في عام 2015، تقدّم العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، وقرينته الملكة رانيا العبدالله وعشرات الرؤساء والقادة والملوك مسيرةً تضامنيةً في باريس مع ضحايا الهجوم الذي تعرضت له مجلة "شارلي إيبدو" الهزلية الفرنسية جراء نشرها رسوماً اعتبرت مسيئةً للنبي محمد، راح ضحيته 12 من العاملين فيها.
كانت رسالة القادة العالميين واضحة في الدفاع عن حرية التعبير والإبداع وبالتحديد "السخرية". لكن وعقب مرور نحو ثماني سنوات، لم تتحمّل الحكومة الأردنية الحسّ النقدي الساخر لـ"شبكة الحدود"، فقامت بحجب موقعها في البلاد دون إعلانٍ رسمي أو توضيح الأسباب.
عن الحدود
و"الحدود" هي منصة إبداع عربي تقدم محتوى إعلامياً عربياً ساخراً، توظّف فيه الكوميديا لتسليط الضوء على القضايا الحساسة في منطقة الشرق الأوسط خصوصاً في ما يتعلق بقضايا السياسة والاقتصاد والدين والحقوق والحريات، إضافة للقضايا الاجتماعية التي يعيشها الشباب في حياتهم اليومية.
تأسست الشبكة عام 2013 على بمجهود تطوعي، قبل أن تتحوّل خلال بضع سنوات لشبكة إقليمية واسعة يضم فريقها 19 كاتباً/ة ومحرراً/ة ومبرمجاً/ة، إضافة إلى شبكة واسعة من الكتّاب ومصمّمين والرسّامين من 18 دولة.
"تصعيد من الحكومة الأردنية وتقييد لمساحة الحريات حتى على مجرد السخرية"... الأردن يحجب موقع شبكة الحدود الساخرة دون إعلان رسمي أو توضيح للأسباب، علماً أن تغطية الشبكة الأخيرة في البلاد تركزت على "الزفاف الملكي"
وتصر "الحدود" على أنها تلتزم بأقصى درجات المهنية والحياد والمرونة التي توفرها السخرية المستخدمة لإنتاج المحتوى الإبداعي، وأنها تتطرق من وجهة نظر الشباب لقضايا حساسة عادة ما يتجنبها الإعلام التقليدي، بما يجعلها ‘منصة إعلام مستقل‘، يناقش القضايا الإقليمية الهامة والحساسة".
وخلال عقدٍ من العمل المستمر، نشرت الحدود أكثر من 6,000 مقال ساخر ورسم كاريكاتوري، والعديد من الفيديوهات والأفلام، وصلت بها لأكثر من 40 مليون قارئ عربي، 80% منهم ضمن الفئة العمرية من 18 إلى 34 عاماً. كما أقامت حفل جائزة الحدود للصحافة العربية ست مرات.
وقد أثارت الحدود اهتمام وسائل إعلام عربية وعالمية ناقشت وحللت تجربتها مثل "بي بي سي" و"الغارديان" و"دويتشه فيله". وترشّحت لعدة جوائز صحافية إعلامية إقليمية وعالمية، وفازت بجائزة One World Media عن الفئة الخاصة عام 2018.
ومنذ عام 2016، تقدّم الشبكة "جائزة الحدود للصحافة العربية (جحُصع)" لإشراك القارئ العربي في مراقبة المحتوى الإعلامي بشكل مستمر من خلال تسليط الضوء على مشاكل الإعلام المهنية وانحيازه لأجندات وتحول المنابر الإعلامية لأدوات تملّق وابتزاز، إضافة إلى اهتمام الناشر بجذب الزوار على حساب جودة المحتوى.
ما سبب الحجب؟
وعن ملابسات حجب الشبكة في الأردن، أشار مصدر من الحدود في مقرها بلندن، لرصيف22 مفضلاً عدم ذكر اسمه، إلى أنه قبل أسبوع تقريباً وردت عدة ملاحظات من القرّاء تتعلق بصعوبة الوصول إلى موقع الشبكة في الأردن، ليتواصل الفريق مع منظمات تعمل في مجال حقوق الانفتاح التكنولوجي، ويتأكد من حجب الموقع في البلاد بقرار حكومي.
لم تُعلن الحكومة الأردنية رسمياً حجب "الحدود" داخل أراضيها أو تشرح السبب لذلك. ولا يرى المسؤولون عن "الحدود" أن تغطياتهم الأخيرة للقضايا في المملكة الهاشمية اختلفت بأي حال عن تغطياتهم السابقة للقضايا الاجتماعية والسياسية في البلاد. علماً أن مصدرنا في الموقع أشاد في حديثه مع رصيف22 بـ"تقبّل" تغطيات ساخرة سابقة تتعلق بالعائلة المالكة.
ولاحظ رصيف22 أن تغطية "الحدود" الأخيرة للمواضيع المتصلة بالأردن كانت قد تركزت على الزفاف الملكي لولي العهد الأردني الأمير الحسين بن عبد الله الثاني على الأميرة السعودية رجوة آل سيف، من خلال عدة منشورات أبرزها انتقاد فكرة منع الاحتفالات بالتزامن مع العرس الملكي، من خلال نشر مادة ساخرة تعلّق على القضية من منظور أنّ السلطات الأردنية ستفرض غرامات وعقوبات على أولئك الذين لا يعبرون عن سعادتهم خلال فترة العرس الملكي سواء أكانوا أطفالاً أو مسنين أو شباب أو حتى أطفالاً.
وفي رسم كاريكاتيري للفنانة البحرينية سارة قائد بعنوان "أفراح"، ظهر ولي العهد وعروسه ومن خلفهما رجال وأطفال في الزي التقليدي الأردني يحملون حقائب ويقتطعون من ملابسهم ويلقون على العروسين، على غرار إلقاء الورود، في إشارة على ما يبدو إلى أن نفقات الزفاف الملكي اقتطعت من الميزانية العامة وأموال الشعب.
وسبق للموقع تناول قضايا حساسة في الأردن مثل ملف وثائق باندورا وتقارير "هيومن رايتس ووتش" عن حالة حقوق الإنسان في الأردن، إضافة إلى تسليم السلطات الأردنية معارض إماراتي لبلاده أثناء وجوده في عمّان، وغيرها من القضايا التي عادة ما يُعتّم عليها إعلامياً وتتجنّب الصحافة المحلية التطرّق لها لـ"دواعٍ أمنيّة".
وتوضح الحدود أن قرار الحجب سيؤثر عليها لأن الأردن واحد من أكثر 10 دول تشهد الشبكة رواجاً فيها، في حين يبقى "التأثير الأكبر على الأشخاص في الأردن والمؤسسات العاملة هناك على أساس أن هذا تصعيد من الحكومة الأردنية وتقييد لمساحة الحريات حتى على مجرد السخرية، ما يعني أن الصحافة ستتضرر من هذا الشيء".
وتتعهد الحدود بأنها ستسعى إلى إيجاد بدائل مناسبة للوصول إلى جمهور الشبكة في الأردن بينما تضيف أنها ستعلّق على خبر الحجب وتتعامل معه "بطريقتها المعتادة - السخرية"، نافيةً محاولتها التواصل مع الحكومة الأردنية لرفع الحجب في الوقت الراهن.
إقدام الحكومة الأردنية على حجب شبكة الحدود "مقلق من جميع النواحي" سيّما وأن الأردن "طالما سمح بمتنفس لا بأس به للحريات وللسخرية"
وأشارت الحدود ختاماً إلى أن إقدام الحكومة الأردنية على هذه الخطوة "مقلق من جميع النواحي" سيّما وأن الأردن "طالما سمح بمتنفس لا بأس به للحريات وللسخرية"، وهو ما تعتبر أنه يشهد تراجعاً اعتباراً من 2013 حيث تكررت حوادث حجب مواقع مثل درج، وسجن أشخاص بسبب التعبير عن الرأي.
"خنق الابتسامة"
وفي تصريح لرصيف22، يعتبر المسؤول الإعلامي في مؤسسة سمير قصير المعنية بحرية الصحافة والتعبير، جاد شحرور، إن حجب "الحدود" في الأردن "يأتي في سياق نهج الأنظمة القمعية بالبلاد العربية"، مشيراً إلى "عدم تقبّل" الأردن على نحو خاص بعض أعمال الكاريكاتير للرسام الأردني الشهير عماد حجاج في السنوات الأخيرة.
"الأنظمة متجهمة عابسة تعتقد أن خنق الابتسامة سيقوي من عضدها وسيعيد إليها هيبة لم تستحقها يوماً".
واستذكر شحرور كيف تضامن ملك الأردن وقرينته عام 2015 مع صحيفة شارلي إيبدو الهزلية في فرنسا ضد الهجمات الإرهابية بسبب نشرها رسوماً اعتبرت مسيئة للنبي محمد، بينما تقرر حكومته حجب "الحدود" الآن.
واعتبر أن ذلك "يطرح علامات استفهام" ويفيد بأنه "نحن مع الأعمال النقدية والساخرة إذا ما بتطال الأردن. وإذا بتطال الأردن رح نحجبها. هذا دليل على نهج قمعي".
وسجّلت "سمير قصير" حجب "الحدود" كأحدث انتهاك لحرية الصحافة والتعبير في الأردن الذي شهد سبعة انتهاكات أخرى منذ بداية العام الجاري بدأت بمنع مجلس النواب الأردني الإعلام من تغطية اجتماعات مناقشة الموازنة العام في كانون الثاني/ يناير الفائت، مروراً بالاعتداء بالضرب على المصور الأردني أمير خليفة خلال تغطيته اجتماعاً نقابياً، واقتحام "مجهولين" مكتب قناة وسط البلد الأردنية وتحطيم محتوياته، ومنع محافظ عمّان عرض مسرحية للفنانة الفلسطينية رائدة طه.
هذا بالإضافة إلى محاكمة الكاتب والصحافي أحمد الزعبي في قضية "حق عام"، ومنع البرلمان الأردني الإعلام مجدداً من حضور وتغطية جلسة البت في قضية النائب عماد العدوان الذي اعتُقل سلفاً في إسرائيل ووجهت إليه تهم تهريب أسلحة وذهب إلى الضفة الغربية المحتلة، وأخيراً الهجمات الإلكترونية التحريضية ضد المحامية والحقوقية هالة عاهد بسبب عقدها ندوة تعريفية بالفكر النسوي.
وعبر حسابها في تويتر، انتقدت الصحافية اللبنانية ديانا مقلد حجب "الحدود" في الأردن، واصفةً إياه بأنه "موقع ساخر ظريف يقارب التناقضات السياسية والاجتماعية في المنطقة العربية بأسلوب مازح". ثم استدركت بالقول: "لكن الأنظمة متجهمة عابسة تعتقد أن خنق الابتسامة سيقوي من عضدها وسيعيد إليها هيبة لم تستحقها يوماً".
وأعربت عن "التضامن الكامل" مع "‘الحدود‘ ومع الساخرين والساخرات في المنطقة العربية الذين منهم من طرد ومنهم من قُتِل، وآخرون في السجن لتغيب الابتسامات الساخرة ويبقى لنا ثقل ظل الزعماء والقادة وخفّتهم التي لا تُحتَمل".
وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، عبّر مواطنون أردنيون عن عدم تقبلهم منشورات "الحدود" حول الزفاف الملكي واعتبروا أنها "مبالغ فيها" وأحياناً "مسيئة للأردنيين" لا العائلة الملكية فقط بإظهارهم بصورة اعتبروها مهينة تنم عن "الخضوع". ومع ذلك تمنّى البعض منهم أن تتراجع السلطات الأردنية عن قرار الحجب باعتبار أن قرار الإقصاء يعكس موقفاً متشدداً ولا يتناسب مع عصر التكنولوجيا.
وفي مبادئها الـ11 المعلنة عبر موقعها الرسمي، تقول الشبكة الساخرة "نسخر من الطرف الأقوى ونتفادى دائماً استغلال الطرف الأضعف" و"نتعامل مع السخرية بحذر شديد لأن السخرية أداة خطرة قد يُساء فهمها بسهولة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...