في ثمانينيات القرن الماضي، طُلب "أبو لطفي" (اسم مستعار)، للخدمة العسكريّة الإلزاميّة، أو ما يُعرف في الأردن بـ"خدمة العلم"؛ إذ كان يبلغ السادسة والعشرين من عمره، ولم يكن خاضعاً للشروط التي تستثنيه من الخدمة، كأن يكون وحيد والديه أو وحيد أحدهما.
يقول لرصيف22، إن الخدمة كانت إلزاميّةً لسنتين، تعلموا خلالها حمل السّلاح والمشية العسكرية والانضباط وتوزعوا في مناطق مختلفة. إلا أنَّ الرجل الذي جاوز الستينات من عمره الآن، يرى أنه أضاع سنتين من عمره في هذه الخدمة؛ لأنه لم يستفد منها حتى الآن، على عكس الأوضاع الراهنة التي دفعت بأصوات نيابيّةٍ وحزبيّة للمطالبة بإرجاعها إثر العدوان الإسرائيليّ على قطاع غزة.
خدمة العلم والجيش الشعبي
طالب عضو كتلة الإصلاح النيابية التي تضم نواب حزب جبهة العمل الإسلاميّ، النائب ينال فريحات، بتجهيز الشعب الأردني من أجل أن يكون الرديف للجيش العربي في الدفاع عن بقاء الأردن ووجوده عن طريق عودة خدمة العلم والجيش الشعبي.
تلك المطالبة لم تكن خاصةً به تحت قبة البرلمان الأردني، بل امتدت ليحملها معه في المظاهرات الشعبيّة، لعدّه بأن الحراكات لا تُعدّ عبئاً على الدولة، وإنما هي سند لها ودعم لموقفها، قائلاً: "بعد غزة جايينا الدور حتماً".
يقول المؤرخ بكر المجالي، في مقال بعنوان "خدمة العلم... موجز في تاريخها"، إنَّ نظام التجنيد الإجباري كان "يعتمد على أخذ الشباب ممن هم في سن الخدمة المطلوبة من أي مكان قد يصادف وجود ذلك الشاب فيه سواء في حافلة أو مقهى أو في الشارع"، وهو ما جعله يصفه بالنظام الذي "لا عدالة فيه"؛ إذا كان الشُبّان يتبعون أساليب عديدةً للتحايل عليه مثل التلاعب بالأسماء.
ويتابع أنَّ الضرورات هي ما أوجدته، فالقوات المسلّحة رُفدَت بالمجندين، خاصةً في فترة الستينيات حين كانت الجبهة الأردنية مع العدو مشتعلةً باستمرار، والأخطار تحدق بالبلاد من أكثر من جهة.
وشهد الجيش -آنذاك- نقصاً في أعداد الملتحقين به، خاصةً من الاختصاصيين كالأطباء والمهندسين، وفُتحت فرصة خدمة العلم لأربع سنوات، مقابل رواتب كاملة، كتشجيع للشباب، بدل خدمة السنتين براتب رمزي.
لماذا تم تأجيل الخدمة العسكريّة الإلزاميّة في الأردن منذ عام 1992 وحتى الآن؟
سريعاً عن خدمة العلم
عام 1966، صدر قانون التجنيد الإجباريّ الذي شمل الشبان غير العاملين، وبعد حرب حزيران/ يونيو عام 1967، سُنّ قانونٌ مؤقت لخدمة العلم الإلزامي، بدأ تطبيقه عام 1976، واستدعي للخدمة كل شاب (من الذكور)، بلغ الثامنة عشرة من العمر، ابتداءً من مواليد عام 1958. وفي عام 1986، صدر قانون خدمة العلم والخدمة الاحتياطية رقم (23) ليحل محل القانون المؤقت.
وفي عهد حكومة زيد بن شاكر، عام 1992، تقرر وقف العمل بقانون خدمة العلم، الذي ذكّر النواب حينها بالفرق بين الأحوال في منتصف السبعينيات وأوائل التسعينيات من حيث الحاجة والنظرة إلى التجنيد.
وعام 2020، قررت الحكومة الأردنية إعادة تفعيل "خدمة العلم" للفئة العمرية بين 25 و29 عاماً؛ وفقاً لقالب جديد يركّز على تنمية مهارات الانتماء والانضباط، بالإضافة إلى اكتساب المهارات التقنية والفنية.
ويقضي المنتسبون مدة الخدمة، وهي 12 شهراً، في معسكرات القوات المسلحة الأردنية، وذلك بهدف مواجهة ارتفاع نسب البطالة بين فئة الشباب التي تزامنت مع جائحة كورونا في ذلك العام، وقُدّمت الخطة في حفل توقيع مذكرة تفاهم بين وزارة العمل والقوات المسلحة.
وتضمنت شروط الخدمة: "أن يكون الشخص من دون عمل، فلا تكون له اشتراكات فعلية في الضمان الاجتماعي خلال السنة الأخيرة التي تسبق تاريخ استدعائه لخدمة العلم، أو أن لا يكون قادراً على إثبات عمله بانتظام خلال السنة الأخيرة التي تسبق تاريخ الاستدعاء بغض النظر عن الاشتراك في الضمان الاجتماعي، وأن لا يكون شريكاً في شركة مسجلة أو مالكاً لمؤسسة فردية، مسجلة لدى الجهات المختصة، فعالة خلال السنة الأخيرة التي تسبق تاريخ الاستدعاء".
وعن هذا يقول الصحافي المهتم بقضايا الفقر والتنمية ودراسات التاريخ الاجتماعي أحمد أبو خليل، إنَّ "من الواضح اليوم أن الاستعانة بخدمة العلم وبالقوات المسلحة عموماً جاءت لأهداف مختلفة، ولا علاقة لها بالتجنيد في الجيش".
ويلفت في مقالٍ له بعنوان "ما الجديد في عودة 'خدمة العلم' في الأردن؟"، إلى أنَّ مشروع وزارة العمل ينطوي على عناصر تمييزية اجتماعية كبيرة، من حيث الفئات المستهدفة، موضحاً أن شروط الشمول سوف تواجه في التطبيق صعوبات كبيرةً وفق المعطيات الميدانية الاجتماعية.
ويعطي أبو خليل مثالاً بتساؤله عن "كيف يستطيع العاملون في قطاع كبير مثل البيع المتجول وإعادة التدوير، والعاملون في مهن هامشية في العتالة والتحميل وعلى البسطات، وقد أمضوا فيها سنوات عديدةً، وبعضها تحول إلى عمل أسري، أسهم في أحيان كثيرة في خروجهم من دائرة الفقر المالي على الأقل؛ إثبات أنهم على رأس عملهم؟".
المصير المشترك
تتحدث الرئيسة الدورية للملتقى الوطني لدعم المقاومة وحماية الوطن، رُلى الحروب، إلى رصيف22، عن إطلاقهم دعواتٍ لخدمة العلم وعودة الجيش الشعبي، قائلةً: "في حال تمكن المشروع الصهيوني من القضاء على المقاومة الفلسطينيّة -لا سمح الله- ثم اللبنانيّة، سيتفرّغ للأردن".
وتتابع أنَّ الشعب غير مدرّب والسّلام مجرد خرافة، خاصةً مع تعامل الاحتلال مع قطاع غزة وارتكابه جرائم حربٍ على مرأى العالم، مؤكدةً: "وجدنا أنَّ مصيرنا لا يختلف عما يحدث في غزة الآن؛ لذا يجب أن ندافع عن أنفسنا".
وتلفت الحروب إلى أنَّ الملتقى تقدّم بهذا المطلب كواحدٍ من تسعة مطالب للحكومة والسلطات الثلاث؛ التنفيذيّة، والتشريعيّة، والقضائيّة، وأنَّ جمع التواقيع على المطالب ما يزال متاحاً.
وكان وزير المالية الإسرائيليّ، بتسلئيل سموتريتش، قد استخدم خلال مشاركته في فعالية في باريس، منصةً مغطاةً بما يبدو أنها نسخة مختلفة من العلم "الإسرائيلي"، تُظهر خريطةً لـ"إسرائيل" تضم حدود المملكة الأردنية الهاشمية، والأراضي الفلسطينية المحتلة، في آذار/ مارس الماضي.
هل تمت الاستعانة بخدمة العلم لتحقيق أهداف مختلفة، لا علاقة لها بالتجنيد في الجيش؟
الأردن في قلب المشروع
وعن هذا يقول الخبير العسكري الدكتور قاصد محمود، لرصيف22، إنَّ الأردن في قلب المشروع الصهيوني، ومن يقف أمام المشروع، المقاومة والديموغرافيا، فإذا دُمرت المقاومة في فلسطين لن يقف أحدٌ أمام "إسرائيل".
ويرى محمود الذي كان نائباً سابقاً لرئيس هيئة الأركان، أنَّ هناك آلاف الشباب المفرّغين من مفهوم الوطنيّة، تزامناً مع نسب الفقر والبطالة العاليّة؛ لذا فإن الخدمة الإلزاميّة مطلبٌ أساسيّ، قائلاً: "قوّتنا في أبنائنا ورجالنا".
ويلفت إلى ضرورة الانتقال إلى خدمة وطنية تحمّل الدولة تكاليف أقلّ وتشكل تأهيلاً وطنياً للجيش بنسبة 30%، وللحكومة بنسبة 70%، ما يعني أنه إذا لم يجد المُتقدم للخدمة مكاناً للجيش يُرسَل إلى الحكومة، وهو ما يساعد على نقل الشباب الأردنيين من السلبية والانحراف إلى المسؤوليّة الوطنيّة.
وفي ما يتعلّق بالجيش الشعبي، يرى الدكتور محمود، أنه مطلوبٌ لاعتباراتٍ أمنيّة، مثل ضبط السلاح الموجود مع الناس، ويخفف العبء الخاص بالحماية والحراسة عن الجيش العربي، ويوجه رسالةً قويةً إلى إسرائيل.
وكان وزير الداخلية الأسبق سلامة حماد، قد صرّح عام 2019، بأن كميات الأسلحة الموجودة مع الأردنيين تزيد عن 10 ملايين قطعة.
وتسببت الأزمة السورية، وفق مسؤولين أمنيين، في زيادة عدد الأسلحة في الأردن، ورفعت منذ بدئها عام 2011 نسبة تهريب الأسلحة إلى المملكة إلى 400%، أو ما يعادل نحو 14 ألف قطعة سلاح.
فيما قال مصدر كان رفيع المستوى سابقاً في الجيش، لرصيف22، فضّل عدم الكشف عن هويته، إنَّ الأردن مديون بـ40 ملياراً؛ لذا فإن إعادة التجنيد مجرد وهمٍ يرغب فيه الإخوان المسلمون، ولن يتم لا هو ولا الجيش الشعبي، مضيفاً: "الحرب في غزة آخرتها تنتهي".
وكشف استطلاع للرأي أجراه مركز الدراسات الإستراتيجية في الجامعة الأردنية، أن الغالبية العظمى من الأردنيين (72%)، ومن أفراد عيّنة قادة الرأي (77%)، يعتقدون أنه تجب إعادة العمل بخدمة العلم.
ويبقى السؤال مطروحاً عن سبب تأجيل الخدمة العسكريّة الإلزاميّة في الأردن منذ عام 1992 وحتى الآن، في الوقت الذي نُعدّ فيه على خطّ المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، وذلك مع التزام كل من مصر وسوريا بالخدمة الإلزاميّة وتجهيز الشبان لما هو قادم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...