في أثناء عبور الدبلوماسي المصري محمد كمال الدين صلاح، الشارع أمام بيته في العاصمة الصومالية، مقديشو، في 16 نيسان/ أبريل عام 1957، هجم عليه مواطن صومالي، وطعنه في ظهره طعنات عدة، فارق على إثرها الحياة، مختتماً ثلاث سنوات من النضال من أجل استقلال الصومال.
الرحلة إلى مقديشو
وُلد كمال الدين في القاهرة عام 1910، والتحق بالسلك الدبلوماسي عام 1936، وكان نصيبه من العمل الدبلوماسي حافلاً، وفي محطات فارقة، بدءاً من تعيينه في البعثة المصرية في القدس عام 1936، في أثناء الثورة العربية الكبرى، ثم محطته الثانية في اليابان إبان الحرب اليابانية-الصينية الثانية، ومنها إلى بيروت ليشهد الحرب العالمية الثانية. كما عمل في الولايات المتحدة والأردن وسوريا واليونان وفرنسا، في وقت كانت الأحداث السياسية الداخلية فيه مشتعلةً في تلك الدول، بحسب كتاب "مؤامرة في إفريقيا" لأحمد بهاء الدين، الذي قدّم قصة كمال الدين في الصومال.
انتقل إلى مقديشو، عام 1954، ممثلاً لمصر في المجلس الاستشاري للوصاية على الصومال. شكلت الأمم المتحدة المجلس عام 1950، بعد وضع الصومال تحت الوصاية لمدة 10 أعوام، تحصل بعدها على الاستقلال. وعُهدت إلى إيطاليا، المستعمِر السابق، إدارة السلطة في فترة الوصاية، بمعاونة المجلس الاستشاري الذي ضمّ مصر وكولومبيا والفلبين.
ارتبط الدبلوماسي المصري بالشعب الصومالي، وكوّن صلات بمختلف أطياف المجتمع. كتب في رسالته الأولى لأصدقائه شارحاً أحوال الصوماليين الاقتصادية والسياسية: "هؤلاء الفقراء الذين يسكنون العراء، ويأكلون من صيد الغابات، يتقدمون في فهمهم السياسي والقومي بشكل عجيب".
ارتبط الدبلوماسي المصري بالشعب الصومالي، وكوّن صلات بمختلف أطياف المجتمع. كتب في رسالته الأولى لأصدقائه شارحاً أحوال الصوماليين الاقتصادية والسياسية: "لكن هؤلاء الفقراء الذين يسكنون العراء، ويأكلون من صيد الغابات، يتقدمون في فهمهم السياسي والقومي بشكل عجيب. ففي أقصى الغابات نجد واحداً عنده 'راديو بطارية'، يستمع منه الآخرون إلى نشرات الأخبار. لقد وجدناهم يعرفون أخبار مصر معرفةً دقيقةً؛ إنهم يتابعون معاهدة الجلاء، والحلف العراقي التركي، وسفر جمال عبد الناصر إلى مؤتمر باندونغ. إنهم يتعلقون بمصر تعلقاً شديداً أكثر من أي دولة أخرى وينتظرون منها أن تساعدهم".
ذكر المؤرخ الصومالي محمد عيسى، في كتابه "الصومال: التاريخ غير المحكي"، عن كمال الدين صلاح التالي: "كان نشيطاً ومتداخلاً مع الشعب الصومالي، وكثير الترحال والسفر لمختلف أنحاء الصومال، ومتفهماً لهمومهم ومطالبهم حينها، وكان لاعباً سياسياً مهماً في الصومال فتره منتصف الخمسينيات".
نقل الكاتب أحمد بهاء الدين، في كتابه عن أوراق كمال الدين صلاح، شرحاً وافياً لتعقيدات مصالح الدول الكبرى، ومعها إثيوبيا في الصومال؛ فالمستعمر السابق، إيطاليا يريد أن تظل تلك البلد بخيراتها وموقعها المهم تحت إدارته، كما أنه يسعى إلى الحفاظ على مصالح الجالية الإيطالية المقيمة فيها، والتي تحتكر كل المشروعات الكبرى سواء في الزراعة أو التجارة أو الصناعة. أما الإنكليز فكانت لديهم رغبة في السيطرة على الصومال الإيطالي وضمّه إلى الجزء الواقع تحت سيطرتهم (صوماليلاند).
