شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
يسألوننا عن الأسباب وهم صانعوها

يسألوننا عن الأسباب وهم صانعوها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحقيقة

الأحد 12 نوفمبر 202311:10 ص

لا أفهم كيف للقهر أن يولد أي شيء سوى المقاومة. هل يعقل أن يكون السجين، الذي لا يتفاوض معه سجّانه ولا يملك من الخدع ما يُنسيه سجنه وقهره، راضياً أو سعيداً؟

وهم الرضا والتراضي وهم كبير، تؤطره المظاهر والاحتفاليات بتشوهات العالم المتعجل لإعلان المباركة والتهنئة لمراكز القوة فيه. ما تؤول إليه الأمور في الواقع ليس شرطاً للتراضي على انتهاء حقبة أو مشكلة معينة أو تخطيها، ما أكثر الحالات والعلاقات والسياسات المبنية على عنف وقهر ونهر طرف لطرف آخر، كون العالم اعتاد هذا السيناريو لا يعطيه شرعية إنسانية معنية بالعدل والمساواة. المقاومة في أساسها ما هي إلا انعكاس في مرآة لعنف الاستعمار.

التراضي في شكل اتفاق غير متكافئ كأداة سياسية هو في أصله خدعة، خدعة متعجّلة للمضي بعيداً عن الإدانة. كتبت أودرا سيمبسون في 2017، أن "تحليل الاستعمار الاستيطاني يؤكد لنا أن ما يتناوله لا يفضي إلى الانتهاء من شيء، وأن الأسس القمعية تظل قائمة حتى بعد إبرام الاتفاقيات"، وأن في المفهوم المركزي لسياسات العالم التي أسستها حضارات قامت على الاستعمار الاستيطاني، ضمن أشكال أخرى من الاستعمار، دائماً تطمح إلى طي تلك الفصول من التاريخ.

عندما كنت أسمع أفراد عائلتي يتحدثون عن الحروب التي تلت الوعي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية، كنت أُطمئِن نفسي أن من عاشوا تحت الاحتلال بأشكاله لا يمكن أن يسمحوا بهذا النوع من الدمار مرة أخرى، ولكن يبدو أن نزعات الاستيلاء والعداء لم تنهها الحكمة

وفي كل مساعيها تحتم على جميع الأطراف أن تكون السرديات المعاصرة في إطار تواريخ قريبة، منتقاة ومنزوعة من العمق التاريخي الطويل، فماذا عن الشعوب التي تأبى أن تختزل نضالاتها في لحظة منتقاة في معزل عن التاريخ الطويل؟ ماذا عن واقع النضال المستمر تحت وطأة تصفية وتحرّش لا يتوقفان؟ وماذا عن رفض الشعوب للرعونة والاستقواء والتعالي؟ هل إطار التراضي السياسي المغشوش والمهيمن لا يمكن إعلان رفضه ومسائلته؟ وإذا كانت مساءلته صعبة المنال، إذن ماذا عن الرفض؟ ماذا عن جوانب الفوضى أثناء الرفض المحاصر بالعراقيل من كل النواحي؟ ماذا عن الإحباط الذي يكون مسعاه أن "لازم كل مرة تبلش من نقطة الصفر"، كما قال سامي أبو شحادة، الأكاديمي والسياسي الفلسطيني وعضو الكنيست السابق في حديثه مع الكاتب بلال فضل يوم 30 أكتوبر 2023.

يقدم إلينا كُتَّاب التاريخ من المنتصرين فصل "التعلّم مما سبق" على أنه الأهم، من أجل إقناع جمهور شعوب الأرض العريضة بتخطي الأحداث الجسام وانتهائها لكي نتماشى مع ما هو قادم، حيث كل معاصر يبدأ بـ "أما بعد". الحرب العالمية الثانية، بدمارها وبشاعتها، أتت بعهد جديد بدا وكأنه وعي جديد للعقل الأوروبي الذي يحاول معالجة نفسه، مما طوره من فكر فاشي شرذم العالم ونهب موارده وأذل بشره في جميع مناحي الأرض من وجهة نظر معينة، وأصبح مرجعية للظلم بنكهته الخاصة.

عندما يحدثنا الإعلام الغربي بصيغة المجرم التائب فنرفض هذا الدور، يتم الادعاء بأننا ننكر ميثاق ما على إثره تأسّس نسق سرد الأحداث بالطريقة العنصرية البيضاء، وعليها السياسة والقانون والخطاب. نعم نرفض، نرفض أي موضع يشترط النسيان، أليست هذه هي دعوة كل مستعمر؟ أن ننسى لكي نمنحه استعراضاً لمصداقية صك الغفران الذي أعطاه لنفسه؟ وأليس تصدير الشعور الأوروبي التاريخي بالذنب تجاه احتقار اليهود في كيان إسرائيل، ترحيل لذلك القبح الذي تحوّل لوحش في ذات إسرائيل، وبدل أن ينتقم منهم، هم قاتلوه وحارقوه ومحتقروه تاريخياً، ينتقم منا بدلاً عنهم لأننا نعكر صفو الوعد المأفون الذي يبني عليه عقيدته؟

دُفِع الفلسطينيون/ات إلى حلبة الانتقام ككبش فداء لأوروبا، وهي ليست بسياسة غريبة على حكومات "متقدمة"، عهدت فبركة القوانين لكي تستمر في احتقارها للشعوب الأصلية المنهوبة وتصفيتها في بقاع الأرض المختلفة. ألم تطوّر الحكومات الغربية، التي استعمرت واستوطنت جغرافيا شعوب أخرى، وحاولت إخضاع هذه الشعوب داخل نطاقها الجيوسياسي، منظومة لنبذ هؤلاء الآخرين بصفة شبه دائمة؟

فلنمتثل بقانون "blood quantum" (مقدار الدم الأصلي) في الولايات المتحدة الأمريكية. هذا القانون يحدّد بُعداً بيولوجياً طورته الحكومة الأمريكية من أجل أن تتآكل تدريجياً المعاهدات التاريخية المشوهة التي أبرمتها مع سكان أمريكا الأصليين عبر الزمن. تمسك سكان أمريكا الأصليين بالمعاهدات التي أصرّوا عليها لإنهاء الحرب الاستيطانية، بالتمسّك بالحق في رفض المواطنة في حكومة المستعمر الفدرالية والعيش خارجها بحكومات خاصة. من أجل الانتقام من السكان الأصليين، اشترطت الحكومة الأمريكية ثمناً لهذا الرفض، يحدّده الطب عن طريق نسبة تطابق ما من العنصر الوراثي. ولاستكمال عنف تلك المنظومة العنصرية التي لاتزال قمة طموحها هي أن تندثر نسبة الصفات الوراثية تدريجياً عن طريق الاختلاط بأعراق أخرى، فحينها تضع يدها على المساحات الجغرافية المستقلة التي يعيش فيها السكان الأصليون وتخضعهم تحت حكمها كمواطنين.

لا يحق لأي من السكان الأصليين الاستفادة من المدارس والمستشفيات ومراكز الصحة داخل نطاق الولايات المتحدة الأمريكية، فهم مطرودون وعقابهم الصامت الدائم لن ينقطع إلا حين يضعف "مقدار الدم الأصلي" الذي يحاول السكان الأصليون حمايته بأن يحصروا الإنجاب داخل دوائرهم، وهو أمر ليس بسهل.

كتبت أودرا سيمبسون، أن الاعتراف بكل الأطراف هو الهدف من أي قانون عادل، ووصفت هذا الاعتراف بنشوة القانون، فماذا إذن لو غاب هذا المثل الأعلى في مسارات العدالة التي تفترض المساواة؟ أي مساواة والعالم ملئ بالمطرودين الذين واللاتي لا تعتبرهم مراكز القوة ضمن تعريف البشرية؟ هل تجوز المصالحة والتصالح، المرحلة التي تأتي بعد الاعتراف بكل الأطراف؟ وماذا عما نراه من ترقيع وكذب فيما هو مبدئي فماذا عن ما هو فرعي؟

حقاً إذن: لا تُصَالِح، كما كتبها أمل دنقل، فهل يكون الحق حقاً إذا كان "قليلاً"؟ الكذب عنوان لتاريخ الصهيونية، فعبارة بن جوريون بأن فلسطين "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض" هي الأكذوبة المؤسسة. أليس باطلاً ما بُني على باطل؟

هدم صور الحصار حول غزة بالجرافة مشهد مهم في الأسابيع الماضية، لأنه يعيد إلى الأرض انسيابها كما عهدها الفلسطينيون. في نموذج السجن التقليدي، حيث يُنزَع الشخص من محيطه وحياته ليقيد في غرفة موحشة ومقبضة، وتأتيه فرصة كسر باب الزنزانة، يتركها ويذهب بعيداً، ولكن الإقامة الجبرية في معسكرات اعتقال تعاملك كما السجين في جغرافيا حياتك التي تألفها، يجعل من وضع الفلسطينيين المقيمين على أراضي فلسطين المحتلة في زماننا هذا ومنطقتنا، حالة فريدة.

عندما كنت أسمع أفراد عائلتي يتحدثون عن الحروب التي تلت الوعي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية، كنت أُطمئِن نفسي أن من شهدوا العالم وقتها ومن عاشوا تحت الاحتلال بأشكاله لا يمكن أن يسمحوا بهذا النوع من الدمار مرة أخرى، ولكن يبدو أن نزعات الاستيلاء والعداء لم تنهها الحكمة فيما جاء بعد الحروب القديمة. جاءت حروب جديدة على مدار سنوات عمري على الأرض، يُعاد فيها إحياء عداءات قديمة، ويخترع الغرب والشرق عداءات جديدة، في دائرة من الصراعات غير المتكافئة من إهدار أعمار البشر وموارد الأرض في فترات من الانفلات وأخرى من الهدوء النسبي.

وفي وسط هذا وذاك من تحولات، ظلت البقعة المنتفضة بشكل دائم هي فلسطين المحتلة، تبيت وتصبح بجانب وجود صهيوني يتخلّلها، ويظن أن في التحرّش الدائم والوحشي بأهل الأرض الأصليين بطولة وتحقق مصيري. يصافح الصهاينة قاتليهم من أمس، ليبصقوا على الشعب الفلسطيني بنيران الكراهية والقتل، ولا تكل أيديهم عن الانتزاع الدائم منذ 75 عاماً.

تربينا كأطفال في عهد مبارك في مصر في رحاب الطبقة المتوسطة العليا، أن بلادنا "لا تستطيع" و"لا تمتلك" و"مستحيل أن تقدر" و"كفانا" وكأننا أقدمنا على كل التجارب والحلول بحرية ومعرفة وعلم ونقاش، وخرجنا منها كلها بأياد خالية، فتحققت فينا رؤى الاستعمار الإنجليزي بأنهم احتلونا لأننا نستحق الاحتلال، وأنه هبة الزمن لنا.

في كسل وإفك وإجرام تلك العبارات، كان من سبقونا مطمئنين أن الحروب أصبحت وراءنا بعد 1973، ولكن جاءت الحروب من بعدها، أغلبها في منطقتنا، وأثناء الهدوء النسبي والهدر والغدر، كانت فلسطين دوماً تنزف بآفات عهود جديدة وسابقة تحت وطأة الاحتلال الصهيوني. وعلى مدار تلك السنين، يجلسنا قادة الغرب في مقاعد التلاميذ في منابر السياسة، ويسترسلون في محاضراتهم لشعوب الجنوب العالمي المتلعثمة بمصطلحاتهم المفرغة في ظل مقاومتنا المبتسرة، ويسألونا باتهام عن دورنا في تحمل مسؤولية إشعال الفتيل.

يريدون منا إدانة أنفسنا بحسب التاريخ الذي يناسب قوى البطش خارجياً وداخلياً. يُفَرَغ التاريخ من محتواه ونبدأ من حيث يشار إلينا، وكأننا في لعبة نسمع فيها الإجابة مسبقاً كي نحاول أن نحزر السؤال. أصبحت إدانة "العدوان" في هذا الفصل الجديد من الحرب على غزّة مرساها السابع من أكتوبر 2023، ولأن حرب روسيا على أوكرانيا ليست بعيدة، اكتشفنا أن رسم المقارنات ليس من الأدوات السياسية المتاح استخدامها لنا، فنحن في ركن في غرفة وبوق الإعلام الغربي موجه نحونا، يردّد أنه لم تكن هناك حياة قبل السابع من أكتوبر، فماذا تقولون؟ ما المبررات؟

نكتشف ما كنا نخافه ونعرفه دوماً ونحاول إنكاره أحياناً، أن العالم يُرسَم كل يوم بدون أن نكون شركاء حقيقين فيه، لا في نطاق المنطق ولا السياسة ولا في القانون العالمي الذي يعاملنا كغرباء، بمساعدة المتخاذلين، وأنه بالتالي لا يسري أي شيء بالتساوي. كل ما كرّرناه على بعضنا البعض من تأهيل لرصد المبرّرات ضمن تكميم أفواهنا وأحلامنا داخل بلادنا وخارجها، مرة بالقمع ومرة بالكذب، يفضي كله إلى منظومة وأسلوب حياة غاية في البؤس، ليتسع هذا الغطاء الذي يتم نسجه، يوماً تلو الآخر، لعزلنا عن دوائر القرار والمصير. وقد كان الشك يحيط بنا أحياناً في هذه النقطة، ولكن في الأسابيع الأخيرة أدركنا بفجاجة أننا لسنا فقط خارج دوائر القرار ولكن أيضاً خارج دوائر المنطق.

أليس تصدير الشعور الأوروبي التاريخي بالذنب تجاه احتقار اليهود في كيان إسرائيل، ترحيل لذلك القبح الذي تحوّل لوحش في ذات إسرائيل، وبدل أن ينتقم منهم، هم قاتلوه وحارقوه ومحتقروه تاريخياً، ينتقم منا بدلاً عنهم لأننا نعكر صفو الوعد المأفون الذي يبني عليه عقيدته؟

التحرّش المتوحش والاستعراض الفجّ للعنف في عالمنا المنافق بعد الحرب العالمية الثانية لم يكن المرجو منه الاستناد إلى التبريرات التي تخضع لمنطق لا يستوعب من التاريخ شيئاً، ولكن كان الأولى أن يعتمد في خطابه مع الطرف الأقوى والمتحرّش بمساءلة ما إذا كان استمرار قانون الغاب حقاً ضرورياً، وما إذا كان ينبغي على العالم الانتهاء من العسكرة الدائمة التي يؤكد لنا من خلالها أننا لم نخرج يوم من الغابة إلا لنزهة قصيرة، ولا يستحب لنا أن نخرج منها، فماذا لنا أن نفعل إن كنا لا نريد العيش في الغابة؟ فأين نذهب بتاريخنا المأزوم، وكيف نحكيه لصغارنا؟ وماذا بعد سلسلة التدمير العنيف الممنهج على مر كل تلك العقود؟

في الحلقة السادسة من برنامج "مطربان حكي" الذي يقدمه زوجي، شاهدته وهو يسأل صديقنا الكاتب والباحث عبدالله البياري، عن كيف نشرح لأطفالنا ما يجري الآن في غزة؟ تصور عبدالله أنه يخاطب ابنته ويشرح لها أن الشعب الفلسطيني واقع تحت مظلومية، وأنه يقاوم كما يفعل البشر، و أننا "في لحظة متطرفة ومجبورين نقاوم".  

بناء العلوم السياسية المتأسس في العقل الأوروبي يسكن "لخدعة السياسة السهلة" التي تفترض أن كل من مارس جبروته على السكان الأصليين للمناطق المختلفة في العالم، لو اختلفت السردية ووفيت شروط المساواة والتراضي، لكانوا الُمستَعمَرين وافقوا على نهب أرضهم وثرواتهم وأرواحهم. هذا ما يصدقه ويمارسه حكام الشمال العالمي، وما يحدثنا به إعلامهم الذي اتخذ من الكذب السبيل الأساسي في الحديث عن فلسطين.  

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard