنينه لدمشق.
يشبّه المعري ذاكرته بأنها كاميرا كانت قادرةً على التقاط آلاف الصور، وتخزينها في الأرشيف. واليوم، وبعد اغتراب مدّته 20 عاماً عن سوريا، قضاها في دراسة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا الاجتماعية في باريس، ثم الانتقال إلى العيش في هامبورغ، تخرج هذه الصور بالرسم والكتابة.
على أحد جدران المرسم، لوحة كبيرة تبدأ من الأعلى بجبل قاسيون، وتمتلئ بعباراتٍ هي ذاكرة سكّان دمشق، وعلى الأخص عن أحيائها القديمة التي يحبّها المعرّي كثيراً، وتفوح منها في النهاية رائحة مأكولاتٍ شعبيةٍ على عربات جوّالة: الذرة المشويّة، والفول النابت، والفلافل، والعوّامة. لوحة أخرى أصغر قليلاً تصوّر جبل قاسيون أيضاً مع الجامع الأموي، والباب الشرقي، وبعض نقاط المدينة الأخرى المعروفة، وكتب أعلاها: "يا شام".
يقول المعرّي: "لا يتعلق الأمر بالحنين فحسب، وإنما بمكانٍ عشت فيه نحو ثلاثين عاماً، وتالياً شكّل وعيي ومعرفتي بالحياة، بما فيها من ذاكرة بصريّة وحسّية. في نهاية المطاف، ما أعرفه من مأكولات ومشروبات وروائح، وكل الأمور التي تشكّل ‘خميرة’ عمل الفنّان، معظمها مرتبط بسوريا، وعلى الأخصّ دمشق حيث عشت ودرست، وصيدنايا، وهي المدينة التي أنحدر منها في ريف دمشق".
هذا الارتباط، برأي الفنان، ضروري إن أراد أن يخرج فنّه بتفاصيل أصيلة تشبهه، وتشبه ما يشعر به ويفكّر، وهو ما يدفع كثيرين من متابعيه للاعتقاد بأنه لا يزال حتى اليوم مقيماً في سوريا، إذ يصعب التصديق بأنه قادر على استحضار كل هذه التفاصيل، مع وجود كل هذه المسافات التي تفصل اليوم بينه وبينها.
التوثيق في زمن الخسارات
من زاوية نظرٍ أخرى، تبدو أعمال بطرس المعرّي أيضاً وثيقةً تسجّل تفاصيل مدينة أنهكتها الحرب، وغيّبت الكثير من ملامحها، سواء لدى سكّانها، أو لدى من غادروها ليعيشوا في مكانٍ آخر.
"منذ أكثر من عشرين عاماً بدأت بدراسة موضوع التصوير الشعبي، وبالعمل على لوحاتٍ تتضمن تفاصيل من دمشق، باستخدام قلم الرصاص والحبر الصيني، وكان لأعمال فنانين منهم أبو صبحي التيناوي، وبرهان كركوتلي، أثر كبير على عملي في تلك المرحلة"، يقول. وبالفعل، لا تصعب ملاحظة تلك التفاصيل البسيطة والحميمية التي تمتلئ بها العديد من أعمال المعرّي، كتلك الحكايات التي لا تحدث إلا في حارات دمشق الشعبية، والأغنيات البسيطة المحفورة في ذاكرة سكّانها: "يا شوفير دوس دوس، الله يبعتلك عروس"، أو "بتحطّك أمك بالكيس، وبتقلّك بيس بيس"، والعبارات التي لن يعرفها إلا من عاش فيها: "مين ما حاسب؟"، "اسناول، ‘خذ’ منه زكاتك"، "عبّي لنا زبدية معلم".
لا يتعلق الأمر بالحنين فحسب، وإنما بمكانٍ عشت فيه نحو ثلاثين عاماً، وتالياً شكّل وعيي ومعرفتي بالحياة، بما فيها من ذاكرة بصريّة وحسّية. في نهاية المطاف، ما أعرفه من مأكولات ومشروبات وروائح، وكل الأمور التي تشكّل ‘خميرة’ عمل الفنّان، معظمها مرتبط بسوريا
ومع إحساسه بأهمية الأمر، بشكلٍ خاص في السنوات الأخيرة، استمرّ المعري في مشروع التوثيق من خلال فنّه: "محاولة لحماية ما أخاف من أن نخسره من خلال الحرب"، كما يقول.
ويتضمن هذا التوثيق، إلى جانب اللوحات والكتب، مجموعة رسوماتٍ ينشرها بشكلٍ شبه يوميّ على صفحته على فيسبوك، منها سلسلة أطلق عليها اسم "أبو عذاب أند فريندز"، وتضمّنت شخصيات مختلقة استهدف من خلال رسائلها الساخرة والهادفة طلّابه في كلّية الفنون الجميلة وأصدقاءه، كمحاولةٍ لتخفيف الاحتقان والشرخ الكبير الذي ظهر في المجتمع السوري مع بداية الصراع، وانتقل في ما بعد من خلالها للحديث عن قضايا اللجوء والاندماج التي تشغل بال آلاف السوريين في أوروبا، مع نشره لها أيضاً في مواقع عربية عدّة، بعضها مخصّص للسوريين والعرب في ألمانيا. ومن الجدير ذكره أن هامبورغ، وهي ثاني أكبر مدينة في ألمانيا، تضمّ جالياتٍ عربيةً عدّة، منها السورية والعراقية واليمنية والفلسطينية والمغربية.
ومؤخراً، بدأ المعرّي بالعمل على سلسلة أعمال غرافيكية جديدة، يحاكي من خلالها، بأسلوب "الكوميكس"، تفاصيل سورية قديمة وجديدة، بأسلوبٍ ساخرٍ ولطيف، وباستخدام شخصيات مغرقة في "دمشقيتها"، وهي القطّ "فوزي"، والسيدة "جورجيت"، وصديقهما "أبو بريص"، والقطّة "شويكار". "أتّجه من خلال هذه السلسلة نحو النكتة الخفيفة البعيدة عن التنظير، عبر خلق شخصياتٍ محلية لكلٍّ منها صفات محددة، وفي الوقت نفسه في كلّ واحدة منها شيء صغير منّي، ومن شخصيتي"، يضيف مبتسماً، مشيراً إلى أن هذه الأعمال تساعده أيضاً في الترويح عن نفسه، وعن الآخرين، "فنحن اليوم بحاجة إلى أن نبتسم وننسى همومنا اليومية أكثر من أيّ وقتٍ مضى".
هنا، قد تغلب أحياناً أهمية "الرسالة" على "القيمة الفنية" وفق تعبيره، فالمهم في هذه الأعمال أن تصل الحكاية، وليس أن يُظهر براعته كفنان، على الرغم من أنها واضحة من دون شك، خاصةً وأنه ينتج كثيراً من هذه الرسومات بسرعة، كردّ فعلٍ على حدثٍ معيّن يرى ضرورة الحديث عنه، والتعليق عليه. تغدو الرسالة هنا أيضاً حول رهانٍ يسعى المعرّي إلى أن يكسبه، بتقريب الفن من الناس، وكسر الرهبة التي يشعر بها كثيرون تجاه صالات العرض، والفن النخبوي الذي يعجز في كثير من الأحيان عن الوصول إلى المتابعين.
هذا ما أنا قادر على القيام به، وتقديمه من خلال فنّي. أحياناً أشعر بأنني وحيد، وأتساءل عن أهمية ما أقوم به وسط كل ما يحدث اليوم في سوريا، لكن ردود أفعال الناس المشجّعة تعطيني دافعاً قوياً، كأن تقول لي سيّدة إنني رسمت البسمة على وجهها، على الرغم من الوضع الصعب
"نحمي أنفسنا وذاكرتنا"
"في نهاية المطاف، هذا ما أنا قادر على القيام به، وتقديمه من خلال فنّي. أحياناً أشعر بأنني وحيد، وأتساءل عن أهمية ما أقوم به وسط كل ما يحدث اليوم في سوريا، لكن ردود أفعال الناس المشجّعة تعطيني دافعاً قوياً، كأن تقول لي سيّدة إنني رسمت البسمة على وجهها، على الرغم من الوضع الصعب، أو أن أعلم بأن أشخاصاً من خلفياتٍ وآراءٍ مختلفة يتابعونني، وتعجبهم أعمالي. ربما هي وسيلة لتقريبنا من بعضنا مجدداً"، يقول الفنان، ويشير إلى سعادته بقدرته على إضحاك الناس، والتخفيف عنهم، وأيضاً رواية بعض ما يفكّرون فيه، "كجزءٍ من واجبنا بأن نشعر بمعاناة بعضنا البعض".
أسأله إن كان بأعماله هذه، يحمي نفسه من برد الغربة؟ يجيب بتروٍ، وبابتسامة مقتضبة: "ذات مرة ذهبنا إلى مراسم دفن والد أحد أصدقائنا هنا في هامبورغ. انتابني إحساس بأن المكان بارد، وتمنّيت لو كان بإمكاننا دفنه في سوريا، فهناك على الأقلّ الشمس أكثر دفئاً، والناس يعرفون بعضهم. هنا أشعر بأننا معلّقون، لا أرض ثابتة لنا، ونعيش الكثير من الأسئلة التي لا إجابة عليها، وفي الوقت ذاته نبقى معلّقين بأسئلةٍ يعيشها أهلنا في سوريا، في معاناتهم مع تفاصيل الحياة اليومية، وسعيهم إلى تأمين مستلزماتهم، من دفءٍ وطعامٍ ووقود".
إذاً، هي آلية للدفاع عن النفس، ومحاربة الكآبة، وفق تعبير المعرّي، في مجتمعٍ لا مكان للتواصل الحميمي فيه، كما هو الحال في سوريا. يختم: "لا أدري إن كنّا بذلك نذكّر أنفسنا، أو نحمي أنفسنا، ما يهمني هو أن نستمرّ في الحديث عن دمشق، بكلّ ما فيها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...