كما طالبت إثيوبيا على مدار عقود، بضم الصومال إليها، وقدّمت اقتراحاً بذلك في أثناء مناقشات الأمم المتحدة حول وضع الصومال عام 1950، وكانت قد حصلت على تبعية منطقتي هرر وأوجادين الصوماليتين إليها بموافقة الدول الكبرى عام 1887. ومع انسحاب الوجود العسكري البريطاني من شرق إفريقيا عام 1955، مُنحت إثيوبيا إدارة إقليم أوجادين وهرر، بدعوة من الولايات المتحدة.
كتب كمال الدين صلاح، في أوراقه: "الجارة إثيوبيا مرتبطة إلى حد بعيد بالسياسة الغربية عموماً، والأمريكية بوجه خاص، فضلاً عن أن لها مطامع إقليميةً في الصومال؛ فإثيوبيا كانت تسعى لتوحيد الصومال معها كما فعلت مع إريتريا".
مواجهة القوى الاستعمارية
في ظل تلك الظروف بالغة التعقيد، ومحاولات القوى الاستعمارية وأد تجربة الاستقلال في الصومال، عمل كمال الدين صلاح على دعم الصوماليين، وإنجاح تجربة انتقالهم إلى الاستقلال، فتم اتهامه بالعمل على بسط النفوذ المصري على الصومال. دفعت القوى الاستعمارية بعض الصوماليين الذين ضمنت ولاءهم، إلى التقدم بشكاوى ضد مصر ومندوبها في مجلس الوصاية إلى الأمم المتحدة. تلقفت جريدة "نيويورك تايمز" الأمريكية الأمر، ونشرت تقريراً تحت عنوان "الصوماليون يطلبون من الأمم المتحدة إيقاف مصر عند حدّها"، وكان ذلك بغرض الإساءة إلى مركز القاهرة في الصومال، أمام الرأي العام الدولي.
خلال وجوده في نيويورك، أبدى كمال الدين صلاح، رأيه أمام مجلس الوصاية قائلاً: "من واجبي رعاية مصالح الصوماليين، والدفاع عن حقوقهم، ولقد كلّفوني بأن أبدي وجهة نظرهم للمجلس في موضوع الحدود، وقدّموا لي من الأدلة والبيانات ما أقنعني، وأنا في هذا كالمحامي الذي يوكله شخص للتكلم باسمه أو الدفاع عنه أمام المحكمة، فلم يكن في وسعي والحالة هكذا أن أتخلى عنهم أو أخونهم وقد ائتمنوني على حقوقهم".
كانت إيطاليا كونها دولة الوصاية، هي الأسبق في معاداة الدبلوماسي المصري، نظراً إلى دوره في تحريض الصوماليين على الخروج من عباءة المستعمر. في أثناء استعمار إيطاليا الفاشية للصومال، كان تكوين الأحزاب ممنوعاً.
كانت إيطاليا كونها دولة الوصاية، هي الأسبق في معاداة الدبلوماسي المصري، نظراً إلى دوره في تحريض الصوماليين على الخروج من عباءة المستعمر. في أثناء استعمار إيطاليا الفاشية للصومال، كان تكوين الأحزاب ممنوعاً، وعندما خرجت القوات الإيطالية من الصومال خلال الحرب العالمية الثانية، بعد دخول القوات البريطانية، سُمح للصوماليين بتكوين الأحزاب السياسية لأول مرة. كانت أكبر الأحزاب في الصومال ثلاثة: أولها حزب الشباب الصومالي، وهو أكبر الأحزاب وأقواها وأكثرها تنظيماً، ونفوذه منتشر في أنحاء الصومال كلها، يليه حزب دجل ومرفلة، وهو حزب يعتمد في نفوذه على القبيلة الكبيرة التي تحمل هذا الاسم، ثم حزب شباب بنادر، ونفوذه يقتصر على المدن الصومالية، كما دعمت إيطاليا تشكيل الحزب الديمقراطي الموالي لها.
سعى رجل وزارة المستعمرات الإيطالية في زمن الفاشية، والمسؤول عن إدارة الصومال في زمن الوصاية، الدكتور فرانكا، إلى مواجهة الحياة السياسية المعادية لبلاده، عبر إذكاء روح المنافسات والخصومات بين القبائل، وابتكار نظم انتخابية تقوم على القبيلة لا الأحزاب السياسية.
قاوم كمال الدين صلاح، محاولات فرانكو، وعمل على إفساد مخططاته، وانتهز فرصة انعقاد الدورة الرابعة عشرة لمجلس الوصاية، وطالب بأن تكون الانتخابات كلها على درجة واحدة، فوافق المجلس على مقترحه، وأصدر قراراً بأن تعمل الإدارة على تعميم الانتخابات وفق الاقتراع العام المباشر في جميع البلاد بأسرع وقت ممكن.
التصدي لخطط إيطاليا
في شباط/ فبراير 1956، أُجريت الانتخابات الصومالية، فاكتسحها حزب الشباب الصومالي (SYL)، وحصد 43 مقعداً من إجمالي 60 مقعداً، تنافست عليها الأحزاب. أما الحزب الديمقراطي المحسوب على الإدارة الإيطالية، فلم يحصد سوى ثلاثة مقاعد. أدت جهود كمال الدين صلاح، إلى هزيمة إيطاليا في الصومال، وهو ما جعل الإدارة الإيطالية تتحرك للتخلص من المندوب المصري في مجلس الوصاية، حتى تستتب لها الأمور. عملت الإدارة على التخلص من المجلس الاستشاري للوصاية التابع للأمم المتحدة بالكامل، حتى لا تظهر وكأنها تريد التخلص من شخص واحد أو دولة بعينها. قدّمت إيطاليا حجةً مفادها أنّ الصومال لم يعد في حاجة إلى المجلس بعد الانتخابات، التي على إثرها ستتشكل الجمعية التشريعية والحكومة.
أدت جهود صلاح إلى هزيمة إيطاليا في الصومال، وهو ما جعل الإدارة الإيطالية تتحرك للتخلص من المندوب المصري في مجلس الوصاية. مقتل الدبلوماسي المصري لم يكن مجرد جريمة جنائية، بل هو اغتيال سياسي مُدبّر.
قرر كمال الدين، خوض المعركة الجديدة لصالح الصوماليين، كعادته منذ أن وصل إلى مقديشو، وجهز الحجج لإفساد محاولة الإيطاليين، وأبدى اعتراضه الكلي على هذا المقترح، مؤكداً أنّ وجود المجلس الاستشاري جزء من نظام الوصاية الذي فرضته الأمم المتحدة على الصومال.
وقال، بحسب أوراقه التي نشرها أحمد بهاء الدين في كتابه: "إذا صح القول بأن الصومال الآن قد أصبح لديه برلمانه وحكومته، وأنه ليس في حاجة إلى مشورة أو توجيه من المجلس الاستشاري، ألا ينطبق نفس المنطق على الإدارة الإيطالية نفسها؟ ولماذا لا تنسحب الإدارة الإيطالية مع المجلس الاستشاري وتترك البلاد لأهلها؟". نجح الدبلوماسي المصري في إفشال خطة الدول الكبرى لانفراد الإدارة الإيطالية وحدها بالصومال، وبقي المجلس الاستشاري الأممي.
اغتيال كمال الدين
بعد فشل الحيل السياسية للتخلص من كمال الدين صلاح، لم يبقَ سوى إزاحته بالموت. تحت عنوان "يجب محوه من الوجود"، يقول بهاء الدين في كتابه: "مرت سنة واثنتان وثلاث سنوات، وأدركنا سنة 1957 أن كمال الدين يحارب في كل الجبهات، والمتآمرون لم تفتر همتهم، وهو بالمثل لم تفتر همته، ولما تصاعدت أزمة الحدود الصومالية مع الجارة الإثيوبية، قررت الأمم المتحدة عرض القضية على الدورة التي سيعقدها مجلس الوصاية بمدينة نيويورك في نيسان/ أبريل 1957، وقرر كمال الدين صلاح السفر إلى الولايات المتحدة ليشرح وجهة نظر المجلس والشعب الصومالي".
لم يكن يفصل عن موعد السفر سوى أيام، عندما كان الدبلوماسي كمال الدين صلاح عائداً إلى بيته من القنصلية المصرية في مقديشو، مساء يوم 16 نيسان/ أبريل، فهجم عليه شاب صومالي في يده سكين طويلة، وظل يطعنه بها حتى سقط على الأرض مضرّجاً بدمائه، ليسلّم الروح بعد وصوله إلى المستشفى.
ينقل بهاء الدين عن التحقيق الرسمي الذي أجرته النيابة العامة الإيطالية والبوليس في مقديشو: "القاتل محمد شيخ عثمان، شاب في حوالي الثلاثين من العمر، حاد الطبع، كان طالباً في إحدى البعثات الصومالية بمصر خلال عامي 1953- 1954، لكن طباعه الشاذة جعلت زملاءه بالبعثة يضيقون به، وانتهى الأمر بإعادته إلى الصومال".
لكن مقتل الدبلوماسي المصري لم يكن مجرد جريمة جنائية، بل اغتيال سياسي مُدبّر، وهو ما دعمته شهادات العديد من كبار رجال الدولة الصومالية والمؤرخين بعد سقوط نظام سياد بري عام 1991.
في مذكراته بعنوان "نضال ومؤامرة"، اتهم الرئيس السابق للصومال الفيدرالية، عبد الله يوسف (2004-2008)، الرئيس الصومالي السابق محمد سياد بري (1969-1991)، بالضلوع في حادث مقتل كمال الدين صلاح، عام 1957. يقول في مذكراته: "كنت عضواً في اللجنة التي شُكلت للتحقيق في الجريمة التي ترأسها سياد بري الذي كان آنذاك قائداً لشرطة العاصمة. وقد توصلت في النهاية لمعلومات خطيرة كانت تدين بري، بأنه تساهل في حماية مقر سكن كمال الدين، وبعد الانتهاء أخذ سياد بري ملف التحقيق الكامل الذي يدينه هو وإحدى الشخصيات السياسية المعروفة التي حَرّضت القاتل وقام بإتلافه".
يتفق الجنرال جامع محمد غالب، مع ذلك، ويشير بإصبع الاتهام هو الآخر إلى محمد سياد بري، قائد قوات شرطة مقديشو، والنائب في البرلمان عبد القادر زوبي. يقول جامع في كتابه "ثمن الدكتاتورية": "كان سياد بري مشتبهاً في ارتباطه بالعديد من الأنشطة المريبة التي بلغت ذروتها في جريمة قتل كمال الدين صلاح، في مقديشو عام 1957، حيث تم سحب حرس الشرطة من منزل الدبلوماسي المصري قبل اغتياله بساعات، وحسب ما أستطيع أن أقول، فهو الوحيد الذي كانت لديه سلطة سحب الحراس الشخصيين من الدبلوماسيين الأجانب".
أما المؤرخ محمد عيسى، الذي حضر جلسات محاكمة القاتل والمتهمين الآخرين، فأشار في مقابله مع شبكة "Hanoolato"، إلى أن جلسات المحاكمة كانت قضية رأي عام واسعة، تابعها أغلبية الصوماليين عبر إذاعة مقديشو. وأضاف أنّ جلسات المحاكمة طالت، دون التوصل إلى نتيجة نهائية تدين شخصيات أخرى ما عدا القاتل، وخلصت المحكمة إلى اتّهام القاتل فقط.
ولكن الغريب في الأمر نهاية القاتل؛ فبعد الحكم عليه بالسجن المؤبد، وُجد مقتولاً في زنزانته في أثناء فتره الوصاية الإيطالية، وقبل الاستقلال بأعوام قليلة، ما يثير شكوكاً كبيرةً حول ضلوعهم في الجريمة.
تكريماً للدبلوماسي المصري الذي ناضل في سبيل استقلال الصومال، منح أول رئيس للبلاد بعد الاستقلال، آدم عدي، الجنسية الصومالية لعائلته عام 1964، وأطلق اسمه على أحد أهم شوارع مقديشو المؤدية إلى القصر الرئاسي "فيلا صوماليا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 18 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع